في انتظار الملك!


عبد المجيد السخيري
2017 / 7 / 27 - 15:32     

كلما حلت وطرأت أزمة في المغرب، أو لاحت بوادرها في الأفق، وإلا وتعالت الأصوات من هنا وهناك تطالب بتدخل الملك أو تُمني النفس بذلك لعل وعسى يأتي الفرج على يديه. وهي تكاد تصير في عهد الملك الحالي عادة عند الكثيرين ممن يترصدون الأزمات والمآزق لإعلاء شأن الملكية في المغرب على حساب المؤسسات الأخرى من أحزاب وحكومة ومؤسسات منتخبة، على علتها، ومن ثم تكريس الاعتقاد بأن الملكية هي مبتدأ الحياة ومنتهاها وصمام أمان الوطن، وحيث أنه لا حاضر ولا مستقبل للبلاد من دونها أو حتى بتقليص طفيف لسلطاتها المتضخمة، أو إخضاعها للمحاسبة ما دامت مدمنة على الحكم ولا تقبل له بديلا أو تعديلا. والحال أن أصواتا تعتبر أن تدخل الملك بعد أزيد من سبعة أشهر من الاحتجاجات الشعبية المتنامية من الريف، والممتدة عبر باقي المغرب، بات ملحا ومستعجلا بعدما فشلت هيئات الوساطة في بلورة حلول وبدائل للحوار مع المحتجين وتلبية مطالبهم المشروعة، والتي تعترف بها الحكومة وأحزابها، ويقر بها غيرهم من اللاعبين في المحيط الملكي نفسه بشكل رسمي أو غير رسمي. البعض يفعل ذلك من موقع المقتنع بأن الملك شخص مُنزّه عن الصراعات ويعلو فوق الطبقات والمصالح المتطاحنة والمتنافسة، وبالتالي فهو محايد سياسيا ولا يمكنه إلا أن يُرجّح عند تدخله مصلحة الوطن ويضعها فوق كل اعتبار آخر؛ إذ أن ذلك هو ما يسلحه به الدستور ويجعله من أم مهامه واختصاصاته حصريا لا ينافسه فيها حزب ولا نقابة ولا جمل! والبعض الآخر يمتطي صهوة الجواد الملكي ليصفي حساباته أو حتى عقده الشخصية مع الوسطاء التقليديين من الأحزاب، وهي بالفعل مترهلة ومفلسة، والهيئات المنتخبة وباقي الوسطاء الآخرين من جمعيات مصطنعة ومؤسسات صورية، وهي كذلك في الأغلب الأعم نوادي للفاشلين والفاسدين والمدجنين. وفي أحسن الأحوال يستبق عدد غير قليل من هؤلاء الأحداث ليرمي بالكرة في مرمى خصوم حقيقيين أو مفترضين للنظام لشراء رضى القصر أو بعث رسالة إلى من يهمهم الأمر تفيد بأن صاحب القول والذوذ عن الملك مستعد للخدمة وتقديم الواجب إذا ما دُعي إليه! لا ننكر أننا، منذ الأيام الأولى لانطلاق الحراك الشعبي بالحسيمة(وهي مدينة تقع في منطقة معروفة بتاريخها الصدامي مع السلطة المركزية للمخزن العتيق وتبدو عصية عن الترويض)، سمعنا وقرئنا لبعض الأصوات من الوسطين السياسي والثقافي تدعو إلى تدخل ملكي لتطويق ما جرى توصيفه كأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات، ليس بموجب ما ينص عليه الدستور من أدوار حاسمة للملك في إدارة البلاد وحكمها فحسب، وإنما بالتأكيد على الدور الاستراتيجي للملكية في النسق السياسي وقدرتها الاستثنائية المزعومة على حل الأزمات وإدارتها بحكمة وبإجماع مختلف الفاعلين. وفي هذا الباب غالبا ما يُحيل أصحاب هذا الرأي على ما فعلته إبان اندلاع الحراك الفبراييري( نسبة إلى حركة 20 فبراير) حين نجحت في احتواءه وإخماد شعلته بمبادرتها