غسّان الرفاعي!


اسحاق الشيخ يعقوب
2017 / 7 / 21 - 09:34     



المفكر الماركسي اللبناني غسان الرفاعي في كتابه:(ماركس ... عن الدولة) انتظم مفكراً في تعريف الدولة لأهميتها السياسية و الايدلوجية: مدافعاً فذاً عن الماركسية (...) و احسب انه لا يمكن الحديث عن الدولة دون الحديث عن المجتمع و علاقة هذا المجتمع بالدولة و ذلك ما تموضع فيه غسان ثقافة و ادباً ماركسياً حميمياً مستنيراً بماركس و أنجلز و مضيفاً في تحليلاته و تصويباته الفكرية دفاعاً عن الماركسية سيما و انه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي و المنظومة الاشتراكية تنامت التفعيلات الفكرية و الايدلوجية عداء لا يهدأ ضد الماركسية...

و احسب ان العلاقة الجدلية بين الدولة و المجتمع ذلك التكوين التاريخي الابدي في علاقتهما بحيث لا دولة بدون مجتمع ولا مجتمع بدون دولة. من هنا تأتي أهمية تكريس المفكر الماركسي غسان الرفاعي رؤياه في كتابه الرائع الأهمية (ماركس ... عن الدولة). فالدولة لا تدرك فكرياً الا بالمجتمع و المجتمع لا يدرك فكرياً الا بالدولة... و كما ان المجتمع غير ثابت فالدولة غير ثابتة من هنا يتشكل الموقف السياسي في حركة الدولة و حركة المجتمع على حدٍ سواء (!)

ان النظرة الدوغمائية لا ترى حركة هذا التغير لا في الدولة ولا في المجتمع ذلك ما يشير إليه غسان الرفاعي ضد الدوغمائيين الذين يسيؤون الى الماركسية في تفسيراتهم المثالية. فمثلاً ان البعض في قيادات الجمعيات السياسية (وعد) مثالاً: يرون ان الدولة البحرينية ثابتة في قمعها و اضطهادها و هم لا يفرقون بين دولة قانون امن الدولة سيء الصيت و بين دولة الميثاق الوطني التي فتحت قلبها و عقلها و وجدانيتها في النهوض الوطني ضمن حرية النقد و تقويم اعوجاج ما يسيء للمجتمع في مجمل منظوماته التشريعية و التنفيذية و الاعلامية و سمحت للشيوعيين البحرينيين المنفيين الى العودة الى ارض الوطن و اعطتهم منازل يسكنونها و نقوداً مجزية و سمحت لهم بعلنية اقامة حزبهم (المنبر التقدمي). انها الدوغمائية بعينها عند (وعد) التي لا ترى في الدولة الا قمعها و اضطهادها و يشق الصراع الايدلوجي و السياسي طريقه في حياة دول المجتمعات على وجه الارض. و يقول غسان الرفاعي "انا بدوري من منطق سياسي معين من اجل توضيح رؤيتي الخاصة الى (الدولة) عموماً و الى "دولتي" الخاصة بالذات التي اعيش في ظلها في ضوء كل التطورات و المتغيرات التي حصلت و تحصل منذ قرنين مضيا اقله حتى اليوم. فتوضيح الرؤية باتت بهذا المنظور ضرورة لتحديد كيفية التعامل مع هذه "الدولة" اولاً و لبلورة و تبرير "الدولة البديلة التي اطمح اليها" و كيفية "تحقيقها" ثانياً الى جانب ذلك ان تناول موضوع الدولة يفرضه علينا منطقياً بحثنا التمهيدي السابق (الذي صدر عن دار الفارابي تحت عنوان ماركس: دون دوغمائية و دون تفريط) كتتمة و استكمال للموضوع العام: فهم واقع مجتمعاتنا و الاجتهاد في اكتشاف المسار العام لتطورها و تقدير الاحتمالات لكي نبين و نبلور خطة عملنا العامة و ممارساتنا اليومية.

