طبيعة الحراك الاجتماعي ومتغيرات الثقافة العراقية .


حميد الحريزي
2017 / 6 / 29 - 15:18     

قول في الثقافة والأدب

طبيعة الحراك الاجتماعي ومتغيرات الثقافة العراقية .
حميد الحريزي

الثقافة منتج حراك اجتماعي لزمن محدد تطول مدة صلاحية مفرداته وتقصر بقدر سرعة وطبيعة هذا الحراك ويفرزه كحاجة أو ضرورة للفرد وللجماعة وللشعب والأمة خلال ممارسته الحياتية اليومية.
ومن أهم ميزات هذا المنتج هي صعوبة اقتناءه والتعامل به من قبل الفرد والجماعة والشعب وصعوبة استبدال أو الاستغناء عن مفرداته، فقد يطول زمن تداول وصلاحية منتج معين قرون من الزمن وكذا هو الأمر مع عدم صلاحيته وركنه على رفوف الذاكرة الإنسانية لعدم الحاجة إليه.... نتيجة للحراك الاجتماعي وخصوصا متغيراته الاقتصادية.
وان سبب هذه الممانعة للبناء أو الاستغناء هو كون مفردات هذا المنتج ستكون جزء من السلوك الاجتماعي وتقاليده وأعرافه.. أي يتحول نتيجة هيمنة حاجته وضرورته وتكرار التعاطي به إلى عادة سلوكيه لا يمكن خرقها أو التجمعين,يها تستوظف جمهرة أفراد المجتمع كبوليس طوعي لحماية ووشاية ضد من يحاول خرقها وتجاهلها وتكون قوة الردع هائلة لأنها تحضى بدعم العقل والفعل الجمعي للمجتمع بغالبيته وتسمى بالكونفورميا الاجتماعية.
ونتيجة لذلك يمكننا إن نلمس مدى سهولة أو مدى صعوبة تطبيق الأنظمة والقوانين من قبل السلطات بقدر تماشيها مع الكونفورميا الاجتماعية السائدة أو مقاومة ومعاكسة ومفككة لها.
وهذا ما يمكن إن يلاحظ عبر تاريخ الشعوب والبلدان في مقاومة فرمانات السلطان والتمرد عليها وعدم قبولها إلا بالقوة والجبر، وقد ينطبق نفس الوصف على القوانين والقرارات الثورية التي تصدر عن السلطات مترافقة مع التحولات والانقلابات العسكرية ولا نقول الثورات في مختلف البلدان لإلزام جميع أفراد المجتمع بشكلها ومضمونها، ففي الثورة يكون اغلب أعضاء المجتمع الثائر يريد التغيير فتاتي قرارات السلطة منسجمة مع مطالب أغلبية المجتمع، بعكس ما يحدث في حالات الانقلاب والمؤامرات حيث لم يمهد مسرح الوعي بعد لقبول مثل هذه التغيرات.....
ضرورة تطبيقها والالتزام بمضامينها، رهن الإعداد المسبق لمسرح الحياة الاجتماعية لتكون مقبولة من قبل الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع وجماعاته وطبقاته ولا نستغرب طبعا في ظل هذا الوصف إن يرفض الأشخاص أو الجماعة قوانين وتعليمات إنما شرعت أو صدرت لصالحهم كما ذكرنا آنفا ، ومن ابسط الأمثلة على ذلك حظر التدخين في الأماكن العامة لان التدخين أصبح عادة أدمن المدخنين عليها ولا يمكن التخلي عنها إلا أن تتوفر القناعة والإرادة الفاعلة لدى الفرد لتركها وإلا فأنه سيشاكس هذه التعليمات والقوانين ويخرقها ويتحايل عليها بطرق ووسائل شتى في السر والعلن .
