مُوجز حياة أنطونيو غرامشي


حاتم بشر
2022 / 7 / 9 - 23:54     

وُلِدَ أنطونيو غرامشي في 22 يناير عام 1891، في أليس، مقاطعة كالياري، سردينيا. كان الرابع بين سبعة أشقاء. والديه هما "فرانشيسكو غرامشي"، و"چيوسيبينا مارسياس". ومن بين أشقائه السبعة، أبدى أنطونيو، وشقيقته الصُغرى "تيريسينا" اهتماما بالأدب. وفيما يظهر فقد أحس قرابة روحية خاصة تجاه شقيقه الأكبر "جينارو" وشقيقه الأصغر "كارلو". وقد كان لاعتناق جينارو المبكر للإشتراكية دورا كبيرا في تطور أنطونيو السياسي. تعيد هذه الحقيقة إلى الأذهان تلقائيا بدء سيرورة لينين السياسية.
في عام 1897 تم ايقاف والد غرامشي عن العمل، واعتقاله مدة خمس سنوات، على خلفية ادانته بفساد اداري بحسب ما زُعِم.
فيما تلا ذلك بوقت قصير انتقلت أمه، رفقة أطفالها، إلى غيلارزا، حيث التحق أنطونيو، هنالك، بالمدرسة الابتدائية.
خلال هذه الفترة التي ناخ فيها العوز بكلكله على الأسرة، حدث أنه في أحد الأيام سقط أنطونيو من بين يدي الخادم. تلك الحادثة التي ردّت إليها الأسرة احديداب ظهره وبنيته القزمية.
في الحادية عشرة من عمره، عمل انطونيو، بعد أن أنهى دراسته الابتدائية، في مكتب الضرائب في غيلارزا مدة عامين، من أجل مساعدة أسرته التي كانت تقاسي الأمرين بسبب ضائقتها المالية. وفي ظل غياب الأب، فرانشيسكو، كانت تلك السنوات متصلا من العناء المرير. ومع هذا الوضع البائس، تمكن انطونيو من مواصلة دراسته، دراسة خصوصية أول الأمر، ثم عاد، في نهاية المطاف، إلى المدرسة. كان ذو ذكاء دراسيا متقدا. وتشهد بذلك درجاته الممتازة التي حصل عليها في كافة المواد الدراسية.
انتظم في دراسته، باديء الأمر في سانتو لوسورجيو، على مبعدة عشرة أميال من غيلارزا، انتقل بعدها إلى الدراسة الثانوية في ديتوري ليسيوم، في كالياري.هنالك، حيث تقاسم غرفته مع جينارو. وحيث اتصل لأول مرة مع القطاعات المنظمة للطبقة العاملة، ومع السياسية الراديكالية والاشتراكية.
لقد كان شبح الفاقة يخيم على تلك السنوات. كان أنطونيو يعتمد جزئيا على والده في الحصول على الدعم المالي. وقد كان هذا الدعم نادرا ما يتيسر. في احدى رسائله التي تعود الى تلك الفترة يتهم والده مرارا بالتسويف والإهمال غير المبررين. إن تدهور صحته وتلك الأعراض العصبية التي ستظهر عليه في وقت لاحق، لتشهد على مدى العوز الذي قاساه خلال تلك المدة.
يبرز عام 1911 كعام فارق في حياة غرامشي الشاب. فبعد تخرجه في مدرسة كالياري، تقدم أنطونيو بطلب للحصول على منحة دراسية في جامعة تورينو، وحصل على جائزة تم تخصيصها للطلاب المعوزين من مقاطعات مملكة سردينيا السابقة.
ومما هو جدير بالذكر، أن بالمييرو توغلياتي(الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي PCI فيما بعد، وأحد أقدر القادة في هذا الحزب المحاصر) كان ضمن أولئك الطلاب الذين تقدموا بطلب هذه المنحة.
التحق انطونيو بكلية الأداب. وفي الجامعة التقى انجيلو تاسكا، وغير من الرجال، الذين شاركهم، فيما بعد، النضال، أولا تحت راية الحزب الاشتراكي الايطالي PSI ثم، بعد الانقسام الذي ضرب الحزب في يناير عام 1921، في الـPCI.
