الإضراب عن الطعام في سجون المغرب(2)


عبد المجيد السخيري
2017 / 8 / 21 - 23:05     

الإضراب عن الطعام في سجون المغرب

يعد المغرب من البلدان التي اشتهرت بخوض سجنائها السياسيين لإضرابات محدودة وغير محدودة عن الطعام، وقد غطّت أزيد من خمسة عقود من الزمن من تاريخه المعاصر، انتهى بعضها بفواجع كان آخرها وفاة السجين والمواطن "خلادة الغازي" في إضراب مفتوح دام ثلاثة أشهر كاملة، وفي حالات كثيرة نجح مضربون ومضربات عن الطعام في انتزاع المطالب وتحقيق مكاسب مهمة بفضل الضغط وتحرك الرأي العام، بينما لا تزال تشهد عدد من سجون المملكة إضرابات طعامية منها المحدودة وغير المحدودة. وحسبنا أن نفتصر هنا على استرجاع سريع لأشهر محطات الإضراب اللامحدود عن الطعام الذي خاضته مجموعات متنوعة المشارب السياسية والفكرية، بينما يصعب حصر عدد الإضرابات المحدودة عن الطعام التي تشهدها البلاد كل شهر تقريبا، خاصة تلك التي يخوضها معتقلو الحركة الطلابية الذين تعج بهم السجون، فيما يعتبر هؤلاء من الفئات الأكثر استهدافا بالاعتقالات السياسية منذ ستينيات القرن الماضي نتيجة تواصل النشاط النضالي والسياسي بالجامعات المغربية رغم الضربات المتتالية التي استهدفت إقبار الحركة الطلابية التقدمية منذ سبعينيات القرن الماضي.
وسنركز في هذا الجزء على سرد تجارب من الإضراب غير المحدود عن الطعام انتهت دراماتيكيا باستشهاد مضربين بعد أن تجاوزوا الخط الأحمر لقدرة الجسم على تحمل الجوع والإمساك عن الأكل.

إضراب الشهيدة سعيدة المنهبي

إنه الإضراب الشهير الذي خاضه 120 معتقلا ومعتقلة من اليسار الماركسي اللينيني بالسجن المركزي بالقنيطرة في شهري نونبر-دجنبر من سنة 1977 وانتهى بعد 45 يوما باستشهاد المناضلة الثورية سعيدة المنبهي ( أستاذة الفرنسية وشاعرة كانت معتقلة بسجن الدار البيضاء لعدم وجود جناح النساء بالسجن المركزي)، والاستجابة لأهم مطالب المضربين(ات). وقد شكل هذا الإضراب الأول من نوعه في المغرب، من حيث المدة الزمنية وروح التحدي، محطة رمزية وسياسية مهمة في تاريخ الكفاح اليساري في المغرب. وكانت سلسلة من الإضرابات عن الطعام قد دشنتها مجموعات معتقلي الحركة الماركسية اللينينية بشكل متوالي منذ سنة 1972 إلى غاية الإضراب الكبير لسنة 1977، استطاع خلالها المضربون(ات) التعريف بقضيتهم(ن) على أوسع نطاق وانتزاع مكاسب مهمة في كل مرة تلتحق فيه مجموعة جديدة بسجون البيضاء والقنيطرة والرباط. وكانت ثمرة الإضراب الشهير تحسين ملموس لأوضاع المعتقلين السياسيين على كافة الأصعدة، وفرض الاعتراف العملي بهويتهم كمعتقلين سياسيين، رغم استمرار الإنكار على مستوى الخطاب الرسمي.

