سوء التدبير


محمد باليزيد
2017 / 8 / 14 - 21:03     

الحضارة الإنسانية، في كل تجلياتها، مبنية على الاجتماع. استفادة المجتمع من الفرد واستفادة الفرد من إمكانيات المجتمع. وكلما تزايدت المجالات و الحاجيات التي يتداخل فيها الفرد مع المجتمع، كلما ارتقى المجتمع وتطور. وكلما كثرت الحاجيات التي يلبيها الفرد بوسائله الخاصة دون الاستفادة من خبرة المجتمع وإمكانياته، كلما نحا المجتمع نحو الجماعة البدائية.
انتشار صحون الهوائيات فوق أسطح المنازل والعمارات أصبح ظاهرة معتادة، مسألة اقتضاها التطور التقني للبشرية ولا بديل حاليا عنها. ولا أتفق، بالمناسبة، مع من يضخمون الأمور بشأن هذا ويعتبرون تلك الصحون "ملوثة للمنظر". إلا أن أسطح مدن أخرى أصبحت مكتسحة اليوم بأشياء من صنف آخر، إنها خزانات الماء. براميل أو علب ضخمة سعتها ما فوق المتر مكعب تتزود بالماء حين يكون الصبيب قويا وتزود الأسرة بهذه المادة الحيوية حين يضعف الصبيب أو ينعدم. لكن الصبيب قد لا يتقوى خلال ال24 ساعة كي يملء هذه الخزانات بحيث يكون تدفق الماء فقط مقتصرا على الطابق السفلي أو الأول في أحسن حال. ولهذا فلملء هذه الخزانات لا بد من مضخة كهربائية صغيرة تركب غالبا بجانب عداد الماء تعطي هذا الأخير الطاقة الكافية كي يصل الخزانات فوق الأسطح.
هذا وجه أول من الظاهرة، أما الوجه الثاني فهو أنه من الصباح حتى الساعات المتأخرة من المساء تجوب الشوارع والأزقة شاحنات وسيارات (Pick Up) ودراجات ثلاثية حاملة "الماء الخلو"، ذلك أن الماء الذي تكلفت الأسرة بوضع خزانات له وإصعاده بالمضخات حتى هذه الخزانات، ذلك الماء غير صالح للشرب وإنما فقط للحاجات الأخرى. كما أن من تعب من شراء "الماء الخلو" يوميا أو نفر من ماء لا يدري من أين تجلبه الشاحنات يكلف نفسه شراء وتركيب آلة تصفية صغيرة مهمتها استخراج ماء صالح للشرب من ماء "المكتب الوطني للماء الصالح للشرب"، فما هو إذن معيار هذا المكتب الذي به يصنف مياهه بأنها صالحة للشرب؟
نحن هنا أمام ظاهرة تسائل المؤسسات من زوايا عدة. صحيح أن هذه الظاهرة مقتصرة على مدن في مناطق جافة، لكن الجفاف وحده لا يمكن أن يبرر هذا الواقع.
- فبالنسبة لمياه "المكتب الوطني للماء الصالح للشرب" وإذا افترضنا أن كل أسرة ستستهلك، كمتوسط، لو أن الماء موجود بتدفق مستمر، ستستهلك كمتوسط 6 أمتار مكعبة. وأن هذه الأسرة تستهلك الآن فقط 5 أمتار مكعبة. وأن نهج "المكتب الوطني للماء الصالح للشرب" هو الذي أدى إلى نقص الاستهلاك هذا حفاظا على هذه المادة الثمينة. فإن السؤال المشروع هو: أليس ما يبذل من جهد وما يضيع من موارد، خزانات ومضخات ولوازم ترصيص (la plomberie)، أليس هذا ثمنا باهظا مقابل شيء من الترشيد في الماء؟ ألا يمكن التفكير في نهج آخر يساعد على الترشيد ولا يبذر موارد أخرى؟
إن المستفيد الوحيد من سوء التدبير هذا هو شركات صناعة الخزانات والمضخات ولوازم الترصيص. فهل من التدبير في شيء أن نترك كل فرد يتدبر أمره بوحده في مسائل لو حلت بشكل جماعي لكانت التكلفة أقل بكثير؟
- أما مسألة الماء الحلو، والذي تهدر من أجله موارد كي يتزود به السكان، شاحنات وسيارات ومحروقات وموارد بشرية، فنعتقد كذلك أن الحل الجماعي لها ليس مستحيلا: فمادام الماء الحلو موجود في مكان ما وتجلبه الشاحنات، فيجب على "المكتب الوطني للماء الصالح للشرب" أن يحفر الآبار ويمد القنوات التي توصل هذا الماء إلى شبكته، يوصله نقيا غير مشكوك في صلاحيته. وعوض أن يترك هذا الماء متدفقا في الشبكة طول اليوم باستطاعته أن يحدد ساعات، بالليل مثلا كي لا يستعمل هذا الماء في مسائل كالصناعة والبناء، ساعات يضخ خلالها هذا الماء كي تملأ الأسر القنينات الكافية للشرب فقط.
إن سوء تدبير مؤسساتنا ينتج عنه على الأقل النتائج التالية:
- إهدار موارد جمة نحن في حاجة إليها كي تستثمر في مجالات أخرى.
- تعويد المواطن على منطق "ما دامت إمكانياتي..." فلا شأن لي بالآخرين وهمهم.
- استفادة بعض الجهات من الضرر المجتمعي العام. في حالتنا هذه شركات صناعة الخزانات والمضخات....