في الجامعة، وعلى الرغم من سنوات المعاناة الرهيبة بسبب عدم كفاية النظام الغذائي، والسكن غير الدفيء، والارهاق العصبي المستمر، تلقى انطونيو مجموعة متنوعة من الدورات الدراسية، تركزت بصفة أساسية على حقل العلوم الانسانية، ولكنها اشتملت، فضلا عن ذلك، على دراسات في العلوم الإجتماعية وعلم اللغة، تلك الحقول التي جذبته اليها جدا الى حد تفكيره جديا في اتخاذها ميدانا للتخصص الأكاديمي.
أصبح عددا من أساتذته بمنزلة أصدقاء شخصيين له. ومن أبرزهم ماتيو بارتولي، وهو لغوي، وبرونو كورسو، وهو متخصص في المبحث الدانتي.
عام 1915، على الرغم من مستقبله الأكاديمي، أصبح أنطونيو عضوا نشطا في الحزب الاشتراكي الايطالي، وبدأ مهنة صحفية جعلته أكثر الأصوات الانتقادية المقلقة في ايطاليا ذلك العهد.
وكان عموده في صحيفة تورين أنابنس، ومتابعاته المسرحية مقروءة ومؤثرة على نطاق واسع.
تحدث بشكل منتظم في حلقات الدراسة العمالية حول محاور مختلفة: روايات رومان رولان، التي كان يشعر بقرب خاص تجاهها، كومونة باريس، الثورات الايطالية والفرنسية، وكتابات كارل ماركس.
مع استمرار الحرب وتحول التدخل الايطالي الى حقيقة دامية، وقف انطونيو موقفا مترددا بعض الشيء. بالرغم من أن موقفه الأساسي كان يتمثل في أنه يتعين على الاشتراكيين الايطاليين أن يستغلوا تدخل ايطاليا كفرصة لتحويل المشاعر الوطنية الايطالية الى مشاعر ثورية بدلا من الاتجاه الشوفيني.
في 1917 و 1918 بدأ يدرك الحاجة الى تكامل النضال السياسي والاقتصادي مع النضال الثقافي، ذلك الادراك الذي تبلور في جمعية ثقافية بروليتارية في تورينو.
أثار نشوب الثورة الروسية في أكتوبر 1917 حماسة أنطونيو إلى حد بعيد. وحتى نهاية الحرب، ولبضعة سنوات بعد ذلك، اتخذ غرامشي موقفا ايجابيا، تجاه طرائق وأهداف القيادة الثورية الروسية.
في ربيع عام 1919 أسس غرامشي مع انجيلو تاسكا، وامبرتو تيراسيني، وتوغلياتي "لوردين نوفو"(النظام الجديد: مراجعة أسبوعية للثقافة الاشتراكية). أصبحت، فيما بعد، نصف شهرية. وسرعان ما أصبحت، على امتداد خمس سنوات، دورية مؤثرة على اليسار الراديكالي والثوري في ايطاليا. وقد أبدت اهتماما كبيرا بالتيارات السياسية والأدبية في أوروبا، والاتحاد السوفياتي، وأميركا.
على مدى السنوات القليلة التالية، سيكرس أنطونيو معظم وقته لتطوير حركة مجلس المصنع، وللصحافة المناضلة، التي أدت، في يناير 1921، الى الاصطفاف بجانب الأقلية الشيوعية داخل الحزب الاشتراكي الايطالي، في مؤتمر كيفورنو. وصار عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الايطالي، على أنه لم يلعب دورا قياديا حتى عدة سنوات لاحقة.
كان أنطونيو من بين أبرز ممثلي اليسار الايطالي تبصرا عند بداية الحركة الفاشية. ففي عدة مناسبات، توقع أنطونيو أنه، ما لم تُتخذ اجراءات موحدة ضد صعود حركة موسوليني، فإن الديموقراطية الإيطالية والإشتراكية الإيطالية سيتكبدان هزيمة كارثية.
كانت السنوات الواقعة بين 1921 و 1926---سنوات الحديد والنار كما أطلق عليها-- حافلة ومثمرة. فقد أمضى في موسكو عاما ونصف عام، بوصفه المندوب الإيطالي في الدولية الشيوعية من (مايو 1922 حتى نوفمبر 1923). ثم أصبح أمينا عاما للحزب الشيوعي الايطالي في 1924 . كانت تلك الفترة من حياته ثرّة بالتجارب، ولعل أهم تلك التجارب كان التقائه واقترانه بـ(ـچولكا شُكت)(عاشت من 1896 _ 1980)، وهي عازفة فيولين، وعضو بالحزب الشيوعي الروسي. وقد التقاها خلال مدة اقامته في روسيا. تزوجا وانجبا ولدين: ديليو وچوليانو.

