ما وراء منظومة الإفقار


مجدى عبد الهادى
2017 / 7 / 3 - 08:37     

رغم أن "منظومة الإفقار الرأسمالي" هو ابن الصدفة ، إلا أن له مكانة خاصة لدي لا يمكن إرجاعها لمجرد كونه أول غلاف مطبوع يحمل اسمي مُنفرداً ، بل لأنه بشكل ما يمثّل مقدمة منطقية لمشاريع لاحقة يجمعها همّ واحد ، هو استكشاف الآفاق التنموية والتطورية لمجتمع عالمثالثي لا يزال حائراً بين الماضي والمستقبل !

فاستعادة الموقف التقدمي في الاقتصاد ، كما في المشروع الاجتماعي عموماً ، إنما يمر بالضرورة بنقد الليبرالية والأصولية ، سواء في صورتهما العامة المجردة أو الخاصة بمجتمعنا ، مثلماً يبدأ بنقد الماضي في النظرية والممارسة المحسوبة على هذا الموقف ذاته .

وفي الواقع لا أعتبر نفسي نجحت في تحقيق بُغيتي من منظومة الإفقار ؛ ليس لاعتبارات التوزيع ذات الأسباب الموضوعية من غلبة الاهتمامات الأدبية على القارئ المصري ومشاكل سوق الكتاب التوزيعية إلخ ، بل لأن من قرأوا العمل ، وإن كانوا قد أسعدوني ببعض تعليقاتهم الإيجابية ، إلا أن أغلبهم لم يصلهم الهدف النهائي منه .

فمنظومة الإفقار وإن كان في قلبه يتعلق بقنوات الإفقار الرئيسية في النظام الرأسمالي ، فيما يُعد البنية الخلفية لما رصده بيكيتي في عمله التاريخي والكمّي "رأس المال في القرن الحادي والعشرين" من تفاوت متزايد كظاهرة لصيقة بالنظام ؛ لينتهيا معاً لنتيجة مُفادها أن هذا الإفقار المطلق والنسبي هو خصيصة هيكلية في صلب تكوين النظام ، يعيش بها بل ولا يعيش إلا بها ، إلا أن العمل في الحقيقة يستهدف من وراء هذا أهدافاً أبعد من هذه الحقيقة المألوفة !

يقول ألفريد مارشال عمدة النيوكلاسيك "أن الاشتراكيون لا يفهمون جوهر الاقتصاد" ، وأسمح لنفسي استناداً لكبارٍ مثله أن أرد عليه بأنه "لو فهم الليبراليون جوهر الاقتصاد السياسي لما ظلّوا ليبراليين" ، ولهذا تفصيل ضمن أهداف منظومة الإفقار ، التي يمكن إيجازها في ثلاثة أهداف أساسية تمثل بالنسبة لي – حيث لا ينفصل هنا الذاتي عن الموضوعي - ما وراء منظومة الإفقار :

الأول : التأكيد على أهمية "كفاءة التخصيص الرأسمالية" كأعمق أشكال الإفقار وأكثرها تكوينية في النظام الرأسمالي ؛ فهي التي تقوم على حافز الربح نفسه ، فكان لابد من مواجهة تجاهلها الغريب في الأدبيات التقدمية ، بل إنها تسبق فائض قيمة ماركس الذي يأتي في مرحلة الإنتاج ، وتسبق فائض مستهلك مارشال الذي يأتي في مرحلة التداول ، كما أنها الأكثر التصاقاً بالنظام ، إذ أنها كشكل إفقار متصلة بنجاح النظام وفقاً لمعاييره ! فلا تشكّل انحرافاً ولا شكلاً من الظلم رغم فجاجة تجلّياتها !

الثاني : بما أن الإفقار خصيصة تكوينية بالنظام ، بحيث أن الإفقار هو بذاته نتاج / وسبب لنجاح النظام ؛ فمن البديهي أنه لا يمكن علاجه بسياسات من داخل النظام ، ولا تعدو سياسات معالجة الفقر وتعزيز العدالة الاجتماعية في إطار الرأسمالية أن تكون سياسات تقليص لنطاقه وآثاره ، وبشكل غير مُستدام ، أي غير أمن ولا مستمر في الأجل الطويل ، بل إنها في ذلك السياق إنما تعيق نمو النظام الرأسمالي وبلوغه أقصى ما يمكنه من نجاح ، فضلاً عن خضوعها لعلاقات القوة وطبيعة الدولة الخاضعة لمصالح رأس المال نفسه ؛ فكأنه الخصم والحكم !

الثالث : ينبني على ما سبق تأكيد التناقض القاتل في صلب النموذج الليبرالي ، ما بين محتواه الإيديولوجي من شعارات حرية ومساواة ، وأساسه المادي مُتمثلاً في النظام الرأسمالي ، فالحرية والمساواة تصبحان شعاراتً نظرية في غيابهما مادياً ؛ حيث يعمل التفاوت الاقتصادي التكويني في النظام على تعميّق التفاوت الاجتماعي والسياسي والثقافي ؛ بما يقضي على المساواة – بالتعريف – وبالتالي على الحرية ؛ بتمزيقه المجتمعات وخلقه لتناقضات تناحرية لا يمكن حلها ودياً ؛ وهكذا يكون منطقياً ما يقوله مفكرو واستراتيجيو النظام من أن الديموقراطية نظام هشّ بلا مستقبل ، وأن المستقبل هو لحكم القلة والخُمس الغني ، فالرفاهية والديموقراطية ليستا بالتالي سوى "حدث عابر في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي" !


=====================================================

نُشر لأول مرة بمجلة "عالم الكتاب" المصرية ، الإصدار الرابع ، العدد الثامن ، مايو 2017م ، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب