-مفارقة النمري- تصحح -مفارقة تريفان paradoxe de Triffin-


سعيد زارا
2017 / 6 / 29 - 20:28     

عادت "مفارقة تريفان" "paradoxe de triffin" او "dilemme de triffin" إلى الرواج بشكل كثيف في الأوساط الاقتصادية و الأكاديمية إلى السطح بعد الأزمة المالية 2007/2008 , عندما انكشف زيف الاستهلاكية و لانظام نقدها الدولي المتمثل في إنهاء نظام بروتن وودز و فك النقد عن مرساته الذهبية و بالتالي بتر كل أوصال البضاعة عن النقد بعد إعلان الخمسة الكبار في إعلان رامبوييه في نونبر 1975 و بشكل نهائي في اتفاقيات جمايكا كنغستون في يناير 1976.

تقول "مفارقة تريفان" بأنه "يستحيل" الجمع بين وظيفة النقد على المستويين القومي و الدولي و أن الإشكالية التي بني عليها قانون النقد الدولي اثر معاهدات بروتن وودز هو قيام الدولار كعملة أمريكية ليقوم بدور النقد العالمي, القانون الذي يخول لهذه العملة أن تحتكر "الامتياز المطلق" و هو "قابلية التحويل إلى الذهب" دون العملات الأخرى بما فيها الجنيه الإسترليني و الفرنك الفرنسي عملتا بريطانيا و فرنسا أقوى الحلقتين في النظام الرأسمالي قبل الحرب العالمية الثانية . صعوبة التوفيق بين الوظيفتين للنقد على المستويين القومي و العالمي في نفس الوقت تتلخص بشكل أساسي في عجز أمريكا في توفير كمية النقود أو السيولة اللازمة أمام تزايد و اتساع المبادلات التجارية العالمية أي عجزها في تغطية الدولار ذهبا.

لاحظ روبير تريفان Robert Triffin, مستشار الرئيس كينيدي و الاقتصادي اللامع, إن كميات الذهب في خزائن أمريكا بدأت تتناقص أمام التزامات أمريكا بالابناك المركزية الأجنبية, فمثلا كانت خزين أمريكا من الذهب سنة 1950 يقدر ب 22.8 مليار دولار بينما كانت التزاماتها اتجاه الابناك الأجنبية من نفس السنة تقدر فقط ب 3.1 مليار دولار, و بقي خزينها ثابتا حتى عام 1957 إلا أن التزاماتها الدولية اتجاه الابناك الأجنبية تصاعدت لتصل إلى 9.1 مليار دولار, في عام 1960 ظل خزين أمريكا من الذهب رغم تناقصه إلى 18.8 مليار دولار يغطي التزاماتها اتجاه الابناك المركزية الأجنبية التي وصلت إلى 11.6 مليار دولار, فلم يظهر عجز أمريكا في تغطية التزاماتها اتجاه الابناك المركزية الأجنبية إلا بعد سنة 1964 حيث تدهورت خزائن الذهب في عام 1965 إلى 14 مليار دولار و 10.7 مليار دولار عام 1968 و 11.7 مليار دولار عام 1973 أمام تضاعف التزاماتها الدولية التي بلغت 66.8 مليار دولار عام 1973.

"مفارقة تريفان" لا تقارب جوهر الوضع الذي قاربته و هو تراجع الغطاء الذهبي للدولار رغم أن كاتب المفارقة هذه أعزى ذلك الوضع إلى التكلفة الباهظة للحروب التي أعلنتها أمريكا و تراجع صادراتها, و هي ترده إلى عجز أي عملة مهما كان جبروت وطنها عندما تعلن نقدا عالميا في التعهد بالتزامات التجارة الدولية التي يتضاعف حجم مبادلاتها عاما بعد عام , لأنها مفارقة ذاتية تبطن نية روبير تريفان المبيتة في أن تسترجع أوروبا مكانتها العالمية التي فقدتها بعد أن سحقتها النازية عندما يطرح كحل لهذه المفارقة إقامة قانون نقد دولي يقضي الاعتماد على نقد عالمي عوض الدولار يقوم صندوق النقد الدولي بإصداره كما سبق أن طرحه كينز خلال استعدادات بروتن وودز في عام 1942 و قد قوبل مقترحه بالرفض .