في مساء 8 نوفمبر عام 1926 ، تم القاء القبض على أنطونيو غرامشي في روما، بمقتضى سلسلة من القوانين الاستثنائية التي سنتها الهيئة التشريعية الايطالية الفاشية. حيث تم ايداعه حبسا انفراديا في سجن ريچينا كويلي، كان هذا بداية عشر سنوات "أوديسية"، كابد فيها ألوانا من الألام الجسدية والنفسية، بلغت ذروتها في 27 ابريل 1937، فرحل متأثرا بنزيف دماغي. ومما لا ريب فيه أن السكتة الدماغية التي قضت عليه، كانت النتيجة النهائية لأعوام وأعوام من الأمراض التي ألمت به في السجن ولم يتم التعامل معها بشكل سليم.
ومع ذلك، فكل من له دراية بسيرورة غرامشي، يعرف إلى أي حد كانت سنوات السجن الأليمة هذي، مليئة، في الوقت ذاته، بالإنجازات الفكرية. تلك الإنجازات التي نطالعها ضمن دفاتر السجن التي احتفظ بها عبر زنزاناته المختلفة، والتي لم تر النور أخيرا إلا بعد الحرب العالمية الثانية.هذا، فضلا عن مجموعة كبيرة من الرسائل الاستثنائية كتبها في أقبية الزنازين لأصدقائه وعائلته، وأهمها لم يكن إلى زوجته جولكا، بل إلى شقيقتها تانيا. التي كانت الشخص الأوثق اتصالا به دونما انقطاع خلال فترة سجنه. لم ينحصر اتصالها به--منذ اقامتها في روما--في اطار تبادل الأفكار والمشاعر عن طريق المراسلة. وانما كانت تمد أنطونيو، فضلا عن ذلك، بالملابس والأطعمة والأدوية التي كان يحتاج إليها في ظل النظام اليومي الطاحن لحياة السجن.
حُكِم عليه، في 4 يونيو 1928 ، مع مجموعة من القادة الشيوعيين الايطاليين، بالسجن مدة 20 عاما و4 أشهر و5 أيام. بعدها أودع السجن في توري، في مقاطعة باري، وفيه أمضى أطول مدة احتجاز من يونيو 1928 حتى نوفمبر 1933 . بعد تلك المدة كان أنطونيو قابعا، تحت الحراسة المشددة، في عيادة في فورميا، ثم نُقل في أغسطس 1935 ، محاطا دائما بالحراسة المشددة، إلى مشفى كيسيسانا في روما، وهنالك أمضى السنتين الأخيرتين من حياته.
لم تكن تانيا وحدها التي ساعدته بالكتابة والزيارة. لقد اتصلت به والدته(ماتت في 1933)، وشقيقه كارلو، وأخواته تيريسينا وغرازيتا، بالإضافة إلى صديقه الصدوق، عالم الاقتصاد بييرو سرافا، الذي أسدى إلى غرامشي في محبسه خدمات حيوية وهامة. لقد انفق سرافا من ماله الخاص واجرى العديد من الاتصالات الجهيدة من أجل امداد غرامشي بالكتب والدوريات التي كان يحتاجها في السجن.
لن نبالغ إذا قلنا أنه لولا المساعدات الصادقة التي تلقاها غرامشي من تانيا، ومن سرافا، ما كان لغرامشي أن ينتج دفاتر السجن على نحو ما هي بين أيدينا الآن.

تنقسم كتابات غرامشي إلى فترتين:
1) قبل السجن (1910 _ 1926). وهي، في مجملها، كتابات سياسية محددة.
2) فترة السجن (1929 _ 1935) وفيها يبرز بوضوح الطابع النظري والتاريخي.

إن عمل غرامشي الفكري الذي أنتجه من داخل السجن لم ير النور إلا بعد عدة سنوات من الحرب العالمية الثانية. وقد نُشر أول الأمر بضعة أقسام متناثرة من دفاتره، فضلا عما يقرب من 500 رسالة كتبها من محبسه. ومع حلول الخمسينات بدأت كتابات السجن تجتذب اليها الإهتمام والتعليق في مجموعة من البلدان، ليس فقط في الغرب، بل وفيما يسمى أيضا بالعالم الثالث.
حتى إن بعض المصطلحات التي ابتكرها غرامشي أصبحت مألوفة ومتداولة في أوساط اليسار، ولعل أكثر هذه المصطلحات أهمية مصطلحات "الهيمنة"، "المثقف العضوي"، "الكتلة التاريخية"...وغيرها.

أهم المراجع:

An Introduction to Gramsci s Life and Thought, By Frank Rosengraten