هل تعرف من هو لورنس العرب الألماني؟


مولود مدي
2017 / 8 / 15 - 01:15     

من يقرأ الحرب العالمية الثانية مستحيل أن يجهل من هو لورنس العرب أو الجاسوس البريطاني تي لورنس أشهر جاسوس في القرن العشرين، والذي ساهم في إسقاط الإمبراطورية العثمانية، وتأليب سكّان الخليج على العثمانيين، ودفعهم للثورة على الإمبراطورية واعدًا إيّاهم بالاستقلال، ودعم بريطانيا لهم للتخلّص من الاستبداد العثماني، هذا الجاسوس استطاع التقرّب من العرب ورأى فيهم كمّ الحقد الكبير الذي يكنّونه للأتراك، والرغبة الجامحة في التخلّص منهم، وبسبب تمكّنه الجيد من اللغة العربية وقربه من العرب، أوكلت إليه بريطانيا مهمّة إقناع العرب بضرورة الثورة على الأتراك، والتي ستخدم بريطانيا التي كانت تحارب ألمانيا حليفة الدولة العثمانية، وبعد نجاح مهمّته في خداع العرب، عرض عليه ونستون تشرشل آخر مهمّة له، وهي المشاركة في رسم الحدود الجديدة للدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى، أما العرب فشعروا أنهم قاتلوا من أجل لا شيء، فقد قتل عشرات الآلاف من العرب ودمرت بغداد ودمشق أملًا في الاستقلال ليجدوا أنفسهم أنهم ضحية لمحتلّ جديد أشد وحشية وخطورة من الأول، لكن في الحقيقة من حاول تجربة زرع الجواسيس لخداع العرب والمسلمين ليس البريطانيون فقط، بل حتى الدولة العثمانية بتحالفها مع الإمبراطورية الألمانية حاولت زرع الجواسيس في المستعمرات البريطانية المسلمة لكي تتم الدعوة فيها إلى الجهاد لكسب المسلمين إلى صف ألمانيا والدولة العثمانية، فأصبح الجهاد ذا معنى انتهازي عند الدولة العثمانية، فقائد الجيوش العثمانية إنفر باشا لم يكن همّه الإسلام والمسلمون، بل همّه هو إعادة أملاك الدولة العثمانية الضائعة في أوروبا، وعلى الخصوص في البلقان، أي الهدف هو إمبراطورية جديدة، فمن هو بطل هذه الجاسوسية؟ إنه الألماني ماكس فون أوبنهايم الذي تم الترويج له، ولا يزال يروّج لحد الآن على أنه رحالة وعالم آثار ودبلوماسي ومستشرق.

ولد ماكس فون أوبنهايم في 15 يوليو (تموز) 1860 في إقليم كولونيا، وهو ابن البارون ألبرت فون اوبنهايم أحد أعظم مستكشفي الآثار في الشرق الأوسط، في عام 1883 أصبح دكتورًا في الحقوق في جامعة غوتنغن، ثم سافر إلى القاهرة وتعلّم اللغة العربية فيها من أجل إعداده لأرقى المناصب الديبلوماسية الألمانية كما ابتعد عن الأوروبيين وحرص على الاختلاط بالعرب، وفي عام 1910 تم تعيينه في أحد أرفع مناصب السفارة الألمانية, كان ماكس فون أوبنهايم قد حمل في حقيبته تفويضات من قبل شركات ومؤسسات أخرى للقيام بمهمات لصالحها في المنطقة العربية، كما طلب منه آنذاك مدير البنك الألماني دويتشه بنك ترأس بعثة استطلاعية يمولها المصرف لوضع خطة لمشروع خط قطار بغداد – برلين.

واستطاع فون أوبنهايم أن يحقق رغبة المصرفي الألماني في وضع دراسة حول طرق المد خط قطار بغداد – الموصل – حلب، بحيث سيشكل مشروع سكّة الحديد هذا تهديدًا كبيرًا لبريطانيا ولمصالحها التجارية ويعرّض مستعمراتها لخطر الاعتداء الألماني عليها، إن سبب تكليف البنك الألماني لهذا الرجل ليس صدفة، إذ أمضى ماكس فون أوبنهايم سنوات طويلة في المنطقة العربية، كما وضع جدولًا دقيقا تضمن أسماء العشائر وفروعها بحسب ديارهم ومناطق ترحالهم في الصيف والشتاء حتى عدد خيامهم، وكتب تاريخ كل عشيرة وتاريخ مشايخها بحسب المناطق الجغرافية التي يتجولون فيها، وقسمها إلى عشائر سورية وفلسطين وبين النهرين والعراق والجزيرة العربية وكل ما يرتبط بهذه العشائر من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ مما مكنه من إقامة علاقات قوية مع عدد كبير من الأفراد والشيوخ والعلماء والأدباء والسياسيين والمستشرقين الذين عملوا معه، ولذلك نفهم لماذا اختارت ألمانيا هذا الرجل للتجسس على العرب وتحريضهم على المستعمرين البريطانيين.

