من عزيز الحاج الى الامبراكونيا(2 مكرر2)


عبدالامير الركابي
2017 / 8 / 25 - 15:04     


هزمت "القيادة المركزية"، كما هزمت قبلها باشهر،تجربة الكفاح المسلح في الاهوار، جنوب العراق 1967/ 1968 . الا ان الهزيمتين ومااحاط بهما، وتمخض عنهما من سلوك، ومن تعبير، انطوى على حقيقة، اثبتت انتماء الحالة الناشئة وقتها، وبما في ذلك الظرف الذي اوجبهما في حينه، لحقبة وزمن تاريخي آخر،مازال قيد التشكل، وفي حين احتفت الوطنية الايديلوجية المستعارة وبقاياها فرحة، بما آلت اليه التجربتان، بالاخص موقف "عزيز الحاج" سكرتير القيادة المركزية على شاشة التلفزيون، ليتحول لمجال احالة ومقارنة بتاريخ من "البطولات"، والمواقف الصلبة، المستحضرة بقصد الطعن، او الحط من حزمة، او قائمة من "المحرمات" المتصلة بحسب ترسانة وعي هؤلاء، ب "التطرف"، و" التياسر"، و" قلة النضج"، وانعدام الصبر "وضيق الصدر"، بمواجهة الظروف الموضوعية واحكامها القاسية، حيث التطرف الاقصى البطولي، مثاله الموت تحت التعذيب، او قبول التدلي على حبال المشانق، بغض النظر عن علاقة الموت بالصوابية، او بالتلبيه الحقة لنداء التاريخ وصوته النابع من تضاعيف الواقع.
غير ان ظاهرة التشفي، لم تكن قد اتخذت بعدا يدل على اصرار الطرف الايديلوجي، على المبالغة في اثبات صوابية رايه، اولا، لان المزاج العام، لم يكن مهيئا لتقبل هذه النغمة الكريهة، والعواطف بالاجمال كانت اميل شعبيا للشعورالعميق بنكسه مأساوية محزنة، بالاخص وان التيار الشيوعي التصفوي الايديلوجي، قد مال للاندراج ضمن الصيغة الحزبية للدولة الثانية المصممة بناء على التدبير الغربي المرسوم لضبط الاوضاع في العراق، والمرتكز على "الحزب العقائدي" كقاعدة لازمة، بالأخص وقد لاحت نذر التوجه لحمل السلاح من قبل "شيوعيين"، ماقد ترك في الاذهان اعتقادا عميقا، بان ماحدث للهبّة اليسارية في حينه، وماآلت اليه، هو نوع من هزيمة لاتخلو برغم ذلك من رائحة الانتصارالمعنوي، وانها اكملت مع جموح ثورة 14 تموز1958 ، المتعدي للسقف الدولي المتاح، عوامل اجبار "المجتمع الدولي" وقوتيه النافذتين الاكبر، على اعتماد صيغة تتعدى العسكريين وانقلاباتهم المعتمدة لضبط الاوضاع في العالم الثالث، ليتم اختيار صيغة الحزب العقائدي/ النفط، كصيغة خاصة، لايتأمن ادراج العراق "الجامح" ضمن الايقاع الدولي المقبول، من دونها، الامر الذي برر وقتها، واوجب صيغة انقلاب 17/30 تموز1968، كوصفة لبلد غير عادي، واقع على حافة بئر النفط العالمي، ويتمتع بموقع حساس استراتيجيا، دينامياته الوطنية، متفوقة على قدرة القوى العالمية النافذة على الضبط بالوسائل التقليدية.