المعلومة في منح دستور حشدت له أغلبيتها من أحزاب ونقابات وجمعيات وشخصيات من عالم الفن والثقافة والإعلام تحت وابل من الوعود الاصلاحية البراقة والتطمينات المعسولة، توجهت بانتخابات هزلية جاءت بحزب يميني محافظ قيل إنه حصد أغلبية المقاعد فحق له بنص الدستور الجديد أن يقود حكومة الملك لأول مرة في تاريخ المغرب. غير أنه لم تمر سوى أشهر قليلة حتى بطل العجب بعد أن ظهر السبب وبدأنا نسمع عن "تماسيح وعفاريت" وعفا الله عن ما فسد، عفوا، عن ما سلف! وظهر للمغاربة الناخبين والناخبات (وهم-ن على كل حال أقلية ضئيلة جدا لا تتجاوز فعليا 20 % من الكتلة الناخبة وشكليا 37 %) أنهم بدلا من الظفر برئيس حكومة يتحمل مسؤوليته ويتصرف بصلاحيات منحها له "الدستور الممنوح"، وجدوا أنفسهم أمام مطارد الساحرات يتعوذ من الشياطين، قبل أن يتحول إلى مهرج ملأ الدنيا بقفشاته وفلتات لسانه وشغل الناس بشعبيته في العوالم الافتراضية حتى قيل إنه صار منافسا غير مرغوب فيه للملك في هذا الباب. غير أن الأهم من كل ذلك أن السيد "بنكيران"، قبل أن يخلي الطريق لأخيه في الملة والحزب لقيادة النسخة الثانية من حكومة حزب العدالة والتنمية ويحتفظ لنفسه بقيادته إلى حين، كان هو الآخر، كما رهط الملكيين من كل الأشكال والألوان، كلما سُئل عن وعوده وبرنامج حكومته الذي رافع عنه أمام "نواب الأمة" يقول إن الحل والعقد عند الملك، وأنه عبد مأمور ينفذ ما يُملى عليه، وفوق ذلك كله أن ثقته في الملك عمياء لا تساويها سوى ثقته في الله. ولعلها السياسة نفسها التي سيواصلها خلفه "العثماني" بل ومن معجم سلفه سيقترض الحلول والأجوبة إياها. والمعارضة؟ هي الأخرى تشارك الحكومة نفس الثقة في الملك وربما أكثر، ولا تتردد في طلب تحكيمه وتدخله أيضا كلما دبت بين الطرفين أزمة أو قلاقل، إذ هما في حب الملك يستويان ولا يختلفان. أين المشكلة إذن؟ قد تكون في المشمش، كما يقول إخواننا المصريون، إذا لم يكن هؤلاء المشار إليهم هم جزء من المشكلة؛ فبدونهم لا مشكلة في هذه البلاد أصلا، سيقول المحتجون في شوارع المملكة، والذين فقد أغلبهم الثقة في مختلف أنواع الوساطات المؤسساتية والحزبية والنقابية، إلى حد أن عددا مهما منهم كفر حتى بأحزاب ذات تاريخ عريق في النضال، بل ويرفض مساهمة تنظيمات ذات مصداقية يتواجد كوادرها في الساحات والميادين وفي قلب أهم المعارك الاجتماعية والسياسية في البلاد. فالمصيبة أن الرهان على الملك صار مثل عدوى تنتقل إلى مواقع مختلفة وتصيب حتى أولئك الذين تنهال عليهم هراوات عساكر النظام وتطالهم تحرشات واعتداءات "بلطجية" تهتف باسم الملك وتحمل صوره عند مواجهتهم. وهذا ما يجعل البلاد تبدو وكأنها عالقة عند كل أزمة أو مصاب جلل في قاعة انتظار الملك! قبل أيام خرج مستشار الملك عباس الجراري، في حوار مع يومية مغربية، مستنكرا انتظار الملك ليتدخل في قضية الحراك الشعبي بالريف، وهو ما قال إنه ليس بحل، حيث لا يعقل أن تتخلى الحكومة والمؤسسات ومعها الأحزاب التي تصرف عليها