زبيدة


بدر الدين شنن
2017 / 8 / 8 - 14:57     

بعد أن ذهبت زبيدة إلى العمل صباحاً .. ومضى بعض الوقت على جلوسه وحيداً ، فوجئ بكر بشعور طاغ من الحزن والأسى ، أكثر من أي يوم آخر . ليس لأن أمراضه ، رغم العلاج المتواصل ، قد استعصت على الشفاء .. وليس لأن عمره قد مضى شوطاً كبيراً نحو العجز والشيخوخة.. وإنما لأنه مازال يتردد .. ويمتنع عن الأنين بصوت مسموع من الألم .. وأن يقول آه .. طويلة مكررة نابعة من أعماق مشاعره ، أمام زبيدة . أمام تلك الإنسانة الرقيقة .. التي تعبر عن عشقها الصوفي له .. بشدة العناية به .. وتأمين دوائه .. وطعامه المناسب .. والحرص على الاتصال به ، عندما تكون خارج المنزل ، لتؤنسه ، وتطمئن عليه . ومراعات انفعالاته الدامعة أحياناً .

وقد بدأت زبيدة حبها لبكر .. وعشقها اللامحدود له .. منذ اللحظة ، التي جمهما فيها الصديق علي ، للتعارف تمهيداً للزواج بينهما . وكان علي صريحاً ، إلى حد ما ، في تعريفها به . فقال إن بكر مهاجر .. إنه لاجئ سياسي .. وأنه تلقى تعذيباً فظيعاً أثناء التحقيق معه .. سبب له آلاماً موجعة أيام التحقيق .. وأمراضاً وأعراضاً مشوهة ، لازمته بقية العمر ، وبخاصة في الراس ، والأذن ، والقلب . وقد أمضى زمن الملاحقة المرهقة ، وزمن السجن ، اكثر من عشر سنوات من عمره . ولما أفرجوا عنه لم يكن لانتهاء عقوبة ما في السجن ، وإنما لأ نهم كانوا يتصورون .. وأكدت لهم لجنة طبية مختصة ،، أنه ميت لامحالة بعد مدة قصيرة جداً ، من السجن . لأنهم نالوا من جسده تحت التعذيب الكثير .. الكثير . ولما كان الصديق يسرد عذابات بكر ، وآلامه ،وظروفه .. كانت زبيدة تسرح في عالم غريب مؤلم أيضاً .. لقد عانت هي الكثير من ظلم واضطهاد زوجة أبيها ، التي كنت تجوعها ، وتضربها لأتفه الأسباب ، وحرمتها من الذهاب إلى المدرسة لترعى البهائم ، وتخدم جميع أفراد العائلة.. لكنها لم تكن تتصور .. أن يحدث لإنسان في هذا العالم مثل ما حدث لبكر ..

كانت تسمع ما يقوله علي ، لكنها تمعن النظر بحنان ببكر .. عطفت عليه .. وتعاطفت مع ظروفه الجديدة . وفكرت .. لا يمكن أن يكون هذا الإنسان المظلوم .. الذي عانى أقسى أنواع الظلم ، إلاّعظيم المشاعر وحنوناً مع الآخرين . وبدون أي مقدمة أو شرط .. قالت زبيدة فجأة ، حتى قبل أن يفتح موضوع الزواج .. قالت موافقة .
لم يصدق علي سماع تلك الكلمة الخاتمة مسبقاً لحديث زواجها من بكر .. دون أي سؤال .. أو طلب .

وطوال أكثر من عشرين عاماً على زواجهما .. لم تعدل .. ولم تغير زبيدة من رعايتها .. وحنوها .. ومشاعرها الرقيقة .. تجاه بكر . بل زادت رأفة به واستجابة لخدماته .
قد تخاصمه أحياناً .. لكن ليس من أجل شيء يخصها .. أو ردة فعل منها جول موقف أو كلمة من بكر مست كرامتها .. وإنما من أجله هو . وذلك عندما تراه أهمل تناول الدواء في وقته .. أو وجدته مستسلما أكثر مما تتوقع لعجز المرض .. وتطالبه أن يبذل جهداً أكبر .. أن يتحرك .. ليخفف انعكاسات المرض عليه .. من قدميه إلى رأسه .

لكنه اليوم استغل غيابها .. وبكى بصوت مسموع . وصرخ .. آه .. آه .. آه .. مرات ومرات . وشهق مرات عدة وهو يبكي .. وخاصة ..
كلما تذكر التعذيب المتوحش له ولزملائه .. التعذيب الذي ذبحـه وهو حي .. وانغمس بالبكاء أكثر ..
وكلما تذكر سنوات الظلم خلف القضبان .. زادت عنده حرقـة الآه في صدره وقلبه .
وكلما تذكر المنفى المديد .. الذي اختاره دعماً للحرية في وطنه .. يكاد ينفجر ألماً .. لأن الوطن الآن كله بلا حرية .

وشعر في تلك اللحظات .. أنه صار خلافاً لعاداته من قبل .. أنه في هذا الزمن اللعين الأسود زمن الحرب .. صار انفعالياً عاطفياً .. إن شجون وآلام وكوارث الحرب ، انغرست في عمق أعماق مشاعره وخاصة إزاء الأطفال .. إن الحرب تقوم بتعذيب الشعب كله .. وليس بتعذيب بضعة أشخاص .
ولما تذكر أن زبيدة سوف تحضر إلى البيت بعد قليل . قام وغسل وجهه . وألزم نفسه بالهدوء والتفاؤل .
إن زبيدة يجب أن لا تمزق الآن عواطفها .. ووان لا تطغي دموعه على استقرار حنوها وعطائها.. لأنها لا تتحمل ذلك . ولا يمكن إلاّ أن تفسر ذلك وداعاً لها ، ورمي كل أمنياتها بشفائه وطول عمره أرضاً .. دون رحمة بها أو احترام لها ..
وقد يصيبها الألم الذي لا علاج له .. إذا أحست أنه قد استسلم للنهاية المكروهة المؤلمة جداً لها .
وهدأ ما بداخله .ز وقال بنفسه جازماً .. لا .. لا .. يا قلب .. إلاّ زبيدة ..

ودخلت زبيدة إلى البيت مبتسمة .. حاملة سلة المشتريات . وبدأت تروي له .. عن مداعباتها لبعض الأطفال من الحي .. وتقول له فجأة .. انظر ماذا جلبت لك .. إنه جميل .. إنك تحبه .. أليس كذلك ؟ .. ثم تفاجئه بسؤال جاداً .. هل أخذت الدواء في وقته ..
وبحركة عفوية تنفسية عميقة .. قال بكر .. بصوت مصحوب بنبرة عالية قليلاً .. آه .. آه .. يا زبيدة . وغا در عينيه خطان من الدموع ..