إن هذه المقدمة تقودنا إلى التساؤل عن ماهية الظروف المساعدة والكابحة لنشر ثقافة معينة في مجتمع معين , أو فلنقل أين يكمن سر ثبات أو شيوع أو فقدان صلاحية وضمور ممارسات وسلوكيات وأفعال وأعراف وتقاليد معينه في هذا المجتمع ؟؟
إن الباحث الاجتماعي أو عالم النفس أو المصلحفبادئ ذين يكتفي بتوصيف الحال ولا كن عليه أن ينقب عن السبب الكامن وراء الظاهرة أو السلوك المعين وما هي بواعثه , سواء كان ايجابيا أو سلبيا وعندها يعمل على تجفيف مصادر وينابيع وبواعث هذا السلوك أو تعزيزها كي يتمكن من القضاء عليها في حالة السلب أو بناءها ورسوخها في حالة الإيجاب .
يبدو لي إن هذه الحالة تشبه كثيرا حالة المريض فبادئ ذي بدء يجب أن يقتنع الفرد انه مريض من خلال شعوره وإحساسه وملاحظاته للإعراض المرضية وعندها سيقصد الطبيب مختارا لغرض اخذ العلاج والالتزام بتناول الدواء والالتزام بتعليمات طبيبه المعالج . ولكن الصعوبة الكبرى التي تواجه المصلح أو الداعية والناشط االحياة. وحامل لواء التغير إن المريض الاجتماعي لا يعترف ولا يقر بمرضه وإنما هو يرى إن هذا الداعية أو المصلح أو حامل لواء التغير هو المريض ولنا في التاريخ أمثله كثيرة حول اتهام أفراد المجتمع للمصلح بالشذوذ والجنون ويعاني الكثير من الأذى و النبذ إن لم يكن من الاستئصال البيولوجي بالقتل من قبل المجتمع ناهيك عن السلطة المهيمنة على مقاليد الحكم والنفوذ ومن ذلك يجب إن تكون هناك مطرقة تحركها المصلحة الاقتصادية أو الاعتبارية تطرق باستمرار على قيد العرف والتقليد لكسره واستبداله بغيره , ولو تبسطنا كثيرا في هذا الأمر فان ابن الريف الذي يرتدي (( العقال والشماغ والدشداشه )) سوف يخلعها عن طبيب خاطر حينما يقف خلف ما كنه العمل لسد ضرورات حياته اليومية , وتعود عليه بمورد عالي يفوق ما كان يحصل عليه في الزراعة أو الرعي وما شاكل . فحينما تنتعش حركة العمل الصناعي والزراعي المنتج يستدعي بالضرورة إن يكون هناك عقل منتج في مختلف العلوم الإنسانية , هذه الحركة تحاكي عمل الجرافة والحادلة التي تجعل الطريق سويا مزيلة كل عقبة تعترض طريق التطور والتقدم في شتى مجالات الحياة . فمن المشاهدة اليومية نرى إن المرأة تنزل للعمل في المزرعة واالحياة.ن قيد أو بدون التقيد بالحجاب والنقاب , كما هو حال (( جواري )) الإقطاعي محصنات القصور وقد نزلت المرأة في العمارة مثلا كعاملة بناء .