اننا نؤكد في هذا السياق من جديد اقتناعنا بأن لا مخرج لليسار من ازمته و العودة الى لعب دوره على الصعيد السياسي بعد ذاك الانكفاء المريع دون اعادة نظر نقدية في ممارساتنا النظرية و العملية السابقة و اعادة بلورة و بناء منظوماتنا الفكرية فيما يتعلق بالدولة.

و يوجه غسان الرفاعي توجهاته النقدية الى اليسار و هو ما يربك المتلقي في ادغام الشيوعية في اليسارية و ادغام اليسارية في الشيوعية و قد قلت في ملاحظات سابقة: كل شيوعي يساري الا انه ليس كل يساري شيوعي و من واقع ان كل شيوعي وطني الا انه ليس كل وطني شيوعي. هذه المعادلة تفقد اهمية واقعها في التوجه النقدي الى اليسار بشكل عام دون تمييز الشيوعيين و احزابهم في هذا الموضوع الذي اراه ايضاً عند عزيزنا غسان الا ان هذا لا يُفقد الكتاب اهميته الثقافية المبدئية و العلمية (!)

صحيح ان معاداة الشيوعية اخذت طابعها "الواثق" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، و يترسل المفكر الماركسي غسان الرفاعي في الدفاع عن الشيوعية في الماركسية فيما يراه فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ و الانسان الاخير)، "بأن نهاية الحرب الباردة مع هدم جدار برلين 1989 هي بمثابة نهاية تاريخ معين لانها وضعت حداً للفكر الايدلوجي في التاريخ الانساني و انهت تاريخ الاضطهاد و النظم الشمولية لتحل محلها الليبرالية و قيم الديمقراطية الغربية مع استقرار نظام السوق الحرة و كان ذلك تتويجاً مبرراً كرسته الاتصالات المتتالية على بعض الايدلوجيات كالملكية الوراثية و الفاشية و النازية و الشيوعية التي كان الاستبداد قاسماً مشتركاً فيما بينهما هذا يعني بالضرورة ان المستقبل سيشهد سيادة او زعامة الرأسمالية".

و يرد غسان الرفاعي قائلاً: " و اذا ما تجاوزنا نفس الشماتة الذي يحمله يريد فوكوياما ان يثبت ان لا مجال للفكر بعد اليوم ولا للنضال ان يفتح افقاً للتطور الاجتماعي يتعارض مع "الهيمنة الابدية" للرأسمالية التي تكرست نهائياً حسب زعمه ليس على الصعيد السياسي و الاقتصادي وحسب بل كذلك على الصعيد الايدلوجي و هذا الكلام يعطي الحملة الايدلوجية الموجهة ضد ماركس و افكاره "اساساً" و منطلقات جديدة و اذا كان هذا الكلام ليس جديداً في ذاته من حيث الجوهر فان صياغته مع ذلك مختلفة عن تلك الطروحات التي ميزت مرحلة خمسينيات و ستينيات و سبعينيات القرن الماضي مرحلة احتدام الحرب الباردة آنذاك كان التركيز ينصب على مقولة "المجتمع ما بعد الصناعي" الذي يدخله العالم الرأسمالي و منظومة البلدان الاشتراكية معاً... و ما يؤدي اليه ذلك كما زعم آنذاك من "تقارب" و "تداخل" ما بين المجتمعين بصورة طبيعية الامر الذي نسقط طرح او تبرير قد يحمل تأويلاً نظرياً يشير الى ضرورة انهاء النظام الرأسمالي وفق طروحات الحركة الشيوعية فهذه "الفذلكة" الايدلوجية من قبل مفكري الرأسمال كانت مناسبة لتلك المرحلة التي تميزت بكون الاتحاد السوفياتي آنذاك ما يزال قوة موازنة اساسية في العلاقات الدولية كما تميزت تلك المرحلة بصعود الحركات التحويلية الديمقراطية و التحررية للجماهير في سائر انحاء العالم و بصورة خاصة في البلدان النامية التي نجحت بمعظمها في تحطيم قيود العبودية الاستعمارية و حققت استقلالها الوطني و اخذت ترنو الى بناء مستقبلها و يؤكد غسان الرفاعي: "انه كان لابد لنا من الركون الى ابحاث و مقاربات تاريخية فلسفية و حقوقية قدمها مفكرون كبار تناولت الدولة الحديثة من حيث النشأة و من حيث طبيعتها و تركيبتها الهيكلية و وظائفها للرد على من حاول "توظيف" بعض طروحات ماركس و انجلز المبدئية بتحريفها و تفسيرها بغير مدلولاتها الحقيقية لتبرير اجتهاداته الخاصة الحالية حول الدولة". و اذا كان المجتمع في طبيعته... فالدولة بالضرورة في طبيعتها من واقع ان الدولة تكونت بطبيعتها في المجتمع و المجتمع تكون بطبيعته في الدولة و معلوم ان الاديان و المعتقدات تكونت قبل الدولة و المجتمع على حد سواء ولا يمكن تضمين نشوء الدولة بالدين... الا ان الدولة تستفيد من الدين في المجتمع و معلوم ان الاديان تنامت و ازدهرت بين الناس في دعم و تأييد من الدولة التي تستخدم ثقافة الاديان و اعرافها لمصالحها الطبقية (!)

