الأناركية الشيوعية


سامح سعيد عبود
2021 / 12 / 26 - 11:02     

الأناركية الشيوعية:
تطورت الأناركية الشيوعية من التيارات الاشتراكية الراديكالية بعد الثورة الفرنسية ولكن أول من صاغها على هذا النحو كان القسم الإيطالي للأممية الأولى. وترسخت نظريا بالأعمال النظرية لكل من بيتر كروبوتكين ثم إريكو مالاتيستا، وشهدت تلك الفترة جدالا فكريا بين التنظيمين المؤيدين لفكرة التنظيم، واللاتنظيميين المعارضين للتنظيم.
ترى الشيوعية الأناركية أنَّ الشكل الأكثر تحقيقا للحرية الفردية من أشكال التنظيم الاجتماعي هو المجتمع المكون من الكوميونات ذاتية الإدارة التي تستخدم جماعيا وسائل الإنتاج، والمنظمة ديمقراطيا، والتي ترتبط بالكوميونات الأخرى من خلال الاتحاد الطوعي. في حين يدعم بعض الشيوعيين الأناركيين الديمقراطية المباشرة، فالبعض الآخر يرى أنَّ الأخذ برأي الأغلبية يعيق حرية الفرد، ولذلك يدعمون الديمقراطية التوافقية التي تنحاز لضرورة الوصول إلى الإجماع بدلا من مبدأ الأخذ برأي الأغلبية. وترى الأناركية الشيوعية، إلغاء النقود، وأنَّ على الأفراد الحصول على تعويض مباشر عن عملهم لصالح الكوميونة وفق احتياجتهم لا وفق عملهم المتناسب مع قدرتهم، وضمان حرية الوصول والاستخدام لكل الموارد والفوائض من الكوميونة.
يضع الأناركيون الشيوعيون هدفا لهم هو تحقيق مجتمع مؤلف من “تنوع من المجموعات التعاونية والتجمعات الاتحادية من مختلف الأحجام والدرجات...لكل غرض أو عمل ممكن”، حيث يتم توزيع الثروة (الإنتاج) طبقا للحاجات المحددة شخصيا لكل شخص، بحيث يمكن لكل شخص“أنْ يحصل على تأمين تطوير مواهبه وقدارته الأخلاقية والفنية والمعرفية”بدلا من تطوير أمور محصورة معدودة يفرضها عليه المجتمع الرأسمالي المحكوم بمتطلبات السوق.
من الأناركيين الشيوعيين المهمين نجد أسماء مثل: بيتر كروبوتكين، وإيما غولدمان، وألكسندر بيركمان وإيريكو مالاتيستا. والكثير من الناشطين في الأناركية النقابية يصفون أنفسهم بأنهم: “أناركيون شيوعيون”، كما أنَّ كتاب إسحاق بوينتي المنشور عام 1932: الشيوعية التحررية، تم اعتماده من قبل الحركات الأناركية الإسبانية كإعلان ودستور للمجتمع ما بعد الثورة.
أثار الأناركيون الشيوعيون في منتصف القرن 19 نقاشا حادا مع الأناركيين الجمعيين داخل الحركة الأناركية حول المشاركة في النقابات والحركة العمالية الإصلاحية فضلا عن قضايا أخرى. فنظرية الثورة التي يتبناها “الأناركيون الشيوعيون” وفقا لما حدده بيتر كروبوتكين وغيره هيَ أنَّ الشعب المنتفض هو الفاعل الحقيقي للتغيير الثوري، وليس فقط الطبقة العاملة الصناعية المنظمة في المشاريع الرأسمالية ( التي تشكل خلايا نمط الإنتاج الرأسمالي) والتي تسعى إلى فرض نفسها كسلطة للعمال بدلا من سلطة الرأسماليين، أو كهيئة صناعية أكثر “عقلانية” من الرأسماليين، أو أنْ تشكل الدماغ الاجتماعي ( المدير) بدلا من أرباب العمل.
ما بين 1880 و1890 تبنت الأناركية الشيوعية “منظورا ثوريا بشكل جوهرى”، وعارضت الحركة العمالية الإصلاحية الرسمية، التي كانت آنذاك في طور عملية تشكيل حركة (الاشتراكية الديمقراطية) التي مثلتها الأممية الثانية التي تكونت عام 1883 من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية المتأثرة بقوة بالماركسية التي أخذت طريق النضال الاقتصادي، والانخراط في الديمقراطية التمثيلية. في حين كانت الأممية الأناركية تعارض الانخراط في الصراعات السياسية (الدولتية)، والإضرابات التي تنظم لزيادة الأجور أو غيرها من المطالبات الإصلاحية الاقتصادية، التي نظمتها النقابات العمالية والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية”..ورافق هذا الاتجاه المناهض للإصلاحيين توجهات معادية للتنظيم، أعلن أنصارها أنفسهم محرضين بين العاطلين عن العمل لمصادرة المواد الغذائية، وغيرها من السلع، والدعوة لإضرابات لنزع الملكية، وفي بعض الحالات، “المصادرة الفردية للملكيات”،“وأعمال الإرهاب”. ولكن بعد ذلك قرر بيتر كروبوتكين مع آخرين أنْ يدخلوا النقابات العمالية بعد تحفظاتهم الأولية عليها.
الأناركية الشيوعية المعروفة أيضا باسم الشيوعية التحررية هي نظرية الأناركية التي تدعو إلى إلغاء كل من الدولة، والأسواق، والنقود، والملكية الخاصة، والرأسمالية، لصالح الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والديمقراطية المباشرة والتوافقية، وشبكة أفقية من الجمعيات الطوعية ومجالس العمال للإنتاج والاستهلاك على أساس مبدأ: “من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته”، في حين تحتفظ باحترام الحيازة الشخصية.