إن قانون العمل وضروراته هو المولد والمفتي الأول والأخير في الحياة . ففي عصر الخلافة العباسية حينما ترامت أطراف الإمبراطورية الإسلامية وتلاقحت مع ثقافات وتداخلت كونفورميا الشعوب يبعضها استقدم الخلفاء والأمراء الصناع والتجار والفنانين والمترجمين والكتاب والجواري والعبيد سواء عن طريق الأسر او الشراء او بدفع الأجر من مختلف البلدان ليكونوا بمستوى توسع مهام الإمبراطور والإمبراطورية , والمتطلبات المستجدة دائما للمجتمع بمختلف شرائحه وخصوصا العليا لإشكال ووسائل ومظاهر جديدة تتطلبها ظروف الرفاه وتطور العلم والعمل ... هذه الحاجات وهذا الحراك استولد طليعة طبقة جديدة (( برجوازيه )) تسعى للتسلح بالعلم والمعرفة ونبذ كل ما هو تقليدي معيق للتطور والتقدم في الصناعة والزراعة والتجارة , مما مكن رحم المجتمع من حمل وولادة المعتزلة التي تحمل مشعل التنوير باعتمادها على العقل المفكر المدبر المفسر وليس على فقه الفقهاء أصحاب النصوص الجامدة المتحجرة , لكن هذه الفلسفة ومن تبناها وناضل من اجل تكريسها في وعي وثقافة المجتمع آنذاك , لم يكن موضوعها مكتملا بسبب كون الإمبراطورية العباسية كانت دولة خراج وجزية إي دولة ريعية غير منتجة , تطلب دوام سلطانها قمع نشاط العقل والتفكر والتساؤل ومخالفة السلطان ، فان تطور قوى الإنتاج التي تتطلب علاقات إنتاج من نوع جديد لا ينسجم مطلقا مع طبيعة نشوء وتطور ونمو برجوازيه منتجه لتنمية إنتاج رأسمالي كما حدث في الغرب الرأسمالي حيث طرد البرجوازي المنتج النبيل والإقطاعي وسلطته المطلقة وحل البرولتاري محل الفلاح وألقن والحرفي جارفا معه كل ما هو معيق من مفردات الكونفورميا الإقطاعية او ثقافتها التي أصبحت متخلفة ومعيقه ومعوقه لحركة التطور الرأسمالي لهذه البلدان , ولا يدعي احد إن هذه التحولات مرت بيسر كما ا مرر حروفي على هذه الورقة وإنما هي جرت في ظل صراع مرير بين قوى التقدم والتخلف ,وقد ساعد على كسبها للمعركة , قوة موضوعها المجتمع المنتج والدولة المعتمدة على دافعي الضرائب في تمشية مؤسساتها , مما اضطرها إن تكون هذه المؤسسات لتخدم مصالح هذه الطبقة المنتجة دافعة الضرائب , وبذلك حل أصحاب رأس المال محل الإقطاعيين والمرابين ورجال الدين وحجمهم ثم أقصاهم مع ثقافتهم وطرقهم في التفكير والتدبير في المجتمع وقد كانت البروتستانتية وليدة هذا الصراع وقناعة الشرعي في ترسيخ نفوذ وهيمنة البرجوازية وثقافتها في المجتمع الغربي الهولندي والانكليزي والألماني والفرنسي ... الخ
سبقت قيم البرجوازية ورأس المال حركة التنوير والنهضة إي تفويض العقل سلطة القول والفعل , هذا العقل الذي تم واده في حضارتنا العربية الإسلامية تحت تهمة الزندقة , والهرطقة ومن ثم الإلحاد في عصرنا الحاضر .
لذا يتوجب على الباحث والمتفكر لمضمون ثقافة المجتمع العراقي عليه إن يسلط الضوء على طبيعة حراكه الاجتماعي ومن هي الطبقة السياسية المهيمنة على مقاليد السلطة وتاريخ ولادة ونشوء الدولة العراقية, وهل هي دولة -سلطة أو سلطة -دولة.
لماذا بقت برجوازيتنا تابعة للرأسمال العالمي ؟؟
حدث ذلك نتيجة قطع مسيرة تطوره الموضوعي تحت قهر الاستعمار العثماني ومن ثم الاستعمار البريطاني وحصر نشاطه ضمن دائرة مصالح الرأسمال المسيطر , الرأسمال الاحتكاري الاستعماري المتحكم في قوى الإنتاج وبالتالي تأبيد علاقات الإنتاج المتخلفة وما يرافقها من ثقافة الركود والارتداد لماضي مندرس باعتباره فردوسها المفقود لتعوض عن دونيتها وتبعيتها تحت مظلة الرأسمال العالمي مما أودعها عوق مستدام وثقافة متخلفة .
ولم يقطع حبلها السري بأصولها الإقطاعية وشبه الإقطاعية والمالية الربوية بحيث استحقت منا تسميتها ب_الاقطوازية- لتكون مولودا مسخا يمزج بين قيم الإقطاع وثقافة ما قبل الحداثة وقشور ثقافة البرجوازية المدينية الحداثية محاولا تقليدها في المأكل والملبس من حيث المظهر، بينما ظل إقطاعيا ربويا في الجوهر إن هناك التصاقا سياميا من ناحية الرأس بين القطوازية والرأسمال العالمي حاميها ومولدها.
