الإحتفاء بذكرى يوليو المجيدة


نجاة طلحة
2017 / 7 / 31 - 11:56     

الإحتفاء بذكرى يوليو المجيدة
كان عدد الميدان (صحيفة الحزب الشيوعي السوداني) الخاص عن حركة يوليو 1971 جرعة راحة طال إنتظارها كثيراً، فقد كان موقف الحزب وتقييمه لتلك الحركة الثورية توفيقياً، بين النقد المجحف لتلك الحركة الباسلة، والحقيقة الغنية عن التبيان لدور الحزب فيها، لذلك شاب التقييم الكثير من الضبابية وكاد أن يُوسم من المتابعين بكونه نفاق سياسي أو هروب من المسؤولية. في تقديري أن هذه المتاهة كانت نتيجة لمجافاة ذلك التقييم للمنهج العلمي الدقيق. فقد كانت يوليو حركة تصحيحية، تماماً كما وصفها قادتها، لكنها قُيمت بمقياس الثورة، فكانت النتيجة المتحصلة أنها إنقلاب عسكري، أي أنها وضعت في القالب الخطأ فكان من الطبيعي أن لا يستوعبها.
إن موقف الحزب الرافض للإنقلاب العسكري كوسيلة للتغيير لم تمله المعايير البرجوازية لشروط الديمقراطية الليبرالية الزائفة، بل هو مستمد من مبدأ أن الثورة تصنعها الجماهير الواعية طبقياً، والتي تتمتع ذاتياً بالسند الشعبي الذي يشكل المصدر الأصلب للقوة. لكن ذلك لا يمنعنا من تقييم تجربة كانت وليدة ظروف، تشكلت على أساسها الوسيلة والتوقيت. وهي وإن لم تبلغ هدفها فقد كانت خطوة عملية أضافت دروساً تاريخية، كان أهمها أن حسابات الداخل مع أهميتها ليست كافية، فالإمبريالية بالمرصاد لكل ما يهدد مصالحها ولا تتوانى عن إستخدام كل أشكال التدخل. قد يختلف أو يقل التأثير في حالة الثورة الشعبية، لكن يجب إعداد العدة للتصدي له فالتدخل المباشر وغير المباشر يكون وارداً دائماً.
الخطاب الذي إعتمده الحزب في تقييم يوليو جعلنا نتحسس ذاكرتنا ونتشكك في صدقها. فراياتنا الحُمر تلك التي عانقت سماء الخرطوم وهتافاتنا الطبقية الهادرة المدوية والتي لازال صداها مجلجلاً في آذاننا يؤكد أن الحزب كان موجود عملياً وبكثافة في موكب التأييد الكامل لحركة يوليو الشجاعة. وليس هنالك أي مؤشرعلى أن ذلك الموكب قد كان من باب التضامن فقط. وعلينا نحن من عاصرنا تلك الأيام الخالدة الممهورة بدماء الشهداء أن ندلي بشهادتنا للأجيال اللاحقة، فقد كان ذلك ثمناً غالياً وعزيزاً. لم تكن يوليو مجرد مناورة عسكرية، فقد نجحت في الإطاحة بنظام مايو الذي لم تسعفه قواه التي من الواضح أنها كانت محسوبة بدقة من قيادة يوليو، بل أنقذه التدخل الخارجي. كيف لا ننحاز في تقييمنا ليوليو وهي هبة جسورة تزين تاريخ الحركة الثورية في السودان، وكيف لا ننتبه دائماً إلى أنه لا يوجد هنالك في قاموس المعرفة الثورية "حياد ثوري". كيف نتبرأ من كومونة يوليو وجميع من نفذوها شيوعيون وديمقراطيون، قيادة عسكرية كانوا أو من صغار الضباط والجنود، وذلك تاريخ لا يمكننا تغييره.
التحية للمؤتمر السادس الذي أعاد الأمور إلى نصابها، فالشيوعية لم يكن لها أن تُختزل في مجرد إسم أو لافتة تزين دار الحزب ولم يكن للماركسية أن تكون مجرد شعار. فلا يكون الحزب ماركسياً إذا وارى مواقفه خلف فذلكات اللغة (شرف لا ندعيه وتهمة لاننكرها) ولا يكون الحزب شيوعياً إذا لم يعلن مسؤوليته ومواقفه ويدافع عنها بشجاعة وجرأة ثوريتين.