تتأثر بعض أشكال الأناركية الشيوعية التنظيمية مثل الأناركية المتمردة بقوة بالأناركية الأنانية والفردية، معتبرة أنَّ الأناركية الشيوعية هي أفضل نظام اجتماعي يحقق الحرية الفردية. و يعرض معظم الأناركيون الشيوعيون الأناركية الشيوعية باعتبارها وسيلة لتوفيق التعارض بين الفرد والمجتمع.
نال العمل النظري لبيتر كروبوتكين (1842-1921)،أهمية كبرى في الأوساط الأناركية باعتباره المنظر الأهم والأكثر غزارة ومنهجية، في الأناركية الشيوعية، وكان كروبوتكين يعتقد أنَّه في حالة الأناركية الشيوعية سوف يستطيع العمال عفويا التنظيم الذاتي لإنتاج السلع المشتركة لجميع أفراد المجتمع.
وقد بين أفكاره الاقتصادية في كتابي: الاستيلاء على الخبز، والحقول والمصانع وورش العمل. وأكد كروبوتكين باعتباره مكتشفا وعالم جغرافيا طبيعية واجتماع واقتصاد من حيث المهنة على أنَّ التعاون أكثر فائدة من المنافسة، مؤكدا في أحد أكبر كتبه العلمية “المعونة المتبادلة”: إنَّ التعاون عاملا من عوامل تطور الكائنات الحية، وهو ما وضحه بشكل جيد في الكائنات الحية والمجتمعات البشرية عبر التاريخ، وبالنسبة للاقتصاد فإنه من الأفضل أنْ ينسق من خلال شبكة أفقية من الجمعيات الطوعية حيث يتم توزيع السلع وفقا للاحتياجات الطبيعية للفرد، وليس وفقا للعمل.
وكتب في الاستيلاء على الخبز أيضا أنَّ هذه “الحاجات”، بينما يتقدم المجتمع، لن تكون مجرد الاحتياجات المادية فقط ولكن “بمجرد أنْ تشبع الاحتياجات المادية لكل فرد، فالاحتياجات الأخرى، ذات الطابع الفني، سوف تتوفر بحيث تكون أكثر خصوصية لكل فرد، حيث يختلف كل فرد من حيث ميوله وأذواقه؛ وكلما تحضر المجتمع، فالرغبة الفردية في إشباع احتياجات الفرد سوف توضع في الحسبان أكثر من ذي قبل، ومن ثم سوف تشبع أكثر الرغبات الفردية وأشدها تنوعا”. وأكد أنَّه في الأناركية الشيوعية:“...المنازل والحقول والمصانع والأراضي لن تعود ملكية خاصة، وأنها سوف تنتمي إلى الكوميونة أو الأمة، وليس الدولة، وسوف تلغى التجارة والنقود والأجور”.
وكتب في الاستيلاء على الخبز أيضا:“إنَّ الأفراد والجماعات سوف يستخدمون ويسيطرون على الموارد التي يحتاجونها مهما كانت، حيث أنَّ هدف الأناركية الشيوعية هو وضع “المنتج سواء طبيعي أو مصنع للاستخدام الحر للجميع، وترك كل الحرية للأفراد ليستهلكوا منها ما يشاءون في منازلهم”. وإنه يؤيد مصادرة الملكية الخاصة لتصبح في يد الكوميونات أو كمنافع عامة (مع الاحتفاظ باحترام الحيازة الشخصية)، للتأكد من أنَّ الجميع سوف يحصلون على ما يحتاجونه دون أنْ يضطروا إلى بيع قوة عملهم للحصول عليها.
وكتب في الاستيلاء على الخبز أيضا:“نحن لا نريد سرقة معطف أيِّ شخص، ولكن نود أنْ نعطي للعمال كل تلك الأشياء التي حرمتهم منها الرأسمالية والدولة، مما كان يجعلهم يقعوا فريسة سهلة للاستغلال والإذلال والقمع، وسوف نبذل قصارى جهدنا كيْ لا يفتقر أيُّ شخص لأيِّ شىء يحتاجه، وأنه لا يجب أنْ يجبر أيُّ إنسان لبيع قوة عمله للحصول على الكفاف لنفسه ولأطفاله. هذا هو ما نعنيه عندما نتحدث عن نزع الملكية”.
وكتب في الاستيلاء على الخبز أيضا:“الفلاح الذي في حوزته مساحة من الأراضي يمكنه زراعتها”، و”العائلة التي تقطن منزل يتيح لأفرادها مساحة كافية للإقامة المريحة فيها التي تعتبر كافية وضرورية لهذا العدد من أفرادها” سوف يترك لهم، والحرفي الذي“يعمل بالأدوات الخاصة به أو مغزله اليدوي” سوف لن نتدخل في شئونه، وناقش أنَّه إذا كان المالك يدين بغناه إلى فقر الفلاحين، فإنَّ ثروة الرأسمالي تأتي من المصدر نفسه”.
وصف كروبوتكين في الاستيلاء على الخبز كيف يعمل الاقتصاد الشيوعي الأناركي، بافتراض“تخيل مجتمع، يتألف من بضعة مئات الألاف من الأشخاص، يعملون في الزراعة ومجموعة كبيرة ومتنوعة من الصناعات...باريس على سبيل المثال، حي سيين إي واز. لنفترض أنَّه في هذا المجتمع كل الأطفال يتعلمون عبر العمل بأيديهم وأدمغتهم. وكل البالغين، باستثناء النساء اللواتي يشاركن في تعليم أبنائهن، يربطون أنفسهم للعمل 5 ساعات يوميا من سن 20 أو 22 إلى سن 45 أو 50، وفق الاتفاق الذي عقدوه مع زملائهم في الكوميونة، وأنهم يباشرن المهن التي اختاروها، والتي تعتبر ضرورية في فرع واحد من العمل البشري.