هذا الأمر أنتج وبوصاية من الرأسمال الاستعماري الانكلو أمريكي الذي تحت كنفه ووصايته وبإرادته ولدت الدولة العراقية التي اغلب رموزها وقادتها من غير العراقيين وهذا هو حال قادة وأمراء وخلفاء ولايات وسناجق العراق لعدة قرون من حكم الإمبراطورية الفارسية والعربية الإسلامية والإمبراطورية التركية والبريطانية، ولم يزل الأمر على هذا الحال مع الإمبراطورية الأمريكية، التي استقدمت معها طبقة سياسية مصنعة في بلاد الغرب والشرق لتولي زمام السلطة وأوكلتها بناء دولة ((الحداثة والديمقراطية)) التي لا تمت لجذورها وبنيتها الطبقية والفكرية بصلة، ولو أرجعنا كل رمز منها إلى طبقته الاجتماعية وحاضنته الفكرية والثقافية لما صعب علينا تفسير سبب تدهور الثقافة العراقية ونكوصها صوب القبور ورهابها من قيم التنوير والنهضة ناهيك عن ثقافة الحداثة والمدنية...
إذا سلمنا بمقولة الطبقة الوسطى باعتبارها حاملة لواء التطور والتقدم الحضاري والثقافي في المجتمعات المتمدنة.... إي ثقافة الفرد المواطن المفكر المدبر المتنور... يوجب علينا إن نضع طبقتنا المتوسطة تحت المجهر الكاشف لطبيعتها وجوهر بنيتها وطبيعة نشأتها وما تعرضت له من متغيرات وتبدلات وما هو واقعها ألان؟؟؟؟
فبسبب القطع القهري لقوى الاستعمار العالمي للتطور الحر والموضوعي للطبقة البرجوازية الوطنية المنتجة أولا، وبسبب كون الدولة العراقية دولة ريعية اعتمدت في بناء وتكون ونشوء مؤسساتها على الإيرادات البترولية... إي نشأت الدولة قبل نشوء المؤسسة كحاجة اجتماعية تطلب قيامها رعاية مصالح الفرد وضمان تماسك المجتمع وإنما مبعث قيامها ونشأتها ضمان دوام وتماسك سلطة الدولة.
هذه الطبيعية الريعية قادت الى الارتباط التكويني بسلطة الدولة حيث صنعت الدولة الطبقة الوسطى لإدارة مؤسساتها وليس العكس، مما جعل هذه الطبقة بالضرورة تابعة للسلطة ومنقادة الى ولي نعمتها الطبقة السياسية المهيمنة على السلطة – الاقطوازية_، من هذا الوصف نرى ان يكون وصف طبقة برجوازية كبيرة وبرجوازية صغيرة وطبقة برولتاريا هي أوصاف لا تحضى بالعلمية والموضوعية المنسجمة مع هذه المفاهيم والمصطلحات في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة للدول المتطورة ذات النشوء الطبقي الكلاسيكي التقليدي،