إضراب الشهيدين مصطفى بلهواري وبوبكر الدريدي

يتعلق الأمر بالإضراب البطولي لمجموعة مراكش، والذي يعد الأطول من الناحية الزمنية في العالم أجمع. فقد انطلق إضراب مجموعات المعتقلين على إثر انتفاضة يناير الشعبية للمطالبة بالاعتراف بهم كمعتقلين سياسيين يوم 4 يوليوز من سنة 1984، وبشكل خاص مجموعة العشرة التي صنعت الحدث الذي سيكون له تأثير ملموس على مسار قضيتهم، بعد أن تم توحيد معركتها مع إضراب مجموعات أخرى في نفس الفترة على أساس تحقيق ملف مطلبي شامل، قبل أن يعرف الإضراب تحولا مهما في المرحلة الثانية. وأهم ما ميز إضراب المجموعة الأولى الشهيرة هو مواصلة ستة من أفرادها للإضراب عن الطعام إلى غاية إطلاق سراحهم في صيف 1991 بعد استشهاد اثنين منهم: بوبكر الدريري(27 غشت 1984 بسجن الصويرة) ومصطفى بلهواري(28 غشت 1984 بسجن آسفي)، وذلك بعد ثمانية أسابيع من الإضراب، فيما رفض باقي المعتقلين وقف الإضراب رغم كل التدخلات والضغوط والتنكيل الذي تعرضوا إليه بعد تشتيتهم على عدد من السجون بجنوب المغرب. وحسب ما جاء في شهادة أحد أعضاء المجموعة(حسن أحراث)، فقد تم نقل الحالات المهددة من سجني الصويرة وآسفي لإخضاعها للمراقبة الطبية الصارمة بإشراف أطباء تم استقدامهم من الدار البيضاء لتفادي سقوط ضحايا جدد في ظرف سياسي دقيق(الانتخابات التشريعية)، بينما سيتم وقف الإضراب بعد 62 يوما إثر تلقي وعود بتحقيق مطالب المضربين على مستوى باقي المجموعات الأخرى، بعدها سيصبح من الصعب عليها إدارة معركة موحدة بسبب الاختلافات التي دبت بينها على مستوى التقديرات والقراءة السياسية للوضع القائم. ولكي لا يٌثار الاستغراب حول مدة الإضراب واستمرار باقي أفراد المجموعة الأولى على قيد الحياة، فإن السر يكمن في استئناف هذه الأخيرة للإضراب، بداية في شكل سلسلة إضرابات إنذارية، منها واحد استمر 25 يوما وتم توقيفه لمنح الجهات المسؤولية فرصة الوفاء بوعودها، قبل أن يظهر أن الأوضاع بقيت على حالها وهو ما دفع المجموعة للدخول في إضراب لا محدود عن الطعام بداية من 23 يونيو 1985 تم خلاله نقل بعض أفرادها إلى المستشفيات حيث سيتم إخضاعهم لتغذية قسرية عن طريق المسبار وتخديرهم وتقييدهم مع الأسرة في ظروف احتجاز وحشية ولا انسانية، مع أنهم كانوا كلما استفاقوا قليلا من الغيبوبة يقومون بنزع أنبوب الحقن(أنظر سردا وتوثيقا لهذه التجربة المهمة في كتابين ل"حسن أحراث"، صدرا على التوالي سنتي 2006 و2012).

إضراب الشهيد عبد الحق شباضة

وهو الإضراب الذي خاضه مجموعة من المعتقلين السياسيين بسجن لعلو بالرباط، وتميز بتحطيم رقم قياسي في مدة الإضراب المتواصل عن الطعام في تلك الفترة، قبل أن يتوقف باستشهاد المناضل اليساري (من الفصيل الطلابي المعروف ب"القاعديين التقدميين") عبد الحق شباضة في 19 عشت 1989. وكان الإضراب قد انطلق يوم 17 يونيو من نفس السنة وتواصل في ظل ظروف قاسية، وفي ظل الإهمال واللامبالاة التامة من قبل الهيئت الرسمية، وكذلك في غياب أي عناية طبية بأحوال المضربين أو تقديم الاسعافات الأولية لمنع تدهور حالتهم الصحية بسبب الإضراب، ومنع الزيارات العائلية، إلى أن وقعت الفاجعة بعد انصرام 62 يوما من الإضراب باستشهاد شباضة الذي كان يقضي حكما بالسجن النافذ مدته سنة واحدة، بينما سيتكبد رفاقه المضربين انهيارا صحيا واضحا، كان من أقوى تجلياته اختلال كامل لجسد العلمي البوطي، وغيرها من الأعراض الأخرى التي لا تزال إلى يومنا تظهر على ملامح وحركات معتقلي المجموعة ممن بقي منهم على قيد الحياة. ومن الملفت أن النهاية المأساوية لهذا الإضراب ستكون بداية سلسلة التنازلات التي سيضطر النظام المغربي لتقديمها في ملف الاعتقال السياسي قبل أن تنتهي بإطلاق سراح أعداد كبيرة من المعتقلين السياسيية في أغلب السجون والكشف عن مصير من تبقى على قيد الحياة من المعتقلين العسكريين بحجيم تازمامارت، بعدما تنكرت أجهزة النظام وأحزابه لسنين طويلة لوجود معتقل سري يحمل هذا الاسم رغم إثارته في تقارير المنظمات الحقوقية، والمطالب المتكررة للكشف عن مصير من تم اعتقالهم من العسكريين إثر المحاولتين الانقلابيتين على نظام الحسن الثاني أوسائل سبعينيات القرن الماضي.