أؤكد أنَّه يمكن لهذا المجتمع في مقابل ذلك ضمان الرفاه لجميع أعضائه. وأقول الرفاه الأكثر جوهرية التي تتمتع به الطبقات الوسطى يوميا، لا الطبقات العليا، وعلاوة على ذلك، فكل عامل ينتمي إلى هذا المجتمع سوف يكون تحت تصرفه ما لا يقل عن 5 ساعات في اليوم يتمكن فيها من تكريسها للعلم والفن، والاحتياجات الفردية التي لا تندرج تحت فئة الضروريات، ولكن من المحتمل أنْ يفعل ذلك في وقت لاحق، متى ازدادت إنتاجية الإنسان، فسوف تكون تلك الأشياء التي كانت تعد فاخرة أو لا يمكن الوصول إليها. متاحة أكثر وأكثر للاستخدام”.
فيما يعارض كثيرٌ من الأناركيين الشيوعيين التجارة، فإنَّ بعض أناركييِّ ما بعد اليسار، والأناركيين الشيوعيين لما بعد الندرة، والمتعاطفين مع الأناركية النقابية، لا يعارضون التجارة، ويدعمون بعض الأشكال غير النقدية من التجارة فيما بين المشاعات غير النقدية، والبعض الآخر مثل تيزيانا تيرانوفا ترى الأناركية الشيوعية متوافقة مع غير الهرمية، والوصول المفتوح للسلع، وحرية تكوين الجمعيات، وشكل غير نقدي من التجارة مثل تبادل الند للند التي سوف يتم تناوله تفصيلا في قسم الاقتصاد الأناركي.
بينما يتم اقتراح الشيوعية باعتبارها شكلا من أشكال التنظيم الاجتماعي والاقتصادي من قبل معظم الأناركيين، فالأناركيون الآخرون يعتبرونها خطرا على الحرية والتطور الحر للفرد. وقد اعترفت معظم المدارس الأناركية بالتمييز بين أشكال الشيوعية التحررية، والشيوعية السلطوية، وقال برودون:“الشيوعية، سواء الخيالية أو الماركسية، دمرت الحرية من خلال إبعاد الفرد عن السيطرة على وسائل إنتاجه”.وكان يرى أنَّ“الشيوعية هي استغلال القوي من الضعيف”. وذكر ميخائيل باكونين: “أنا أكره الشيوعية لأنها نفيٌ للحرية، ولأنه بالنسبة ليَ الإنسانية لا يمكن لها التفكير بدون الحرية، وأنا لست شيوعيا، لأن الشيوعية تركز وتبتلع جميع قوى المجتمع في حد ذاتها لصالح الدولة، لأنها تؤدي حتما إلى تركيز الملكية في أيدي الدولة”، ويبدو أنَّ باكونين كان يتحدث هنا عن” شيوعية الدولة”(الاستبدادية الماركسية)، والتحقق من ذلك يلاحظ قبل السطر الأخير الذي يذكر ملكية الدولة؛ في حين أنَّ الأناركية الشيوعية ترفض صراحة ملكية الدولة والسلطة، خاصة السلطة المركزية.
على الرغم من أنَّ بيتر كروبوتكين، أحد المنظرين الرئيسيين للشيوعية الأناركية، فقد كان يعارض أيضا “شيوعية الدولة”، ودافع عن نموذج اقتصادي للتوزيع المجاني بين جميع الأفراد، ويعارض كثيرٌ من الأناركيين الفرديين الشيوعية في جميع أشكالها، على أساس أنَّ الشيوعية الطوعية التي يدعو لها كروبوتكين غير عملية، ونفى الأناركيون الفرديون مثل بنيامين تاكر، وفيكتور ياروس، وهنري أبليتون أنَّ الأناركية الشيوعية هي شكل حقيقي للأناركية. ورفضوا استراتيجياتها وقالوا إنَّها استبدادية بطبيعتها، ويرى الأناركي الفردي هنري أبليتون:“إنَّ الشيوعية، معارضة للقانون الطبيعي، يجب استدعاؤها بالضرورة بوسائل غير طبيعية إذا كان من شأنها أنْ تضع نفسها موضع التنفيذ”، بحيث أنْ عليها أنْ توظف “السلب والنهب والقوة الغاشمة والعنف”، لتحقق غاياتها.
يرفض الأناركيون الشيوعيون تلك الانتقادات، ويلفتون الانتباه إلى تبنيهم مبدأ تكوين الجمعيات والكوميونات الطوعية التي تدعم نظريتهم، وتميزها عن شيوعية الدولة. من ناحية أخرى فبعض الأناركيين الفرديين أيضا أبدوا استعدادا للاعتراف بالأناركية الشيوعية باعتبارها شكلا أناركيا. حيث يكتب كيفن كارسون أنَّ:“أناركيى السوق الحر، والأناركيين الشيوعيين، والأناركيين النقابيين، والأناركيين الجمعيين، يجب أنْ يتعلموا التعايش في سلام واحترام متبادل اليوم، في كفاحهم ضد الدولة والشركات الرأسمالية، وغدا، السلطة عابرة للقوميات مما يزيد من احتمال نجاحهم في مسعاهم المشترك”.
إلغاء العمل المأجور هو محور الأناركية الشيوعية. فتوزيع الثروة يتم على أساس الاحتياجات المحددة ذاتيا، والأفراد سوف يكونون أحرارا في المشاركة في أيِّ أنشطة يجدوها أكثر إشباعا لهم، وسوف لن ينخرطوا في الأعمال التي ليس لديهم فيها لا مزاج ولا كفاءة.
ويجادل الأناركيون الشيوعيون بأنَّه ليس هناك طريقة صحيحة لقياس قيمة المساهمات الاقتصادية لأيِّ شخص بعينه، لأن كل ثروة هيَ نتاج جماعي للأجيال الحالية والسابقة.