كانت " الوطنية الثانية" من جهة اخرى، قد بدات تلوح في الافق، متجاوزة على، ومستهينة بقيم وثوابت الوطنية الايديلوجية الفارغة، المركبه كنموذج بالغ المخالفة للمنطق، من قبيل مثلا احتساب قيمة ثابته مطلقة، تبرر الموت من اجل مباديء مستعارة، قرات في المعاهد خارج العراق، لم يسبق ان اختبرت واقعيا، الامر الذي يضع الموت في سبيلها في خانة المرض المازوخي او الاختلال العقلي( بغض النظر عن حقيقة وتفاصيل محاكمة وموقف "فهد" الفعلي )، ماجعل هذا النوع من المفاهيم، يقف عاجزا، الى الان عن معاملة "عزيز الحاج" على موقفه بصراحة وقطعية " كخائن"، فلقد انتهى زمن " مالك سيف " و " ساسون الدلال"، والفارق بين الاختبار والموقف الملتبس ل(فهد وسلام عادل)، مقابل تهافت النظرية في الاختبار العملي وتراجعها المطرد والكارثي، ازاء السؤال البديهي الضمني المستجد وقد بدا يترائى وقتها، هو "خائن لمن؟ ولماذا ؟"، فهو خارج من حزب، ظل يتبى نفس نظريته، لانه مايزال عاجزا، لايملك مخالفته على قاعدة مباديء اخرى، يراهن على انها ستتبلور فيما بعد، اي انه قرر ان "يكفر" قبل الاوان، وليس من حق احد ان يحاسبه على شجاعته، بعد ان جازف، ومن معه وعلى شاكلته، متخذا موقفه قبل اكتمال عدته التصورية، مستجيبا فقط لحافز الحدس التاريخي الوطني المضاد للايديلوجيا، لايجد انه مكلف بالموت لاجل نظرية لم تعد ثابته في عقله ووجدانه، واخرى منتظرة لم تصبح قانونا بعد.
والحكم نفسه ينطبق على كل من مارسوا الانفصال عن الكيان الايديلوجي، متخبطين باحثين ومستهينين في العمق بقدسية "الحزب والمباديء المنقولة"، بما انها بنظرهم لاتستحق ان تكون مباديء، بقدر ماهي كتلة ممارسات ظرفية، مضادة في الجوهر لمايمكن الاعتراف بمبدئيته، ذلك مع ان مايحدد نهائيا الحكم بهذا الخصوص،الفارق المفترض بين حكم "المحطة" وقانون "الوجهه"، بما يعني فارقا زمنيا بين اللحظتين، قد يستغرق نصف قرن، لن يكون من البديهي خلالها ابدا، الاعتقاد، الا في دواخل قلة نادرة، ان العراق كان قد دخل من يومها، عصر الانتقال من "الوطنية الببغاوية المنقولة الغربية" الى "الوطنية الذاتية".
وستتعدد هنا الوان لاتحصى من المواقف والتوجهات والخيارات اللاحقة، لم تكن تمثل، لكنها ستكون يوما ما، محط اهتمام الابداع والجموح العقلي العظيم، مع انها استحقت وهي في حالتها الفجة الاولى التفاتة عبرشخصية "مهدي" في رواية "وليمة لاعشاب البحر"، للسوري "حيدر حيدر"، غير ان نموذجا مثل "عزيز الحاج"، قد ثبت انه لايملك ان لايواكب جانبا متفقا مع مايملك الخوض فيه، من الايقاع الذي يمكن ان يشكل سلوك ومنجر تراكم المنظور مابعد الغربي، المبتدء مع انشقاق "القيادة المركزية" وتجربة الكفاح المسلح في اهوار الجنوب 1967/1968، ولو انه لم يكن جديرا بملامسه اعتاب المهمة المستجدة، فظل يكتب، بما هو متاح له على تواضعه، مواكبا بلا توقف، فاستمر حاضرا يحاجج ،اكثر من اي من اعضاء قيادة الحزب، الذي كان قد انشثق عليه.
هذا في حين تنقل الحزب المذكور، من الوقوع تحت قيادة مجموعة تصفوية مناطقية، الى التحالف المصيري / حسب مواقف ووثائق الحزب نفسه/مع نظام صدام حسين، الى العمل على تصفية بقايا الحزب، بمن تبقى ممن يمثلون او يذكّرون بالدرجة الادنى من الصلة بمجتمع الوطنية واللادولة، موضع نشاة الحزب، واكتسابه موقعه الشعبي والتاريخي. الى ان نفذت عملية التصفية الثانية، الشبيهة بتصفية 8 شباط عام 1963 والمكملة لها،في المؤتمر الرابع للحزب في كردستان عام1985. ليصبح مملوكا لجماعة من اللصوص والاغوات الاكراد، بامتداد عربي شكلي، الى ان وقف هؤلاء مع الحصار الاقتصادي الامريكي المفروض على شعبهم 1991/ 2003 مدللين على حقد اسود، وعدمية لاوطنية، فرفعوا شعارهم المخزي، المتذاكي، المكرس للحصار والمبررله، بدليل عملي صارخ، تمثل في تاييد الغزو الامريكي، والاحتلال التدميري، والمشاركة المشينة في اول صيغة حكم، اقامها المحتلون الامريكان، بعد ان سحقوا الدولة الحديثة العراقية، واطلقوا عليها اسم "مجلس الحكم"، فاذا بالرفاق حملة راية "الصراع الطبقي والثورة" العتيد، اعضاء ضمن صيغة سياسية طائفية، عادوا ليتقلبوا لاحقا الى مدعي اصلاح لها من الداخل، وجناح مطالبة ب"دولة مدنية"، انما تحت راية رجل دين، وزعيم تيار ديني كاسح، بانتظار حلقة اخرى، ان ظلت من حلقات، اوعتبات يمكن ان تاخذهم انحدارا، نحو مزيد من التردي الذي لاقرار له.
