محددات انتقاد الدولة الوطنية؟.


معتز حيسو
2017 / 7 / 12 - 11:52     



يُعتبر تسليط الضوء على مسالب«الدولة الوطنية»، وتحديد آثار تحولات نخبها الحاكمة على أوضاع دولنا ومجتمعاتنا، من أحد المهام الرئيسية الملقاة على عاتق السياسيين والمفكرين. ونشير في السياق ذاته إلى أن نقد الدولة الوطنية معرفياً أو نقضها سياسياً يجب أن يلتزم معايير العقلانية السياسية والموضوعية، وألا يكون محمولاً على دوافع ثأرية أو أبعاد شخصية تتعلق بمواقف من شخوص السلطة الحاكمة.
فأوضاع مجتمعاتنا تنحدر إلى قعر الهاوية، فيما أوضاع غير دولة عربية تعاني من التصدع والانهيار بفعل عوامل وأزمات ذاتية، وأخرى لها علاقة بتحديات خارجية متداخلة ومتضاربة تتجلى في معظمها في إطار تدخلات إحتلالية من أهدافها: إعادة توضيب غير دولة عربية، وتغيير دورها الإقليمي. إقامة تحالفات دولية وإقليمية مختلفة عن تلك المتوارثة عن حقبة الحرب الباردة. تغيير الأوضاع الجيو السياسية الموروثة عن الحقبة السايكس بيكوية، والتخلّص من بقايا وآثار دولها الوطنية. فرض أوضاع جيو سياسية مختلفة تقوم على إعادة تقاسم مناطق النفوذ في سياق يتم فيه تقسيم المجتمع والدولة على أسس دينية وعرقية وطائفية وإثنية. إعادة توضيب وإنتاج النظم الراهنة، وصهرها في بوتقة مشاريع فوق قومية. ما يمنح تلك الدول عوامل قوة إضافية تمكنها من تعميق هيمنتها على موارد بلداننا الطبيعية منها والبشرية. علماً أن ما تحمله الدول المتصارعة بالوكالة أو بالأصالة من مشاريع نيو استعمارية معولمة، يفاقم من عوامل التصدع والتحلل التي تعاني منها دولنا الوطنية.
وذلك يدفعنا للتأكيد على أهمية الفصل بين تجاوز السلط السياسية المهيمنة، إلى أخرى مختلفة في البنية والشكل. وبين تهديم الدولة الوطنية. ونشير هنا إلى خطورة تداعيات اندماج الدولة بالسلطة على بنية الدولة لحظة الاشتغال على تغيير نظام الحكم. تحديداً نتيجة تزامن غياب وتغييب حوامل التغيير الاجتماعي والسياسي المدنية الديمقراطية، مع تدخلات دولية إحتلالية تهدف إلى تهديم أسس ومقومات الدولة واستثمار مواطنيها كوقود للصراع. ووفقاً للمعطيات الراهنة، فإن مستقبل غير دولة عربية ومنها سوريا سيكون مهدداً بإشكاليات مختلفة بعضها ناجم عن الدفع الخارجي لإقامة كانتونات تحكمها سلط ترتهن للخارج. ما يفاقم من أسباب أزماتنا الذاتية، ويحد من إمكانيات التحوُّل المدني الديمقراطي. ما يعني إنَّ اعتماد آليات تغيير عسكرية محمولة على مفاعيل خارجية. سوف يقود إلى تدمير الكيانات الوطنية، ولن يفضي إلى أية أشكال حكم سياسية ديمقراطية.