ويقولون أيضا إنَّ الأسواق وأنظمة العملة سوف تقسم العمال إلى طبقات، ومحاولة تنظيم الإنتاج والاستهلاك والتوزيع تستدعي سلطة عليا. وتعيين القيمة العددية النقدية لعمل الفرد عبثية، ولا يمكن أنْ تكون إلَّا تعسفية تفرضها سلطة مستبدة، وهم يجادلون بأن المال يحد من قدرة الفرد على استهلاك منتجات عمله عن طريق الحد من استهلاكه مع نظام الأسعار لتحديد قيمة السلع، والأجور لتحديد قيمة العمل.
يقر الشيوعيون الأناركيون أنَّ الإنتاج ينبغي أنْ يكون نوعيا و موجها للاستعمال الفعلي فقط، والمقرر سلفا حسب الاحتياجات الفردية والجماعية، وفي حدود الامكانيات والموارد المتاحة فعليا، ولا يجب أنْ يكون الإنتاج كميا موجها للتبادل لا الاحتياجات الفعلية، والذي لا يضع في اعتباره الامكانيات والموارد المتاحة، مما يؤدي لموجات من ندرة البضائع فيظهر الحرمان من إشباع الاحتياجات، أو وفرتها بما يفوق القدرة على استهلاكها مما يدمر، ويهدر الموارد المتاحة، فالإنتاج والاستهلاك والتوزيع في الكوميونة ينبغي أنْ يحدد مصيرهم من قبل جميع الأفراد الأعضاء فيها دون عملية تحديد آخرين القيمة التعسفية للعمل والسلع والخدمات باعتبارهم ملاك أو مدراء. وهذا يقضي على شرط ضرورة القضاء على الندرة أولا وتحقيق الوفرة كضرورة من أجل الوصول للشيوعية، والقضاء على العمل المأجور، الذي يستند عليه الماركسيون في تبرير المرحلة الانتقالية الاشتراكية، حيث يستمر العمل المأجور.
يدعم معظم الأناركيين الشيوعيين ما يسمى اقتصاد الهدية أو التوزيع المجاني للفائض لمن يحتاجه، بدلا من تركه لآليات السوق، حيث يتم إنتاج السلع والخدمات من قبل العمال وتوزيعها في مخازن المجتمع حيث الجميع (بما في ذلك العاملين الذين ينتجون) يحق لهم أساسا استهلاك ما يريدون دون الحاجة “للدفع النقدي” مقابل استهلاكهم للسلع والخدمات.
وسوف يتم تحديد أيِّ معايير كمية أو نوعية على الإنتاج والتوزيع في حدود الموارد والإمكانيات المتاحة من قبل الأفراد داخل الجماعات التعاونية المعنية نفسها توافقيا، بدلا من أنْ يحددها الملاك الرأسماليين والبيروقراطيين والساسة والشركات والمستثمرين والبنوك أو غيرها من عوامل ضغوط السوق الاصطناعية.
والأهم من ذلك انتهاء العلاقة المجردة بين “المالك”و”المستأجر”، التي تحدث في ظل الإكراه القانوني المشروط الذي لن يصبح ضروريا على الإطلاق للإقامة في المباني أو استخدام مساحات الأرض، حسب حاجة الأفراد والجماعات، والمتروكة لمن يستخدمها وينتفع بها فعليا لا لمن يملكها، كما أنَّ حقوق الملكية الفكرية من شأنها أيضا أنْ تتوقف، لأنها شكل من أشكال الملكية الخاصة.
أعلنت أقسام مكافحة الاستبدادية في الأممية الأولى في مؤتمر سانت إمير (1872) أنَّ“تطلعات البروليتاريا لا يمكن أنْ يكون لها أيُّ غرض آخر غير إنشاء منظمات واتحادات اقتصادية حرة تماما، تتأسس على العمل والمساواة للجميع وبمعزل تام عن كل الحكومات السياسية “، والذي سيكون لكل عامل فيها “ الحق في التمتع بناتج عمله، وبالتالي سبل التطوير الكامل لقواه الفكرية والمادية الأخلاقية في إطار جماعي “. هذا التحول الثوري “يمكن أن يكون فقط نتيجة العمل العفوي من البروليتاريا نفسها، والهيئات النقابية والبلديات المستقلة والتعاونيات الحرة”.
برغم أنَّ الأناركية الشيوعية كفلسفة اقتصادية وسياسية متماسكة وحديثة وضعت لأول مرة في القسم الإيطالي من الأممية الأولى من كارلو كافييرو، وإميليو كوفيللي، وإريكو مالاتيستا، وأندريا كوستا وغيرهم من الجمهوريين الماتزينين السابقين. فإنهم احتراما لميخائيل باكونين، لم يجعلوا خلافاتهم مع الأناركية الجمعية واضحة إلَّا بعد وفاة باكونين. ومن ثم أعلنوا مبادئ الأناركية الشيوعية في مؤتمر فلورنسا للدولية في عام 1876، الذي عقد في غابة خارج فلورنسا بسبب نشاط الشرطة بعد وفاته.
سعى الأناركيون الجمعيون للشكل الجماعي التعاوني لملكية وسائل الإنتاج، مع الاحتفاظ بالدفع بما يتناسب وفق كمية ونوع العمل لكل فرد، ولكنْ الأناركيون الشيوعيون سعوا إلى توسيع مفهوم الملكية الجماعية لمنتجات العمل أيضا. بينما كافحت كلتا المجموعتين ضد الرأسمالية والدولة، ثم انفصل الشيوعيون الأناركيون عن أتباع برودون التبادليين وباكونين الجمعيين، الذين أكدوا على أنَّ الأفراد لديهم الحق في نتاج عملهم الفردي، وأن تحدد الأجور وفق المساهمة الخاصة في الإنتاج.
