سوف نبتكر الأمل


فريدة النقاش
2017 / 8 / 22 - 21:52     

قضية للمناقشة: سوف نبتكر الأمل

ألا ما أكثر الأحزان ، وما أغلى الراحلين الذين غادرونا تباعا في أيام قليلة، ورغم أ، حصاد عمر” د. رفعت السعيد ” و” محفوظ عبد الرحمن ” ظل مكتملا لمدى طويل قبل رحيلهما فإن الحزن العميق سيصاحبنا طالما حيينا، وفضلا عن ذلك سوف يبقى الفراغ الذي تركاه قائما إلى أن تنجح الحياة السياسية والثقافية في تكوين قامات جديدة لتملأ الفراغ في تلك الميادين المتنوعة التي أبدع فيها الراحلون جميعا، سواء اتفقنا أو اختلفنا مع التوجهات العامة فيما أنتجوه ومع المواقف التي اتخذوها أو دافعوا عنها .

واختلف مع الذين يقولون ـ في حالة يأس ـ إن عملية التجريف الكبرى التي حدثت في بلادنا منذ وقوع هزيمة 1967 قد أدت إلى عقم ـ ثقافي على نحو خاص ـ في مصر فقط علينا أن نفتش بتأن وصبر عن الموهوبين .

صحيح أن مواهب كثيرة قد تبددت وضاعت تحت ضربات اليأس والإهمال، وترويج الليبرالية الجديدة التي توجت الثورة المضادة في البلاد للثقافة التجارية الاستهلاكية والهوس الأمريكي، لكن مقاومة المصريين لم تتوقف أبداً ، بل إن هذا الشعب العريق منتج الحضارة، والثقافة والدءوب الصبور قد اعتاد طيلة تاريخه ـ حتى في أحلك الظروف ـ على ابتكار أشكال جديدة للمقاومة ، من النكتة إلى السخرية من الظالمين، ومن التجريس إلى الانتفاضة الشاملة، وهو ما رصده كل من كتبوا عن شخصية مصر حتى وهم يسلطون الأضواء ـ بغضب ـ مثلما فعل ” جمال حمدان ” ـ على النقائص والعيوب في هذه الشخصية من الميل إلى نفاق الأقوياء، إلى إزدواج المعايير إلى إنتاج الأمثال التي تزين القبح والتي سرعان ما نكتشف أنها كانت مجرد حيلة .

حين نقرر ـ انتصار على الأحزان ـ أن نبتكر الأمل وسط ظلام اليأس في سعي لهزيمته، فإننا لا نهيم في الفراغ وإنما نبني على تراث عظيم من فضائل الشعب المصري، ومن إبداع هؤلاء الذين رحلوا ولن ننساهم أبدا شرط أن نتعلم من خبرتهم وإنجازهم .

ولعل أهم ما علينا أن نضعه في الاعتبار ونحن نفعل ذلك أن ندرب انفسنا على فك شفرة الشخصية المصرية المركبة التي راكمت طبقات وطبقات من الحكمة والمعاني والقيم منذ أسهمت في إنبلاج فجر الضمير قبل آلاف السنين ولا يكفي في هذا الصدد أن نفخر بتاريخنا وإنجازنا القديم، بل ننظر في حاضرنا نقديا، ونحن نفخر أيضا بما أنجزه المصريون عبر ثلاثة أعوام 2011 ، 2013 حين نجحوا في إزاحة رئيسين، وحرروا البلاد من خطر الدولة الدينية والحرب الأهلية، ومازالوا يكافحون ضد الليبرالية الجديدة .

وأنتج المصريون عبر عملية التحرير هذه تراثا سياسيا وثقافيا لم ندرسه بعد بعناية لكي نرد عن أنفسنا اتهام العقم والفقر السياسي والثقافي، وتخلق التواصل الضروري مع تاريخنا في جوانبه المضيئة، وهو بالضبط ماكانت قد فعلته أجيال من المناضلين الشيوعيين واليساريين والوطنيين عامة بالمعنى الواسع، وكان هؤلاء جميعا يضعون بصماتهم المميزة في الميدانين السياسي والثقافي، ويقدمون للأجيال اللاحقة أو حتى المعاصرة لهم قدوة ، ويفتحون الأبواب أمام الوطن الجريح خاصة بعد الهزيمة، لتأتي هذه الأجيال الجديدة وتنتج بدورها لا فحسب تراثا ثقافيا وسياسيا جديرا بالعناية، وإنما لتنجز أيضا في الواقع العملي هذه الموجات المتتالية من الثورة، وترد الاعتبار لنفسها، ولكل الأفكار والقيم العليا التي ورثتها عن الكبار والراحلين وعن فضائل الشعب المصري المبدع وجنوده المجهولين الراحلين والأحياء في كل الميادين .

تعمق كل من “رفعت السعيد ” و” محفوظ عبد الرحمن ” في تاريخنا الحديث والمعاصر، وأنتج كل منهما رؤيته الخاصة عبر أدواته وأثبتا ان النظرة العلمية الموضوعية للأحداث في ارتباطها الوثيق بالعلاقات الاجتماعية تتسع لاستيعاب كل من الكتابة التاريخية والكتابة الفنية الجديدة ذات الرؤى المتماسكة والتطلع المشبوب لتغيير العالم، وزلزلة عروش الظالمين، وتأكيد ثقة الكادحين في أنفسهم وقدراتهم، وإبراز البطولة الجماعية والفردية للإنسان العادي لأن التاريخ باختصار هو من صنع هؤلاء أولا وأخيرا ـ وهم الذين أنجزوا الحضارة على مر العصور، وهم الذين دفعوا الأثمان الباهظة للتطور الإنساني، وحين اكتفى ملاك الثروة، والسلطة بقهرهم والنظر إليهم باحتقار وشفقة في بعض الأحيان، كانت هذه النظرة الجديدة الثاقبة إلى العالم التي تحلى بها كل من “رفعت السعيد ” و” محفوظ عبد الرحمن ” تضع هؤلاء البشر العاديين في أعلى مكان، وتمتن لهم وتفخر لهم .

ويحق لنا ونحن نودعهما أن نقول: نعم إننا سوف نبتكر الأمل ونحن نقف على الأرض الصلبة التي أسهما في تمهيدها لمصر كل بطريقته، ولذا لن نقول وداعا وكلنا ثقة أن الوداع لا يليق بالمؤسسين .