أهم خطوة في إنصاف شهداء يوليو هي الإقرار بأنهم لم يخرجوا عن الخط السياسي للحزب، بل تصدوا لمهام طرحها الحزب في خطابه الداخلي في 25 مايو 1969. وبقراءة أولى لهذه الفقرة من الخطاب الداخلي نجد أن شهداء يوليو لم يفعلوا غير الإستجابة لتلك الموجهات الواضحة:
• ماجري صباح هذا اليوم انقلاب عسكري وليس عملا شعبيا مسلحا قامت به قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية عن طريق قسمها المسلح، واصبحت السلطة تتشكل من فئة البورجوازية الصغيرة.
• يبني الحزب موقفه من هذه السلطة علي أساس: دعمها وحمايتها امام خطر الثورة المضادة، وأن يحتفظ الحزب بقدراته الايجابية في نقد وكشف مناهج البورجوازية الصغيرة وتطلعاتها غير المؤسسة لنقل قيادة الثورة من يد الطبقة العاملة إلي يدها، فالبورجوازية الصغيرة ليس في إستطاعتها السير بحركة الثورة الديمقراطية بطريقة متصلة.
تحرك الضباط الشيوعيون عند إرتداد مايو عن خط الثورة الوطنية الديمقراطية الذي أعلنته وقد بدى واضحاً نهج البرجوازية الصغيرة في الإنفراد بالحكم. الحركة التصحيحية كانت لإعادة مايو إلى البرنامج الديمقراطي الذي طرحته في البداية والذي بنى عليه الحزب موقفه الداعم لها. لا شك أن الخطوة كانت مفصلية وذات أهمية تستوجب إتخاذ قرار محدد عن كيفية التحرك، شكله، وتوقيته. ولو تعلق الأمر بثورة لكانت الوجهة هي الجماهير، لكن يوليو كانت تصحيح لوضع قائم أصلاً وسلطة عسكرية أعلن الحزب تأييدها وطبيعة يوليو لم تختلف عن ذلك، ولم يكن للتصحيح إلا أن يأتي من الداخل. فلماذا تحفظ الحزب في تقييم تلك المبادرة.
كانت كومونة يوليو معلماً في تاريخ الحركة الثورية في السودان، وهي وعلى قصر عمرها تشكل مرحلة أصيلة في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني. فهي لم تكن إنفلاتاً يسارياً كما صُورت وبإصرار طيلة السنين الماضية. فما أصطلح على تسميتها بالحركات اليسارية، تعلن برنامجاً راديكالياً وهو ما لم تفعله يوليو. بل أعلنت برنامجاً وطنياً ديمقراطياً هو من صميم برنامج الحزب الشيوعي وطرحت مهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ونجحت في جذب الجماهير للبرنامج. ثم أن مايو نفسها لم تكن إنقلاباً على ديمقراطية حقيقية، فقد سبقتها ديكتاتورية مدنية ضربت عرض الحائط بقرارات المحكمة الدستورية وطردت نواب إختارهم الشعب عبر صناديق الإقتراع. ثم أن مايو أعلنت برنامج ديمقراطي، رغم التحفظ على إمكانية تنفيذه، في وقت كانت البلاد فيه على مشارف نظام ثيوقراطي أُعلن من خلال الدعوة للدولة الإسلامية أو ما أطلق عليه الدستور الإسلامي. وقد تكون كل تلك المعطيات مجتمعة، مع غيرها من الأسباب، وراء تأييد الحزب لمايو، مع تحفظه على تركيبتها الطبقية والتي سرعان ما صدقت فيها التوقعات.
شهداء يوليو الذين ثبتوا أمام المشانق وإعتلوها وهم يهتفون بإسم الحزب وحياة الوطن والذين واجهوا الرصاص بثبات الشيوعيين يستحقون أن يُمجدوا. حان الوقت الآن لتحليل يوليو كبرنامج وتجربة ثورية، بعيداً عن حدة التدقيق الصارم (purism) الذي أعاق تقييمها العلمي المتأني. لا يمكن أن نحمل يوليو مسؤولية الردة والتاريخ يقول أن الضربة جاءت من الخارج. من الإمبريالية التي شعرت بالفزع من خطورة ذلك التحرك الثوري على مصالحها في المنطقة بتحفيذه للنضال الطبقي، وما قد يلي ذلك من حراك ثوري قد يشمل المنطقة وشعوب العالم المقهورة. فنفذ عملاؤها المحليون مخططها لضرب كومونة يوليو.