إضراب الشهيد مصطفى مزياني

مرة أخرى يكون الإضراب القياسي الذي عرفته سجون المغرب من تسجيل طالب جامعي من اليسار الطلابي (قاعدي)، ويتعلق الأمر بإضراب خاضه الطالب المعتقل مصطفى مزياني عن الطعام لمدة 72 يوما للمطالبة أولا، بتراجع مجلس الكلية عن قرار طرده، وثانيا بإطلاق سراحه بعد أن جرى اعتقاله وإيداعه السجن من داخل حرم جامعة ظهر لمهراز( محمد بن عبد الله ) بفاس. وقد نعى مناضلو الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الشهيد مزياني في 13 غشت 2014. وكان طالب يساري آخر اسمه عز الدين الرويسي، معتقل بسجن تازة، قد تجاوز المائة يوم من إضرابه المفتوح عن الطعام أواخر سنة 2011 لأجل مطالب بسيطة لا تتعدى وقف الاعتداءات والإهانات التي كان يتعرض لها يوميا على يد السجانين، وذلك في أطول إضراب طعامي شهدته السجون المغربية إلى حدود تلك السنة.

إضراب الشهيد خلادة الغازي

هذا إضراب مختلف عن الإضرابات السابقة من حيث طبيعة القضية التي ارتبط بها مصير المعتقل، وقد انتهى بفاجعة استشهاد المضرب بمستشفى مدينة بني ملال بعد ثلاثة أشهر من معركة الأمعاء الفارغة عانى خلالها من إهمال وتعذيب نفسي رهيب، كما جاء في نعي العائلة لابنها "خلادة"، لينضاف اسمه إلى قائمة شهداء "الحكرة" كما صار يطلق عليهم. لا يتعلق الأمر هنا باعتقال لأسباب سياسية، ولا بإضراب عن الطعام من أجل المطالبة بحقوق السجين السياسي كما في الحالات السابقة، وإنما بقضية الشطط في استعمال السلطة والاحتقار والاعتقال التعسفي بخفلية انتقامية تم تسخير السلطة فيها من قبل أطراف تتصرف خارج القانون وتستعمل نفوذها وعلاقاتها مع السلطة للحصول على امتيازات أو أحكام قضائية ظالمة. وقد أدرجنا في الجزء الأول من هذا المقال ظروف اعتقال الشهيد إلى غاية وفاته مضربا عن الطعام دفاعا عن مطلب بسيط يتمثل في إنصاف عائلته في مواجهة ما وقع عليها من ظلم وتكالب للسلطة، بداءة خوض باضرابات عن الطعام محدودة قبل الاعتقال، قبل أن يقرر الدخول في معركته القاسية بإضراب مفتوح عن الطعام بعد اعتقاله بتاريخ 25/04/2017 بأزيلال وإحالته على السجن المحلي لبني ملال، ثم بعدها اعتقال أخيه "حسن خلادة" لدى حضوره إلى محكمة الاستئناف ببني ملال قصد تقديم شكاية والحكم عليه بسنة سجنا نافذة يوم استشهاد أخيه، وذلك إمعانا في التنكيل بالعائلة الصامدة في وجه شخصية نافذة تتصرف خارج القانون تحت حماية السلطة. وقد رفضت العائلة في البداية تسلم جثمان ابنها الشهيد مؤكدة عزمها على مواصلة معركته وكشف ملابسات ما حدث وتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاء، تنفيذا لوصية ابنها "خلادة" بأن لا يُدفن حتى تسترد العائلة حقوقها، وعدم دفنه بالدوار الذي رأى فيه النور بقرية في نواحي واويزغت باقليم أزيلال غضبا من سكانه الذين استسلموا في مواجهة الشخص الذي استولى على أراضيهم بمباركة السلطة وعمد إلى بناء سور يمنع عائلة الغازي من استعمال المسلك المؤدي إلى مسكنها انتقاما منها لأنها وقفت في وجهه وتحدته بشجاعة. وقد قبلت العائلة بدفن ابنها أخيرا خارج الدوار بعد الشروع في التحقيق حول قضيتها وفتح الطريق موضوع نضال العائلة في انتظار استعادة جميع حقوقها ومحاسبة كل تورط في ملف القضية التي استشهد ابنها الأول في سبيلها فيما لا يزال الابن الثاني في السجن. والحقيقة أن هذه القضية ستظل عارا على بعض القوى والجماعات التي أدارت ظهرها لنداءات العائلة وهي التي اعتادت الهرولة نحو قضايا هامشية لمجرد أنها مثيرة وتجذب الأضواء الاعلامية.
لا تزال سجون المغرب تشهد بين الفينة والأخرى إضرابات عن الطعام محدودة أو مفتوحة، ومن غير المستبعد أن نسمع عن سقوط ضحايا جدد، خاصة مع العودة التدريجية لنهج التعنت بإدارات السجون ولأساليب التنكيل والضغط على المعتقلين والانتهاكات السافرة لحقوقهم البسيطة في الزيارة المباشرة والفسحة ومتابعة الدراسة، أو أحيانا كثيرة التضييق على عائلاتهم أثناء الزيارة واستفزازهم، وغيرها من أوجه المعاملة الحاطة بالكرامة التي عادت إلى الواجهة بعدما اعتقد الكثيرون أنها ولت إلى غير رجعة في عهد "المصالحة" و"طي صفحة الماضي"...