ان نهج عدم الثبات ورهاب الحرية والديمقراطية المسيطر على الطبقة السياسية المهيمنة ومقاليدها بسبب تبعيتها وازدواجيتها وطفيليتها باعتبارها طبقة مستهلكة وليست منتجه... أدى بها الى سلوك كل وسائل القمع والتضليل والتدجيل والركون للاتكاء على ثقافة الغيب واختلاق الأزمات بالتعاون مع قوى الدين السياسي وبالتخادم مع رموزه، كل ذلك لكبح جماح بروز ونمو طبقة برجوازية وطنية منتجه تحاول فك إسارها من طوق الرأسمال العالمي وانتهاجها طريقا وطنيا حرا في بناء اقتصادها وإنسانها المنتج المتطور... فلذلك تتصف بالتطرف والمغامرة مخفية حقيقة ضعفها وهزالها وأنانيتها .. فمن انحياز متطرف نحو المحافظة والتزمت والركود الى التطرف اليساري الصبياني المنفلت او ركوب موجات موضة التجاوز الوضيعة في العالم الرأسمالي كأحد مظاهر تلك المجتمعات المأزومة ايظا... فبسبب أزمة هيمنتها الطبقية وتأرجحها بين جذر لم يزل ثابتا وفرعا يحاول ان يعانق شمس الحرية والتطور، مما ينعكس بقوة على فرض ثقافة غير متوازنة مشوهة ممسوخة غير واضحة المعالم والمناهج.. نخلط بين ثقافة ما قبل الحداثة وما بعدها بشكل غريب... يتحدث عن ((سواني)) العشائر ولائحة حقوق الإنسان، عن تحرير المرأة ويلزمها الحجاب وينصب الرجل قيما عليها ،يتحدث عن نسبية انشتاين ويصرخ ((ياحوت البلاعة..)).. القائمة تطول ونظن ان الكثير من الكتاب قد كتبوا بإسهاب في توصيف مظاهر وواقع التردي الثقافي في المجتمع العراقي. عبر عنوان جدلية متغيرات الثقافة في المجتمع العراقي.
في ظل عدم وجود الحامل الاجتماعي لفلسفة التنوير والتغيير لا يمكن أن تكون هناك ثقافة حداثة وحرية وحقوق إنسان ومساواة- نشهد مطاولة القصيدة العمودية في الشعر وعدم شعبية إن لم يكن مقاومة قصيدة النثر الحديثة ، وهيمنة الشعر الشعبي- ، ونرى إن هذا هو السبب الجوهري الكامن وراء فشل وانحسار دور الأفراد والأحزاب والحركات اللبرالية والديمقراطية واليسارية والمؤسسات ونزعات الحداثة في الفن والأدب والعمارة وما إليه، وهيمنة تيارات وتجمعات الدين السيا سي التي تعيش اغلبها على نبش ركام ومخلفات وآثار حروب السلف ويقسمونه إلى صالح وطالح لتكون غطاءا وقناعا يشرعن هيمنة طبقتها – ((الاقطوازية))- نسبة إلى تكونها من الإقطاع والبرجوازية الطفيلية- على السلطة وبقائها حية رغم أزماتها وفسادها وعدم قدرتها للانسجام مع روح العصر وبذلك فهي تحرف اهتمام الطبقات والفئات والأفراد عن واقعهم المعاش رغم مرارته وافتقاده للأمن والحرية والعدالة ، لتكون ثقافة القبور وصنميه النص وتقديس الشخص وإقصاء المخالف والمختلف هي السائدة وتعلق آمالهم وأحلامهم إلى ما بعد الحياة أو على يد مخلص موعود.