ومن ناحية أخرى كتب إريكو مالاتيستا ما يلي: “..بدلا من التعرض لخطر يصنع الارتباك في محاولة التمييز بين ما أفعله وبين ما تفعله، لصالحنا المشترك، وبدلا من أنْ تختلف رؤانا التي تحكمها مصالحنا وأهواؤنا الذاتية لا الموضوعية، التي تجعلنا نهول أو نهون في قيمة ما يفعله كل واحد منا وفق لمصالحنا الأنانية، علينا جميعا العمل قدر ما نستطيع، وأن نضع كل شيء في الشيوع للاستخدام المجاني، وبهذه الطريقة كل سوف يعطي للمجتمع كافة ما تسمح به قوته حتى يتم إنتاج ما يكفي لكل واحد؛ وكل سيأخذ كل ما يحتاجه، والحد من احتياجاته فقط في تلك الأشياء التي ليس منها الكثير لكل شخص حتى الآن”.
وشرح كافيير في كتابه الأناركية والشيوعية (1880) أنَّ الملكية الخاصة لنتاج العمل سوف تؤدي إلى تراكم غير متكافئ لرأسمال، وبالتالي، ظهور الطبقات الاجتماعية والعداوات، وبالتالي قيام الدولة: “إذا حافظنا على مبدأ الحق الفردي لمنتجات العمل، فإننا سوف نضطر للحفاظ على النقود، مما سوف يؤدي لتراكم أكثر أو أقل من للثروة وفقا للأكثر أو الأقل الجدارة، بدلا من مبدأ توفيراحتياجات الأفراد”.
تؤكد الأناركية الشيوعية على المساواة، وإلغاء التسلسل الهرمي الاجتماعي، والفوارق الطبقية الناشئة عن توزيع الثروة غير العادل، فضلا عن إلغاء الأموال والممتلكات الخاصة (مع الاحتفاظ باحترام الحيازة الشخصية)، ولاستبدال ما سبق يكون الإنتاج الجماعي وتوزيع الثروة من خلال رابطة طوعية. في الأناركية الشيوعية، فإنَّ ممتلكات الدولة والممتلكات الخاصة لم تعد موجودة. وكل فرد أو جماعة أحرار في المساهمة في الإنتاج، وتلبية احتياجاتهم بناء على اختيارهم. وسوف تتم إدارة نظم الإنتاج والتوزيع من قبل المشاركين فيها.
ويقول الشيوعيون الأناركيون إنَّه لا توجد وسيلة صالحة لقياس قيمة المساهمات الاقتصادية لأيِّ شخص أو جماعة لأن كل ثروة هيَ نتاج عمل جماعي للأجيال الحالية والسابقة. على سبيل المثال، لا يمكن للمرء أنْ يقيس قيمة الإنتاج اليومي لعامل المصنع دون الأخذ بعين الاعتبار تأثير النقل والغذاء والماء والمأوى، والاسترخاء، وكفاءة الجهاز، والمزاج العاطفي وما إلى ذلك الذي ساهم في إنتاجها وهيَ عوامل ذاتية وغير إرادية لا دخل للعامل فيها، . فلإعطاء قيمة اقتصادية عددية دقيقة إلى أيِّ شيء، سواء قيمة العمل المثمنة بالأجر أو قيمة السلعة المثمنة بالسعر، سوف نحتاج لتحديد دقيق لحساب تأثير كم هائل من العوامل الخارجية التي ساهمت في تحديد قيمة العمل، أو قيمة السلعة، والتي يستحيل حساب محصلتها النهائية، والتي يجب أنْ تؤخذ في الاعتبار - وخاصة مساهمة العمل الحالي أو العمل في الماضي الذي سوف يساهم في تحديد القدرة على الاستفادة من العمل في المستقبل..حيث تتدخل طبيعة المواد الخام، والظروف الطبيعية، وكفاءة الآلات وحالتها في التأثير على منتج العامل وإنتاجيته، وهيَ منتجات لعمال آخرين، وعوامل أخرى، وكما قال كروبوتكين إنَّه: “لا يمكن التمييز بين قيمة عمل عامل وآخر لتحديد القيمة النهائية للمنتج، وكل محاولة لقياس قيمة عمل الإنسان سوف تقودنا نتائجها إلى العبث؛ و تقسيمها وقياسها من خلال الساعات التي يقضيها العامل في العمل، سوف يقودنا أيضا إلى سخافة فلا يبقى سوى شيء واحد: وضع تلبية الاحتياجات البشرية فوق مكافأة الأعمال بالأجور، أو تسعير السلع بالثمن، وأولا وقبل كل كل شىء أنْ تعترف بحق كل شخص في العيش، وفي وقت لاحق، إلى وسائل الراحة في الحياة، لجميع أولئك الذين يؤدون دورهم في الإنتاج”. فليس من العدل أنْ تحاسب الإنسان على ضعفه أو قوته، ذكائه أو غبائه، علمه أو جهله، صحته أو مرضه، لأنها كلها حالات ناتجة عن صدف بيولوجية، وظروف اجتماعية، وبرمجة ثقافية، لا دخل له فيها ولا اختيار، ولا يصح أنْ تكون محلا لمكافأة أو تمييز أو سببا في حرمان، طالما في كل الأحوال يبذل الإنسان كل ما في استطاعته وجهده لصالح الجماعة.
ويقول الشيوعيون الأناركيون إنَّ أيَّ نظام اقتصادي قائم على العمل المأجور والملكية الخاصة يتطلب جهاز الدولة القسري لفرض وحماية حقوق الملكية، والمحافظة على العلاقات الاقتصادية غير المتكافئة التي تنشأ حتما من الاختلافات في الأجور أو قيمة الممتلكات. ونظام العملة والأسواق، وتعيين القيم العددية التعسفية للعمل الفردي، وتنظيم الإنتاج والاستهلاك والتوزيع. وهم يجادلون بأن المال يحد من قدرة الفرد على استهلاك منتجات عمله عن طريق الحد من استهلاكه مع نظام تحديد الأسعار والأجور.