من جانب آخر، يبدو واضحاً حجم الأثقال الأيديولوجية والأخطاء السياسية التي لازمت سياق عبور الحركات القومية العربية من المجتمع إلى السلطة، أو من الحالة الحزبية إلى السلطة. فالنخبة« السياسية/ العسكرية» التي حكمت باسم التيارات القومية فرَّطت بجوهر المشروع القومي وتجلياته الوطنية. ما أدى لتراجع التأييد الجماهيري، وتخليها عن السلط الحاملة لتلك المشاريع وصولاً إلى حالة من التناقض بين تلك السلط وبين الجماهير المفترض أنها داعمة للمشروع القومي. ونشير إلى أن تغيُّر المزاج الشعبي، له علاقة بالموقف من سلطة العسكر والأجهزة الأمنية التي اقترفت في سيرورة حكمها وسيطرتها على المجتمع والدولة وموارد الثروة الوطنية كوارث لا تحصى بحق شعوبها. وأياً تكن الأسباب التي دفعت بالعسكر للقبض على مصائر بلادنا، فإنه لا يلغي ولع أحزاب الحركة القومية بالسيطرة على السلطة. ولا يعفيها من المسؤولية عن أوضاعنا الراهنة.
في السياق فإنَّ تبنِّي تلك الأحزاب آليات انقلابية مكِّنتها من السلطة بشكل أسرع، أسهم في تخليلها عن كثير من مبادئها الثورية السياسية والاجتماعية التي أقامت عليها مشروعها القومي. وأيضاً في استبدال المشروعية الشعبية بأخرى عسكرية. ما أسس إلى تمكين سلطة العسكر التي أسهمت بدورها في تعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع، وتهميش المجتمع وقواه السياسية والمدنية، وفصلت سياسياً بين مفهوم الوطنية وبين قضايا المواطنة. وأقامت دولة السلطة في إطار نظام حكم سياسي مغلق. وجميعها عوامل أسهمت في إخفاق المشاريع القومية, وتراجع« فكرة نهضة عربية، فكرة التوحيد القومي» إلى إيديولوجيا سياسية تدرجت في سياق تحولاتها من: مؤسسة حزبية جماهيرية، إلى نخبة سياسية قائدة ـ نخبة عسكرية حاكمة ـ سلطة تفرض شرعيتها السياسية باسم القومية العربية. مع ذلك يجب الإقرار أنه في كنف تلك السلطات، تحققت قضايا إيجابية كثيرة في مجالات: التنمية الوطنية، توزيع الثروة، مجانية التعليم والصحة، التصنيع، الإصلاح الزراعي، التأميم. لكنَّ جميعها لم يرقى إلى درجة مشروع وطني حقيقي ومتكامل يمكن أن يدفع لإنجاز أدنى درجات المشروع القومي. وبالرغم من جميع إخفاقات أنظمة الدول الوطنية، السياسية منها والاقتصادية. فإنها وكذلك تيارات قومية غير حاكمة، ما زالوا يستخدمون ذات الخطاب القومي لتمكين سيطرتهم الأيديولوجية. ونشير هنا إلى ضرورة الإجابة على تحديات تتعلق بأوضاعنا الوطنية الراهنة، وأوضاع أخرى ناجمة عن التحولات العالمية السياسية والاقتصادية الثقافية.
ولا يعني ذلك أن السلط التي لم تتبني مشاريع قومية أو فكرة النهوض القومي كانت أفضل. أو أن علاقتها بمجتمعاتها كانت أكثر انفتاحاً. فتلك بدورها تعاني من تناقضات بنيوية تكشف عن بعضها علاقة التبعية والارتهان لدول كبرى. وجميعها ينعكس على أوضاع المواطن السياسية والاقتصادية قمعاً ونهباً واحتكاراً وتخلف.
نشير أخيراً إلى أن تقاطع أزمات السلطة الذاتية، مع عوامل خارجية. دفعت ولم تزل إلى تمكين التبعية الاقتصادية والارتهان السياسي، وكانت مدخلاً للتخلف والتسلط والتدخلات الإحتلالية. ما يعني أن تجاوز أوضاعنا يحتاج إلى خطاب مختلف، وآليات اشتغال أيضاً مختلفة. أما مقدمات ذلك فإنها تتحدد بتجاوز أسباب أزماتنا الراهنة. والتأسيس لتنمية مستدامة، وتكامل اقتصادي، وإتاحة المشاركة في المجال العام للجميع، وتطوير الموارد والطاقات البشرية الإبداعية، وعوامل أخرى أيضاً تشكل الأساس الموضوعي لتطور مجتمعاتنا وارتقاءها الحضاري.