أما "مفارقة النمري" التي يشرحها الرفيق فؤاد في معظم كتاباته حول تهرؤ النقود و كذا انهيار الرأسمالية فقد أحسن صياغتها اليوم في جريدة إيلاف من خلال مقال (الدولار "المعولم" هو معامل انهيار ما بعد الرأسمالية) يكشف فيه بعين الماركسية التناقض الرئيسي الفاعل اليوم على مسرح العلاقات الدولية, فهي تقول : "إن الدولار الامريكي تعولم و لم يعد أمريكيا" و هي كما قد يبدو للقراء الأعزاء صياغة مماثلة شكلا ل"مفارقة تريفان" بل العكس تماما فهي مناقضة لها و مصححة لها لما تتركه من ضلالة لدى المتتبعين لشؤون العلاقات الاقتصادية الدولية.

تعولم الدولار و لم يعد أمريكيا , حسب "مفارقة النمري" , ليس لان المبادلات التجارية الدولية تتضاعف إلى حد عجز أمريكا عن تغطية دولاراتها كما يعتقد "تريفان" و لكن لان أمريكا كانت تعيش عشية انهيار الرأسمالية فكانت تبتعد عن الإنتاج الكثيف للبضائع عبر الاتجار بقوى العمل الضمانة الوحيدة لخلق النقود و مراكمتها و بالتالي تغطية دولاراتها بالذهب.

إن تعولم الدولار في حد ذاته لا يفسر "مفارقة النمري" , فالدولار المعولم لا يعود أمريكيا إذا لم يغطى بالذهب و البضاعة الأمريكية, فقد كان نقدا عالميا عندما كان الدولار يقوم على الذهب و البضاعة التي تجسد جهود قوى العمل في الحدود القومية الأمريكية أما و قد فك ارتباطه بالذهب و قوى العمل في أمريكا فقد سقطت منه قوميته (جنسيته). بالعكس فقد تدولر النقد العالمي و لم يفقد الأخير خصائصه بعد معاهدة بروتن وودز إلا بعد أن بدأت أمريكا تقلع عن الإنتاج البضاعي و تمتهن معاداة الشيوعية.

كف الدولار المعولم أن يكون أمريكيا عندما تعهدت أمريكا أن تكون سوقها مستعمرة للبضائع الآسيوية و عندما تعهدت أيضا بان تكون وول ستريت سوقا للأموال الخليجية العائدة من البترول و قد طلب نيكسون في بداية السبعينات من القرن الماضي السعودية أن تضاعف إنتاجها ما يزيد عن خمس مرات مع أن الزيادة ليس ما يبررها في حاجة الاقتصاد الدولي لها إلا لتكون سندا للدولار من كارثة الانهيار.

"مفارقة النمري" إذن تبين الخلل المفضوح في طبيعة العلاقات الاقتصادية الدولية و تكشف عن مفارقة ما كانت لتقوم مع قيام النظام الرأسمالي , فهي تشير بوضوح إلى زيف الدولار الذي يشكل عمود العلاقات الاقتصادية الدولية و نسيجها فانهياره أمر وشيك و محتوم مادامت سعره يناهز الصفر .

"...من يبادل الدولار بالبضاعة, يقول الرفيق فؤاد النمري, هو من يحدد القيمة التبادلية للدولار، ويأتي في المقام الأول في هذا المنحى الصين التي تبادل سنوياً بضائعها بترليونين أو أكثر من الدولارات وتحتفظ بقسم كبير منها في خزائنها لئلا تتدهور قيمة الدولار . لذلك يمكن اعتبار الدولار الأميركي عملة صينية وليست أمريكية فغطاء الدولار الحقيقي هو غطاء صيني وليس أمريكي..."

وقاحة الحزب الشيوعي الصيني و جريمته التي لن تغفر له وهي قبوله مبادلات البضائع الكثيفة التي كدح العمال في الصين في إنتاجها بدولارات مكشوفة لا غطاء لها و هي صفقة خسيسة تعقد عملية الانتقال الاشتراكي المأزومة أصلا بانقلاب البورجوازية الوضيعة على المشروع اللينيني في الاتحاد السوفياتي بعد إلغاء الخطة الخماسية الخامسة كما هي أيضا جريمة ايكولوجية تتمثل في الاستغلال المتوحش للثروات الطبيعية دون تثوير لقوى الإنتاج و ما قد ينجم عن ذلك من تدمير للحياة على كوكب الأرض.