و الدولة لم توجد منذ الازل... و انما وجدت في ظروف تطور المجتمع و ضرورة تكونها في مسار التشكل الطبقي في المجتمع و ضمن التطور و التحول التاريخي: من العائلة الى العشيرة الى القبيلة الى الدولة.

وقد تكونت الدولة في نهاية الامر للدفاع عن المصالح الطبقية في المجتمع و معلوم ان الدولة ليست ثابتة في المجتمع ولا المجتمع ثابت في الدولة و ان قوانين الجدل تأخذ تفاعلاتها في الدولة و المجتمع مساراً لخصائص طبقية في المجتمع (!)

و احسب ان المادية التاريخية تحدد التناقض و الصراع على طريق تطور التاريخ فيما يؤكد أنجلز كما يشير غسان "أن الديالكتيك الذي نطلق عليه صفة الموضوعي يسود على كل الطبيعة... ولا يعمل الجدل الذاتي في الفكر الجدلي سوى ان يعكس هيمنة الحركة في الطبيعة بكاملها تلك الحركة التي تتحقق بتعارض الاضداد و تحدد واقعياً الحياة الطبيعية بصراعاتها الدائمة و بتحولات بعضها الى بعض بصورة لا نهاية لها و بأشكال ارقى". و يؤكد ماركس ان الرأسمالية هي آخر نمط للانتاج يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج و على استثمار الانسان للانسان و على التمايز الطبقي و يشيد ماركس بالانسان كونه: اثمن رأسمال في الوجود (!)

غسان الرفاعي اذا سمعت عنه تفيض شوقاً ان تلتقيه و اذا لقيته تأخذك دهشة خصوصية تواد (من ود) و بساطة تواضع كأنك تعرفه و يعرفك من قديم. لكم هو فيض اخلاق ماركسية سامية التواضع: ينصت بأدب و يتحدث بأدب و يتجلى بأدب حتى لبعض المثقفين المعادين للشيوعية و احسب ان كتابه: (ماركس عن الدولة) في اهمية مبدئية ماركسية واثقة في ان يدرس في المدارس الحزبية لاحزابنا الشيوعية. و يختم غسان كتابه قائلاً بهذا الفهم للنظرية الماركسية من حيث هي انعكاس و صياغة فكرية لحركة الواقع الاجتماعي - التاريخي (قوانينه) و تتابع مراحله تحمل في قلبها عوامل و اسباب تجددها الدائم كلما جرى تطور او تغير ذو اهمية في الواقع الاجتماعي التاريخي و اي إلتباس منهجي او تخلف في متابعة التغيرات في الواقع بصورة صحيحة يؤدي الى استنتاجات خاطئة حتى عند الفكر الماركسي! في هذا الضوء نقول ان الاختلاف و الصراع لا يدور حول "ماركس الماضي" بل حول ماركس الحاضر و المستقبل!