عصر المرجعية الذهبي


قاسم علي فنجان
2017 / 7 / 10 - 00:08     

لطالما عاشت المرجعية الدينية في العراق وبكل تلاوينها عصورا متتالية من الاستقرار والتسيد على كافة فئات الشعب, إلا أنها لم تحظى بعصرها الذهبي -وبكل ما تحمله الكلمة من معنى- إلا بعد أحداث 2003, فقد تركزت العيون عليها, وأصبحت حديث اليوم والساعة, وبدأت تعي نفسها كقوة لهذا العصر, لأن الناس باتت تحت ظلهم, فهم الحامي الجديد والقوة العظمى.
فقد بدأ الناس يصيخون السمع, لما تقوله المرجعية أو ما تريد قوله؟ ويتساءلون الى ما ترمي في حديثها؟ ومن سيكون الخطيب؟ وما هي المواضيع التي ستتحدث بها؟ وكيف سيكون ردها على هذا الامر أو ذاك؟ وهل ستوافق على هذا القانون أو ذاك؟ ومن ستختار لقيادة البلد في المرحلة القادمة؟. هذه الاسئلة وغيرها الكثير هي التي يتداولها الناس, لأنهم ادركوا أن المرجعية هي القوة الوحيدة والقادرة على تغيير مسار الامور متى ما ارادت أو شاءت ذلك, فلم يلتفت احد لحزب شيوعي أو شخصية علمانية أو مجموعة لبرالية, فلسان حال المجتمع يقول عن هؤلاء: (هم مثقفون وأولاد طيبون, لكننا لسنا بحاجة لهم الآن). ثم أن وسائل الاعلام اكثرها أن لم اقل جميعها, تتجه دائما لنقل, خطبهم وتصريحاتهم ومؤتمراتهم واحتفالياتهم, بصورة مباشرة, واذا ما احصيت عدد المايكات المرتبة على منصة أي خطيب, فأنك لن تجد هذا الكم حتى على منصة الرئيس الامريكي أو الروسي, ثم تبدأ استوديوهات هذه القنوات باستقبال "مثقفي السلطة" المحللين من كل الاختصاصات, السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري وغيرهم, ليتناقشوا ويتجادلوا لتفكيك كلماتهم وخطبهم, فهي كلمات سر, ولغتهم مقدسة, وحمالة اوجه متعددة, فعلى سبيل المثال, أن القسم الاكبر من الشعب يلوم نفسه اليوم على اختياره لهذه الحكومة, ويقول عن نفسه بأنه هو السبب في صعودهم الى الحكم, لأن المرجعية كانت قد قالت لهم "انتخبوا الاصلح, والمجرب لا يجرب" لهذا فأن الذنب يقع على الجماهير, لأنها لم تفهم ما تريد المرجعية وما ترمي اليه, لن ندعي يوما أننا سنفكك خطبهم أو كلماتهم, فأن "فينومينولوجيا الروح" او "نقد العقل المحض" اهون علينا من ان نحلل كلمة مما يقولونه.
اذن فهناك دور جديد للمرجعيات الدينية في العراق كان عليها ان تلعبه بعد 2003, فعليهم أن يرسموا ويخططوا للبلد, بصورة مباشرة مرة وغير مباشرة في أخرى, فلم يزر العراق احد من السياسيين العرب أو الاجانب إلا وحط رحاله عندهم, فلقد اصبحت قبلتهم ومحجهم, وكان ذلك لتأكيد طابع القداسة من جهة, وللإشارة بأنهم الحاكمون الفعليون من جهة اخرى, لقد رسمت صورة غاية في القداسة لهم, فلم يستطع احد ما ان ينقدهم أو يشير اليهم ضمنيا, لقد ارتفعوا أو رفعوا فوق مصاف النقد.
لكننا حقا تدور في أذهاننا "السيئة" بعض الاسئلة, ونحتاج الى طرحها, والتي لا نريد أن تفهم خطأ. الم تحث الجماهير على التصويت ب"نعم" على الدستور, والذي هو اليوم كما يقولون هم عنه بأنه "ملغم"؟ ثم هل دعا احد غيرها الى المشاركة بكثافة في الانتخابات؟ الم يدعون جماهيرهم الى التصويت بـ"نعم" على قائمتهم الاولى 555 والمسماة "بالشمعة" والثانية 169؟ اليس الدستور هذا والانتخابات هذه والقوائم تلك هي التي جلبت الويلات؟ هل الحكومات المنتخبة بالقوة كانت جيدة؟ اليس قاموس كلماتنا الجديدة اليوم يتكون من "داعش, ميليشيات, بطالة, فساد -أو بالأحرى نهب- قتل, خطف, تهجير, لا سكن, لا تعليم, لا صحة, لا خدمات, لا كهرباء, لا ماء, ولا افق"؟ قطعا لا يجرؤ احد على الكلام, فالمرجعية تعيش حالة قداسة, استمدتها من عصر ديني بامتياز, عصر تمر فيه الرأسمالية باسوأ ازماتها, محولةً العالم الى كابوس ديني مرعب, اقسى حتى من القرون الوسطى, وبقعتنا كانت البداية المظلمة لهذا التحول.
ان القارئ لتاريخ العراق القديم, يندهش من التشابه الكبير الذي يجده بين الحاضر وبين الماضي القديم, فلقد كان هناك مجمع الهة يفترض بها ادارة الكون ومراقبته -طبيعي ان الكون عندهم بلدهم وما وصلت اليه اقدامهم-, مجمع الالهة هذا كان يسمى "الاونانكي", فيه مجموعة الهة, يختص كل اله منهم بمهنة معينة, فمثلا هناك اله موكل بالرياح والامطار, واخر بالزرع والمياه, واخر على السدود والجداول الخ, كما نجدهم اليوم مكررين, فمرجع -اله- موكل بقضايا الاحوال الشخصية واصدار القوانين بحقها, واخر موكل بالنفط والغاز, واخر بالفدرالية, واخر بالجند والحرب الخ, وكان على رأس مجمع الالهة السومرية, اله اعترفت به جميع الالهة الاخرى, كملك وحاكم عليها, كما اليوم, تكاد تكون المقارنة تتماثل وتتطابق, فاذا ما قابلنا الالهة الاربعة التي كانت تحكم فعليا عند السومريين "آن, وآنكي, وإنليل, وننخور ساج", فسنجد حتما ما يقابلهم بالمثل عندنا, فقط أن هناك الهين عند السومريين هم من النساء, لأن الحق الامومي لم يغب بالكامل, اما عندنا فالحق الذكوري الابوي هو المسيطر تماما.كان إنليل هو الاله الاعظم من بين كل تلك الالهة, وكان السومريون يكنون له كل الاحترام وهناك ترتيلة تقول:
"إنليل" من يتربع على المنصة البيضاء.
الذي يهب احكام السلطة والسيادة والإمارة.
آلهة الأرض تنحني خشية أمامه.
وآلهة السماء تتذلل امامه.
جميع النبلاء والأمراء هناك يقدمون هداياهم وقرابينهم المقدسة.
السماء هو اميرها, الارض هو عظيمها......... الى اخر الترتيلة الطويلة.
حقا كما يقال فأن التاريخ دوما يعيد نفسه, مرة بصورة مأساة, وأخرى بصورة.....