بدلا من السوق والتداول بالعملة، فمعظم الأناركيين الشيوعيون يدعمون اقتصاد الهدية حيث يتم إنتاج السلع من قبل العمال وتوزيعها في مخازن المجتمع حيث الجميع بما في ذلك العاملين الذين ينتجون يحق لهم استهلاك ما يريدون أو يحتاجون بصرف النظر عن ما بذلوه من جهد لإنتاجها. ولا ينطوي اقتصاد الهدية بالضرورة العودة الفورية (للمقايضة)؛ حيث يأتي التعويض في شكل ما يقرره شخص لقيمة منتجاته من العمل مقابل سلع أخرى مساوية لها في القيمة ينتجها شخص آخر (ما يسمى عادة المقايضة).
إذا كانت الأناركية الجمعية تتمسك بالملكية الجماعية،إلَّا أنَّ الأناركية الشيوعية تنفي المفهوم الكامل للملكية لصالح مفهوم حق الاستخدام. وبذلك تنظر إلى الأشياء إما كحيازات شخصية مخصصة لاستخدام الفرد، أو حيازات اجتماعية مستخدمة للإنتاج والخدمات للمجتمع. فالأناركيون الشيوعيون يعتقدون أنَّ وسائل الإنتاج لا ينبغي أنْ تكون مملوكة من قبل أيِّ شخص أو أيِّ كيان واحد مما يعني نفي الملكية نفسها كمؤسسة وعلاقة اجتماعية. فالأراضي والمساكن لن تخضع للاستئجار أو الضرائب على الممتلكات، ولا للبيع ولا للشراء (وبالتالي، فإنَّ استخدامها يكون آمنا من تهديدات حائزيها بالطرد). وسوف تخضع بدلا من ذلك ببساطة لرغبات الحائزين في استخدامها على أساس المساواة. على سبيل المثال، في مبنى حيث يعيش كثيرون، لن يوجد شخص واحد ينفرد بالرأي في ترتيبات الإقامة. فكل الذين يعيشون في المبنى سوف يشاركون في صنع القرارات التي لها علاقة بالمبنى. ويقال عادة إنَّ على الجميع أنْ يشاركوا في المسؤوليات على أساس الباب الدوار بدلا من تحميلها على أيِّ فرد بعينه.
بالإضافة إلى الاعتقاد بأن الإيجار والرسوم الأخرى مقابل الانتفاع استغلالية، يرى الأناركيون الشيوعيون بأنها ضغوط تعسفية تحفز الناس للقيام بمهام غير ذات صلة بحقهم في السكن. على سبيل المثال، يتساءلون لماذا ينبغي للمرء أنْ يعمل عدد ساعات س في اليوم لمجرد السماح له بالعيش في مكان ما. لذلك بدلا من العمل المشروط من أجل الأجر الذي يحصل عليه، يعتقدون في العمل مباشرة لهدف في متناول اليد. ويستنتج من ذلك أنَّه بدلا من بيع وتأجير الأراضي والمساكن الشاغرة، فسوف تستخدم مجانا بغض النظر عن عمل الشخص أو الوضع المالي له (أساسا، يمكن استبدال علامة “للبيع أو للتأجير“ بعلامة “شاغرة”) ليكون مفهوما أنها متاحة للإشغال لمن يريد استخدامها بالفعل. لذلك، في النظرية الأناركية الشيوعية، الأراضي يتم استخدامها من قبل الأفراد لأنفسهم أو لأسرهم، أو ملكية أدوات الإنتاج المستخدمة للإنتاج فرديا (مثل مزرعة صغيرة)، وحتى تعتبر (الممتلكات الشخصية) ممتلكات خاصة بدلا من كونها ممتلكات اجتماعية. فإنَّ الفرد يكون حرا تماما لصنع شيء، والاحتفاظ به طالما أنَّه ليس وسيلة ضرورية لإنتاج من أجل المجتمع أو لعامة الناس، أو للتبادل في السوق. ذلك أنَّ فرشاة تلوين فنان لا تحتاج إلى موافقة من الخارج لاستخدامها، كما أنَّ نفس المبدأ الأساسي ينطبق على غيرها من البنود الشخصية مثل فرشاة أسنان شخص، والآلات الموسيقية أو الكتب التي يخشى من الآخرين العبث بها. ومع ذلك، إذا كانت المسألة المطروحة تشمل إنتاجا للمجتمع (مثل المصنع الذي يصنع فرشاة الأسنان أوالآلات الموسيقية أو الكتب)، فإنه سوف يصبح ملكا اجتماعيا وخاضعا للمساءلة من جميع الذين يعملون داخله، والجمهور الذي يستخدم منتجاته. وفي هذا الصدد، يمكن اعتبار الأناركية الشيوعية حلا وسطا بين استخدام الجماعي والفردي.
يرفض الأناركيون الشيوعيون الاقتصاد المتنافع لأنهم يعتقدون أنَّ المنافسة في السوق، وحتى الأسواق غير الرأسمالية، بطبيعتها سوف تخلق التفاوت في الثروة والأرض التي من شأنها أنْ تؤدي إلى عدم المساواة في السلطة، وبالتالي إعادة إنتاج الدولة والرأسمالية، فبعض العمال سوف يكون لديهم المزيد من فرص الوصول إلى وسائل الإنتاج والاستهلاك، ويكون لديهم القوة للدفاع عنه مقارنه بغيرهم. كما يرفضون الاقتصاد الجمعي بحجة أنَّ الأجور سوف تتطلب نوعا من العملة، والتي يرفضها الأناركيون الشيوعيون باعتبارها قياسا اصطناعيا لقيمة العمل. ويقولون أيضا إنَّ أولئك الذين ليسوا منضمين للجماعات التعاونية أو النقابات أو مجالس العمال والتعاونيات سوف يحرموا من الوصول إلى وسائل الإنتاج والاستهلاك، وبالتالي يعزز الشيوعيون الاستخدام المشترك المجاني لملكية المجتمع.
