تونس : مهرجان -عبور للمسرح- تجربة مسرحية شبابية هادفة إلى التغيير


غسان صمودي
2017 / 7 / 9 - 01:34     

خلال السنوات الماضية تكثف في تونس صوت الاحتجاجات و المظاهرات الشبابية المطالبة بلفت الانتباه اليهم و رد الاعتبار لما سموه دورهم المركزي في الثورة التونسية لأنهم كانوا المحرك الأساسي للأصوات المناهضة لحكم الفاشية، إلى جانب حقهم في العيش الكريم و تحقيق ذاتهم ككيانات خلاقة و مبدعة و ذلك بتوفير فضاءات و تجهيزات لممارسة أنشطة ثقافية و فنية و فكرية و غيرها بالإضافة إلى المطالبة بوضع حد للمركزية الثقافية التي حرمت الجهات الداخلية من التمتع بالجو الثقافي و ترويح أبنائها عن أنفسهم، لذلك تعالت النداءات المطالبة بتوفير دور سينما و قاعات عروض و تنظيم مهرجانات و تظاهرات موسيقية. إلا أن بعض الشباب ممن كان وراء نشوء الثورة التونسية قرر تطوير أساليب الاحتجاج من خلال قناة الابداع الفني و الثقافي، فكانت الموسيقى خير معبر عن انتظاراتهم و طموحاتهم في التغيير و كسر جميع التابوتات، سواء كانت سياسية أو مجتمعية. مهرجان عبور للمسرح بالرقاب سيكون نموذجا لمثل هذه التظاهرات الفنية أو هو كما يعتبره أحد منظمي التظاهرة "خلق حياة وسط الظلام و نأمل الإستمرارية".

المشهد الثقافي بالرقاب يكاد يكون منعدما
يبدو القول بوجود تيار ثقافي غير متوازن بين الجهات في تونس واقعا لما تشهده هذه الجهات من تخلف اقتصادي و اجتماعي و سياسي مقارنة بالجهات الساحلية التي تحتكر كل المهرجانات الموسيقية و التظاهرات الثقافية مما يجعلها تعيش حالة من الكساد و الاختناق لتشعر بالاحتقار حين لا يجد أبناء مدينة الرقاب مثلا كفاءات تؤطرهم و تحمي طاقاتهم المبدعة من التلاشي لتتحول إلى دافع لارتكاب العنف و الجريمة. ربما لن نذكر موضوع الثقافة في الجهات الداخلية دون أن يخطر في البال هجرة الابداعات الفكرية و الأعمال الفنية إلى العاصمة و الجهات المحتكرة للثقافة بحثا عن فضاءات تلجأ اليها هربا مما في الداخل من صعوبات و تعقيدات تعرقل خروجها إلى النور.

ثورة على الواقع
حسام زريبي شاب تونسي في العشرينات من عمره، كان ناشطا خلال الاحتجاجات الشبابية بعيد الثورة المطالبة بلفت الانتباه اليهم و تحقيق ذاتهم بتوفير الدولة فضاءات كي يمارسوا المسرح و الموسيقى و السينما... و الذين تعرضوا للاعتداءات و العنف من قبل المتشددين دينيا خلال حكم الإسلام السياسي و الرافضين للفن و الجمال باعتباره بدعة. و هو الآن متحصل على الإجازة الأساسية في المسرح و فنون العرض و هو الان سيواصل دراسة الماجستير بالعاصمة تونس، و هو شاعر أيضا كلما أتته القصيدة. اليوم يعتقد حسام أن الوقت قد حان للتخاطب مع الشارع بوسيلة أخرى تقلص المسافة التي كانت تباعد بين الممثل و الجمهور. "عبور للمسرح" كان اختيار حسام و مجموعة من الشبان و الشابات التونسيين الذين خرج أغلبهم من خضم الغضب الشبابي خلال فترة ما بعد الثورة. حلم حسام هو نشر ثقافة الفرجة و تجاوز السائد و المألوف و الإحاطة بالشباب و تأطيرهم في مجال المسرح في إطار نبذ كل أشكال العنف و التطرف و خلق آليات تعبيرية جديدة في إطار بأسلوب مسرحي راق و هو "الواقعية الإشتراكية" حيث المعالجة الموضوعية للواقع.
استلهم حسام و رفاقه الفكرة من المسرحي البرازيلي "أوغستو بوال" الذي أبدع هذا النوع المسرحي في ستينات القرن الماضي. كنوع مسرحي يبتعد عن النمط الكلاسيكي بتفاعله المباشر مع الجمهور، و بحثه عن الحل الاجتماعي المتمثل في تغيير الواقع. لكن الإضافة هنا هي البحث في التاريخ المنسي و توثيقه في عمل مسرحي. و قد جسدت مسرحية "قولاب فيفري 1952" للمخرج "علي عامر" هذا الأمر.
دمج المخرج "علي عامر" بين التقنيات الداخلية للتوصل إلى ما يسميه "ستانسلافسكي" "الحالة المبدعة" و الحقيقة الإنسانية للشخصية. طالب في مسرحية "قولاب فيفري 1952" بالدخول في عمق النص من خلال التركيز و الاندماج. لقد طلب علي عامر من الممثل أن يستكشف القدرات الكامنة في داخله، و أن يستثمر الذاكرة لتحقيق التطابق بين تجربته و مسار الشخصية في العمل الفني. هذا بالإضافة إلى سعيه إلى تطوير تقنيات جسدية مستمدة من الإيماء و الارتجال للوصول إلى مصداقية الأداء.
و في هذا المجال يمكن لمهرجان عبور للمسرح بالرقاب أن يلعب دورا هاما في التأسيس لحركة ثقافية ناشطة و مؤثرة. كما يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تلعب دورا حاسما في هذا التأسيس، عندما تتواصل صحفنا و اذاعاتنا و قنواتنا الفضائية بصورة دائمة و منظمة مع ثلة من المؤطرين و النقاد الذين يمتلكون أدوات النقد البناء لتعرض عليهم ما يصل من منتجات ثقافية لنقدها نقدا موضوعيا. يقال للمحسن أحسنت و للمسيء أسأت، فهذه هي بداية التفريق لبناء مشهد ثقافي مشبع بالإبداع الحقيقي و متوازن بين الجهات على مستوى وطني.

مسرح من أجل التغيير
و مع أن صناعة الإبداعات الثقافية داخل المناطق الداخلية تواجه صعوبات كثيرة و متشابكة، الا أن إمكانية التغلب عنها مطروحة، و العمل بجدية على وضع الحلول لها يحتاج إلى نوع من العمل الجماعي لتصبح في القريب حركة ثقافية بنفس شبابي تقدمي و مناضل. و يعد مهرجان عبور للمسرح بالرقاب الذي سيشهد انطلاقته الأولى في القريب تأكيدا على إصرار و عزيمة من قبل شباب تونس. لكن يبقى الأمل موجودا في إمكانية تبني الحكومة لمثل هذه المشاريع و هذا ما أكد عليه حسام زريبي الذي يعتقد أن تفعيل صناعة المسرح و الثقافة عامة لن يتم الا عبر مؤسسات الدولة الرسمية التي يعتنيها الشأن الثقافي لذلك فالمسألة ليست مسألة إمكانيات بقدر ما هي مسألة رغبة في الثقافة باعتبارها رافد أساسي في ارتقاء المجتمعات.