حتى وقت قريب كان ماكس فون أوبنهايم معروفًا أنه ابن مصرفي ألماني، وأنه أصبح في حياته دبلوسيًا وعالم آثار اكتشف (تل حلف) في سوريا، المنطقة الواقعة على حدود هذا البلد العربي مع تركيا، علاوة على أن الكثيرين من الخبراء يصفونه بالمستشرق، وضع دراسات هامة كثيرًا عن المشرق، لكن أحدًا لم يكن يعرف سره الدفين، وأنه في الحرب العالمية الأولى جاء إلى الشرق العربي ليفجر نيران حرب بين العرب والمسلمين من جهة والبريطانيين من جهة أخرى، بدعوته إلى حرب الجهاد. بعد أن أدخل القيصر الألماني في حساباته إمكانية إضعاف الإمبراطورية البريطانية، أوعز إلى فون أوبنهايم القيام بمهمة جهنمية وتحريض العرب والمسلمين على الجهاد. وحاول فون أوبنهايم عند بلوغه سن الثمانين إقناع خبراء الشرق الأوسط الذين كانوا يعملون في إدارة الزعيم النازي أدولف هتلر، أن يستعينوا بسلاح (الجهاد الإسلامي) ضد إنجلترا.

أصبح فون أوبنهايم مديرًا لأحد فروع المخابرات الألمانية: جهاز الاستعلامات الخاص بالشرق الأوسط، ولقد استطاع تشكيل تمرّدات وثورات في المستعمرات البريطانية واستكشف مدى عداء الفرس المسلمين أو الإيرانيين للأنجليز، كما دعم هذا الجهاز التنظيمات الهندية الثورية، مثل تنظيم غادار وجوغانتار، ودعم أيضًا الناشطين الهنديين المسلمين، مثل مولافي بركة الله، وحاول عن طريق الدعم العثماني في تطويق أمير أفغانستان عن طريق تسليح العصابات الافغانستانية للثورة على الأمير، لكن تم التخلّي عن هذا المشروع.

وبعد اشتعال نيران الحرب العالمية الأولى، طلبت برلين من القادة العثمانيين أن يدعو السلطان محمد الخامس من عاصمة الإمبراطورية العثمانية في إستانبول جميع المسلمين لحرب الجهاد ضد بريطانيا. في هذه المرحلة شعرت برلين بحاجة ماسة لخدمات ماكس فون أوبنهايم، وبين ليلة وضحاها منحته برلين صفة الاستراتيجي الأعلى لمنطقة المشرق ويحصل على الأوامر مباشرة من القيصر، وبعد اندلاع الحرب بوقت قصير وضع فون أوبنهايم ورقة استراتيجية تحت عنوان: إشعال ثورات في المناطق الإسلامية التي يسيطر عليها أعداؤنا البريطانيون، بمعنى آخر: إشعال حرب الجهاد ضدهم. تضمنت الخطة الدعوة لانقلابات واغتيالات واضطرابات وأعمال شغب تواكبها حملات إعلامية والترويج لشائعات مغرضة وذلك في المناطق من قناة السويس إلى حقول النفط في باكو بأذربيدجان، لكن عموما الدعوة إلى الجهاد الذي انتهجه فون اوبنهايم كانت دعوة لم تحقق الهدف المراد منه وهو تحريض المسلمين ضد بريطانيا وتفتيت مستعمراتها في حروب دموية وحشية، إذ كان يدعوا فون أوبنهايم إلى الجهاد ضد الكفرة مستغلًا قربه من زعامات عربية محلّية وشيوخ قبائل عربية، لكن لم يتحقق هدف الألمان في إضرام النار بالإمبراطورية البريطانية لسبب وحيد وهو أن المسلمين لم يكن لديهم رغبة على الإطلاق بحرب جهاد إلى جانب الألمان الذين كانوا ينظرون إليهم ككفرة أيضًا، وليس هذا هو السبب فحسب، بل السبب الرئيس الذي ساهم في نجاح لورنس بريطانيا وفشل لورنس ألمانيا هو درجة القمع والاستبداد الذي تعرّض له العرب، إذ إن العرب عانوا من الاستعمار العثماني أكثر من معاناتهم من الاستعمار البريطاني.

الخلاصة التي نستخلصها من هذا البحث التاريخي هي أن الدين دائمًا يتم استغلاله في الصراعات البشرية، سواء في الحرب أو السياسية، فباسم الجهاد تم إبادة أمم ومجتمعات والقضاء على الحضارات بحجّة نشر الاسلام، إن أغلبية الصراعات البشرية يتم تديينها بسبب مكانة الدين عند الإنسان وسهولة استمالته بشعار الدين، وعندما يصل التطّرف أعلى درجاته، يستطيع المتديّن أن يتحالف مع الملحد لكي يقتل أخاه المتدين.