يرفض الشيوعيون الأناركيون الادعاء بأن تحديد أجر العمل ضروري لأن الناس بـ“الطبيعة” كسولة وأنانية. ويشيرون إلى أنَّه حتى ما يسمى بـ“الخامل الغني” في بعض الأحيان يجد أشياء مفيدة للقيام بها على الرغم من إشباع جميع احتياجاته بعمل الآخرين. الأناركيون الشيوعيون عموما لا يتفقون مع الإيمان المحدد مسبقا “بالطبيعة البشرية”، معتبرين أنَّ الثقافة الإنسانية والسلوك الإنساني يتحددان إلى حد كبير للغاية بواسطة التنشئة الاجتماعية. الكثيرون، مثل بيتر كروبوتكين، يعتقدون أيضا أنَّ الميل التطوري البشري هو بالنسبة للبشر أنْ يتعاونوا مع بعضهم البعض من أجل المنفعة المتبادلة، والبقاء على قيد الحياة بدلا من الوجود كمتنافسين وحيدين.
في حين يعتقد الشيوعيان الأناركيان بيتر كروبوتكين وموراي بوكتشن أنَّ أعضاء مثل هذا المجتمع سوف يؤدون وظائفهم الضرورية بشكل عفوي لأنهم سيعترفون بفوائد المشاريع المجتمعية والمساعدة المتبادلة، فالبعض الآخر مثل نيستور ماخنو وريكاردو فلوريس ماجون كانا مقتنعان بأن كل القادرين على العمل في المجتمع الشيوعي الأناركي يجب أنْ يكونوا ملزمين للقيام بذلك، باستثناء جماعات مثل الأطفال وكبار السن والمرضى والعجزة الذي يجب أنْ يكفلهم المجتمع. كروبوتكين كان لا يعتقد أنَّ الكسل أو التخريب سوف يكون مشكلة كبيرة في مجتمع أناركي شيوعي أصلي، لكنه وافق على أنَّ الكوميونة الأناركية المكونة بشكل حر ربما سوف تستبعد عن عمد أولئك الذين لا يوفون باتفاقتهم مع أعضاء الكوميونة، والوفاء بواجباتهم نحوها بالعمل المتفق عليه لصالحها.
يدعم الشيوعيون الأناركيون الشيوعية باعتبارها وسيلة لضمان أكبر قدر من الحرية والرفاه للجميع، وليس فقط للأثرياء والأقوياء. في هذا المعنى، الأناركية الشيوعية هي فلسفة المساواة الأعمق.
الأناركيون الشيوعيون ضد التسلسل الهرمي في جميع أشكاله. ولذلك لا يعتقدون أنَّ أيَّ شخص لديه الحق في أنْ يكون سيدًا أو رئيسًا لأيِّ شخص آخر، لأن هذا هو مفهوم الرأسمالية والدولة، ويعني السلطة على الفرد. وبعض الشيوعيين الأناركيين المعاصرين ودعاة أناركية ما بعد اليسار، مثل بوب بلاك، يرفضون مفهوم العمل تماما، لصالح التحول لمهام تحقيق الكفاف الضروري عبر اللعب الحر الطوعي. وقال بيتر كروبوتكين إنَّ الأخطاء السلطوية الرئيسية في التجارب الشيوعية في الماضي كانت بسبب أنَّ وجودها كان على أساس “الحماس الديني” والرغبة في العيش “كأسرة واحدة” تنتهك احتياج الفرد للخصوصية، حيث كان الفرد يخضع لإملاءات من الأخلاق حريصة على الشكليات “تحد من حريته ورغباته”. أما بالنسبة له فإنه ينبغي أنْ تستند الأناركية الشيوعية على حق حرية تكوين وحل الجمعيات للأفراد والجماعات، وعلى خفض كبير في عدد ساعات عمل كل فرد لحدود العمل الضروري.
ويقول إنَّ“تعرف الفرد على مجموعة متنوعة من المهن أساس لكل تقدم وتنظيم ففي مثل هذه الطريقة،فإنَّ الإنسان قد يكون حرا تماما أثناء أوقات فراغه، في حين أنَّه قد ينوع أيضا عمله، وفق التغيير الذي يحدثه تعليمه وتدريباته ومهارته، وهذا يمكن بسهولة وضعها في الممارسة في المجتمع الشيوعي، مرة أخرى، يعني تحرر الفرد، الذي سيجد الأبواب مفتوحة في كل اتجاه لنموه الكامل”.
يكتب الأناركي الشيوعي البرنامجي واين برايز منتقدا اقتصاد المشاركة القريب من الأناركية الجمعية.
المقترحات الحالية للباريكون (اقتصاد المشاركة)، حيث تتم مكافأة العمال مقابل شدة ومدة عملهم في الاقتصاد التعاوني، يمكن أنْ تنسب إلى باكونين أو مفهوم ماركس عن المرحلة الأولى الانتقالية، من المجتمع الحر، وقد رفض كروبوتكين نهج المرحلتين للماركسيين وللأناركيين الجمعيين. وبدلا من ذلك اقترح أنَّ المجتمع الثوري “يجب عليه تحويل نفسه فورا إلى المجتمع الشيوعي، وهذا هو ما يجب أنْ يذهب إليه فورا، والذي كان ينظر إليه ماركس بأنه المرحلة الشيوعية النهائية” الأكثر تقدما . كروبوتكين وأولئك الذين يتفقون معه أطلقوا على أنفسهم:“الأناركيون الشيوعيون”على الرغم من أنهم لا يزالوا يعتبرون أنفسهم جزءا من الحركة الاشتراكية الأوسع.