الملايير، عن مسؤولياتها ويتم الزج بالملك في الأزمات حسب تعبيره. وأضاف المستشار الملكي أن "الجميع يتفرج على ما يجري" أو يذكي بتصرفه ما وصفها بنار الفتنة، معترفا بأن الأمور وصلت إلى طريق مسدود بسبب فشل المؤسسات المذكورة على إيجاد حل وتدبير الأزمة بدون خسائر، ومعتبرا أن إسناد كل شيء للملك يضعه في موقف حرج. ولم يفت المستشار الملكي توجيه النقد إلى المثقفين الذين آثروا إما الانسحاب أو الاكتفاء بالتفرج على الوضع والتزام الصمت. ومع أنه اعترف بوجود أسباب موضوعية معقولة أدت إلى الحراك، وأقر بأن أهل الريف عوقبوا وأهملوا بسبب تاريخهم النضالي حتى آل الوضع إلى ما وصل إليه من احتقان وتفجر وتفاقم، إلا أنه أشار إلى وجود أطراف خارجية تستغل التاريخ النضالي لمنطقة الريف لأجل زرع ما وصفه بالأفكار الهدامة التي من شأنها أن تهدد استقرار البلاد، وفي ذلك تلميح إلى التهم التي كالتها أجهزة النظام والأغلبية الحكومية لنشطاء الحراك بخصوص تبني النزعة الانفصالية وتلقي دعم خارجي يخدم أجندات مشبوهة، وقد كشفت الوقائع والأفعال مدى تهافتها وأثبت قادة الحراك بالملموس بطلانها.
خروج مستشار الملك في هذا الوقت أثار هواجس كثيرة بين المهتمين والمتتبعين للوضع في الريف، من جملتها أنه يأتي بعد فشل مبادرات عديدة في احتواء الحراك قامت بها هيئات مدنية وشخصيات مقربة من النظام، وكذا الصعوبات التي تواجه الأجهزة "الأمنية" في إخماد الاحتجاجات وتورطها في سلسلة من الفضائح والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، وهو ما يعني أن المساحيق الديمقراطية قد تلطخت في الوحل الريفي ومعها سقطت خرافة الاستثناء المغربي. بينما هناك من سيرى في هذا الخروج تمهيد ربما لتدخل قريب للملك يراهن عليه البعض لتقوية مكانة الملكية وتقديمها مرة أخرى على أنها مفتاح كل الأزمات، وبأنها لا تتدخل إلا حين تدعو الضرورة لكي لا تظهر بأنها تستفرد بالحكم. لذلك فقد سبقت خروج المستشار الملكي دعوات من جهات مختلفة تطالب أو تناشد الملك للتدخل لوقف تدهور الأوضاع، في حين يبدو حتى الآن أن هذا الأخير ليس مستعدا بعد للمغامرة بمكانته في تفسير البعض، بينما يذهب آخرون إلى أنه بات رهينة بيد من يمسك بالخيار الأمني والقبضة الحديدية، بدليل التخبط في المواقف الرسمية والأفعال على أرض الواقع.
وفي انتظار الملك، فإن لعبة التشويق ستتمدد، تماما كما تحدث عنها الأنتربولوجي واتربوري في كتابه "أمير المؤمين" في عهد الحسن الثاني، بوصفها من آليات اشتغال ما يعرف بالنسق المخزني، وهي اللعبة التي تقتضي من جملة ما تقتضيه في مثل هذا الحال تثبيت الأزمة وتمديد الانتظار. وبموازاة التشويق ستستمر "العصا" في أداء مهامها ليفهم الناس في هذه البلاد أن الملكية لا ترضخ لضغوط أحد، ولا تقر بشىء اسمه المواطنة بالمفهوم الحديث، ولا تؤمن بشئ اسمه انتزاع المكاسب عن طريق النضال والكفاح، بل تصر على التنبيه إلى أنها وُجدت فقط لتمنح وتهب من عطاياها للرعايا ماداموا لها طائعين وصاغرين وأوفياء.