هكذا يتصرف "الصامدون ... الذين يموتون من اجل المباديء" اصدقاء الحاكم المدني الامريكي / بريمر" بلا سقف ولاحدود للدجل واللعب بالمباديء، بحيث يخطر لهم كثوريين " جيفاريين" يتمتعون بدفء حضن الاحتلال الامريكي الذي دمر العراق، وقتل جيفارا من قبل، و كاعضاء في"العملية السياسية الطائفية" الامريكية، ان يحتفلوا يوم 28/5 من كل عام، بانتفاضة الغموكة المسلحة، !!!!! فاي درك من التردي الاخلاقي المعيب، الخارج عن اي حدود، تمارسه قوة متهالكة على جميع الصعد، تجروء على احياء مناسبة، قامت اصلا ضدها، وبوجهها وكنفي لها، وكمؤشر على بدء خروجها من التاريخ، وهي احدى علامات التاسيس لما بعدها، بحيث تستعمل شخصا هاربا من المعركة، كان يعمل طباخا للمقاتلبن، لاعلاقة له بالامر، جاء يبحث عن مأوى، لانه هارب من السجن، انكشف مكان اختبائه، وتسبب بانكشاف بيت حزبي، حكم علية بالخطأ، قضى 35 سنه تحت حكم البعث، لم يحرك خلالها ساكنا في سبات لا يحسد عليه، فلم يتذكر النضال على الاطلاق، بعد ان قدم تعهدا في قصر النهاية، واسترحاما موجها لرئيس الجمهورية احمد حسن البكر، وكل هذا قد لايعيبه، بقدر ما يضعه وينسبه لعالم من البكورة والنقص الذي واكب تجربة سابقة لاوانها، وافتتاح معاند، وسط مستحيلات كبرى، لولا انه قرر امتهان الكذب، وانساق كجاهل غبي، وراء جوقة الدجل المعادي، وحفله البائس المقام لتشويه وقتل تلك التجربة، فارتضى العمل كشاهد زور بخدمة جوقة من ممتهني الدجل، والاساءة للنضال والتاريخ.
لم تكن الفترة بعد الستينات من دون تفاعلات، فالحزب الذي جرى الانشقاق عليه يومها، راكم تباعا كل مايخرجه من عالم الوطنية او اليسار، ليتحول الى جماعة منتفعة، تبيع الماضي، وتوظف تاريخ الشعب في سوق الاعطيات والرتب، بلا اي موقف فكري او سياسي يستحق التوقف، غير الفبركات والكلام المتخلف والسطحي، مما لايليق باية جهة يمكن ان تنتسب من قريب او بعيد لتاريخ عظيم، مثل تاريخ العراق، انتهوا اخيرا عند ترداد ممل لموضوعات انشائية، لاتصمد امام اي جدل او تحليل، عن "الدولة المدنية" في عراق غادر عمليا 82 عاما من تاريخ "الدولة المدنية" الممكنه في العراق الحديث، بينما هم يعاودون مصرين، ومرة اخرى لجهلهم، بيع البضاعة الغربية بعد بوارها، وبعد ان انتهىت في الغرب نفسه، فتعدى هو نفسه حداثته الى "مابعد حداثة"، بينما الحقيقة الاهم والاكثر حضورا، والتي تلح على المعمورة والعراق في المقدمة راهنا ، قد شارفت الانشغال الوشيك بمهمات الانتقال الى عالم "مابعد غرب"، حيث يحتل العراق بالذات، موقعه المحوري والملهم.
لن يطول الوقت قبل ان تشرئب الاعناق على وقع نداءالمستقبل، ويومها يكتمل المسار، بين الستينات، وبداية القرن العشرين، مع الذكرى القرنية الاولى لثورة مجتمع اللادولة العراقي بوجه الاستعمار والغرب، ثورة العشرين الكبرى، ومعها زمن الانتقال الى عراق مابعد الايديلوجيا، عراق الوطن / كونية المنبعثة عند اخر التاريخ والزمن، حيث " الامبراكونيا" العراقية .