ويعتقد الماركسيون أنَّه بدون فترة انتقالية من سيطرة الدولة (تفسيرهم لديكتاتورية البروليتاريا) سوف يكون من المستحيل على أيِّ ثورة الحفاظ على الزخم أو التماسك للدفاع عن المجتمع الجديد ضد التهديدات الخارجية والداخلية. وأشار فريدريك انجلز: “من دون ثورة اجتماعية سابقة إلغاء الدولة هو هراء، وإلغاء رأس المال هو في حد ذاته ثورة اجتماعية وينطوي على تغيير في طريقة كاملة من الإنتاج”. وبالرغم من ذلك، فقد فسر الأناركيون الشيوعيون هذه الاقتباسات بدعم ماركس وإنجلز اقتراح إلغاء الرأسمالية والدولة في وقت واحد، وليس إنشاء دولة جديدة.
يرفض الأناركيون النموذج الماركسي-اللينيني لـ”ديكتاتورية البروليتاريا”، معتبرين أنَّ أيَّ أقلية ثورية تستولي على سلطة الدولة من شأنه أنْ يكون مجرد طبقة استبدادية مثل الطبقة الحاكمة في الرأسمالية للدفاع عن الدولة الجديدة، وستشكل في نهاية المطاف نفسها على أنَّه الطبقة الحاكمة الجديدة. وامتدادا لذلك، يجادل الأناركيون الشيوعيون على العكس بأن اللامركزية والاتحادات الجماعية الطوعية للكوميونات بلا دولة كافية لإعطاء السلطة للعمال، والحفاظ على الحرية الشخصية، على حد سواء، وأشاروا إلى حقيقة أنَّه لا توجد دولة اشتراكية لم تظهر من أيِّ وقت مضى علامات “اضمحلال”. مرة أخرى، ويستشهدون بالثورة الإسبانية كمثال على نجاح تعبئة عسكرية أناركية، وإن كانت سحقت من قبل قوات متفوقة.
يدعو الأناركيون الشيوعيون لنموذج تعاهدي في علاقات التعاون المتبادل، وحرية تكوين الجمعيات بين الكوميونات كبديل لمركزية الدولة القومية. وبالتالي اقترح بيتر كروبوتكين ما يلي:
أنجزت الحكومة التمثيلية مهمتها التاريخية. وقد سدد ذلك ضربة قاضية لحكم البرلمان. و الذى أيقظت مناقشاته الاهتمام العام بالمسائل العامة التى كانت حكرا على الحكام. ولكن أنْ ترى فيه حكومة المجتمع الاشتراكي المستقبلي هو ارتكاب خطأ جسيم. فكل مرحلة اقتصادية من الحياة تعني مرحلة سياسية خاصة بها. وأنه من المستحيل أنْ تغير الأساس في الوقت الحاضر للحياة الاقتصادية؛أيْ الملكية الخاصة، من دون تغيير مقابل في الأسس التي يقوم عليها التنظيم السياسي. وتبين الحياة بالفعل في أيِّ اتجاه سوف يتم فيه إجراء التغيير. ليس في زيادة صلاحيات الدولة، ولكن في اللجوء إلى التنظيم الحر، والاتحاد الحر في جميع هذه الفروع التي تعتبر الآن من سمات الدولة.
مثلا:
لا يوجد مجتمع يستطيع يأمل في تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي، ولا ينبغي أنْ يحاول أنْ يفعل ذلك إلَّا إذا كان يرغب في أنْ يصبح مغلقا ذاتيا وضيقا، وليس فقط تحقيق “الاكتفاء الذاتي”. ومن ثم فإنَّ إعادة صياغة اتحاد الكوميونات “كومونة من الكوميونات” اقتصاديا وسياسيا للمساهمة الكونية في الموارد التي تدار علنا. بحيث لا تتحول إدارة الاقتصاد، إلى تفاعلات خاصة بين المشاريع؛ وتحديدا لأنه النشاط العام، بل تتطور إلى التفاعلات التعاهدية بين الكوميونات. وهذا يعني توسيع العناصر ذاتها من التفاعل المجتمعي بين المكونات الحقيقية أو المحتمل خصخصتها لمكونات عامة حقيقية مؤسسيا. يصبح مشروع الاتحاد عام بحكم التعريف، ليس فقط بسبب ضرورة توفير الاحتياجات والموارد المشتركة. ولكن وسيلة لتجنب ظهور الدولة المدينة، ناهيك عن ظهور البرجوازية نتيجة لخدمة المصالح الذاتية “للتعاونيات”، فمن خلال الكوميونات فإنَّ الحياة السياسية التي تكمل ذلك تشمل ليس فقط ما نسميه المجال العام لكن الوسائل المادية للحياة أيضا.
كانت هناك عدة محاولات، سواء ناجحة أوغير ناجحة في خلق مجتمعات أناركية شيوعية في أنحاء كثيرة من العالم. ويقول الأناركيون الشيوعيون، وبعض الأناركيين الخضر (خاصة الأناركيون البدائيون) أنَّ القبائل البدائية، و الأسر الممتدة، كانت الأشكال الأولي للأناركية الشيوعية نظرا لطبيعتها المساواتية، وقد وصفت الطوائف المسيحية المبكرة على أنها لها خصائص الأناركية الشيوعية..وتشمل أمثلة من مجتمعات المساواة المسيحية جماعات الحفارين.
تطرح حركة زايتجست (روح العصر) نفس أفكار الأناركية الشيوعية لمجتمع المستقبل، ولكن تستند على تحكيم المنهج العلمي والأساليب العلمية في إدارة الموارد والتوزيع، والاستناد على تكنولوجيا توفر العمل غير الضروري، لتحقيق نفس الفكرة، وترى أنَّه هو الحل الأكثر عقلانية وانسجاما مع حقيقة البشر البيولوجية أكثر من رومانسيات القرن التاسع عشر المتفائلة، والواثقة في البشر غير الأحرار في حقيقتهم، أيْ من الممكن أنْ نستغني عن وهم وشعار الحرية، وننشد السعادة كإمكانية عملية، تلك التي لن تتحقق إلا فيما تطرحه الأناركية الشيوعية أو حركة زايتجست.

2017