العمل المنتج يستدعي التجاوز والتغيير والتطور والإبداع المستمر مما يكون عاملا هاما لاحتضان ثقافة الحداثة والمدنية والتساؤل، بعكس العمل الفردي الطفيلي الذي يعتمد الغيب الاتكالية والتقديس والدجل والإقصاء،فبائع المفرق مثلا لا يمكن الا ان يكون اقصائيا لمنافسه، لا يرى ما هو أفضل وأحسن من بضاعته وبالتالي من معتقده، يبتدع الغش والتضليل في تصريف بضاعته وبنفس الطريقة يروج لأفكاره ومعتقداته، يغلف الجوهر الرديء ليعرض ظاهرا براقا جذابا متسترا على جوهر عفن ورديء، وكذا عرضه لنفسه بكل ما يدل على الورع والطيبة ومخافة الله، جبين مختوم وإصبع مختم ولحية تبهر الناظرين.. فيبدو من الطاهرين الورعين ويخفي كل خبث ولعب الشياطين
يربح يوما ويخسر آخر يتعرض لمفاجأة السوق وتغيراته غير مدركا لقوانين الاقتصاد وغير مدرك لسر كثرة زبائنه في يوم وشحهم في يوم آخر مما يجعله كفلاح المطر يركن للغيب يتفاءل طورا متشائم حينا آخر، متطير دائما من صوت الطير وعاهة الإنسان ...,و..و... فمثل هذا النموذج وهو السائد في واقع العمل في عراق اليوم ولعدة عقود خلت وخصوصا ما فعلته عقود حكم الديكتاتورية وسنوات الحصار من تجريف مريع للقيم الكونفورميا الاجتماعية الايجابية المختزنة في وعي الإنسان العراقي كنتيجة لتاريخه الطويل من مقارعة الظلم والتعسف ... مما ترك أثرا كبيرا في كهوف اللاوعي للإنسان في تعامله اليومي فردا كان او جماعة وحتى أكثرها ادعاءا بالتقدمية والحداثة والتجاوز ...فلابد لخفايا اللاوعي ان تنشط مفرداتها في لحظات معينة ... وإلا ما معنى مدعي الزهد والعفة ان يكون سارقا...وما معنى الديمقراطي اللبرالي ان يكون عشائريا متعصبا ،وما معنى ان يكون اليساري الاشتراكي أنانيا مستغلا... وما معنى ان يكون داعي الحرية والاستقلال تابعا للأجنبي المحتل و..و...و... ولا يمكن ان نغفل النهج المخطط لقوى الرأسمال والاحتلال الأمريكي في تأبيد وإدامة ثقافة الطوائف والأعراق وبث روح الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، كما دوره كاستعمار من نوع جديد ربما غير مسبوق ان يجلب ((معارضته)) معه كالقاعدة وقوى الجريمة المنظمة وموجات التحلل والتفسخ والرفض السلبي، ونشر ثقافة النفعية الضيقة بواسطة ما سمي بمنظمات المجتمع المدني وما شابه مما افقد العراقي الحر أكثر خياراته مضاء في مقاومة ومناهضة قوى الاحتلال والاستغلال والتخلف والجريمة وثقافتهم المغرقة في الأنانية والقردنة والنفعية واللامبالاة تجاه وطنه وابن جنسه، مما نتج عنه جبال رواسي من المصاعب والعوائق بوجه من يحاول مناهضة قيم وثقافة التخلف والسوداوية والاستهلاك .......
في ما تقدم حاولنا عرض ما نراه العوامل و ((الطناطل)) الكامنة وراء تردي الوعي والثقافة المنتجة في المجتمع العراقي حاليا بالمقارنة مع عقود مضت مما يثير العجب والاستغراب ان يتمنى التقدمي ان يرجع الزمان للخلف متحسرا متألما على عصر يعتبر ذهبيا مقارنة بواقعه الحالي وفي الحقيقة السر كامن في كون المفقود كان مجتمعا وضع إقدامه على طريق العمل المنتج و كونفورميا اجتماعية لم تزل متماسكة.....
ولعدم الإطالة لم نلجأ الى الاستشهاد والاقتباس من العديد من المصادر والإحصائيات والدراسات التي تؤكد ما ذهبنا إليه.
ان ما دفعنا لمراجعة هذه المقالة الآن ما ورد في الورقة المعدة من قبل الحزب الشيوعي العراقي كمشروع (( ورقة الإصلاح الثقافي)) المطروحة للمناقشة من قبل المثقفين العراقيين –والتي عرضها الاستاذ مفيد الجزائري فيمقر الحزب الشيوعي العراقي في النجف ،نسجل حولها مايلي :-
1- ان الإصلاح يتوجب لكيان او لبناء كان مكتملا يوما فأصابه الهزال ، او تضررت بعض أجزائه او مكوناته مما يتطلب الإصلاح والتجديد وهذا لم يكن اعني كمال (( الثقافة )) في عصر او في إي حقبة من تاريخ العراق ، كما يطمح إليها المثقف الوطني الديمقراطي واللبرالي ناهيك عن المثقف اليساري العراقي، مما يستوجب ان يكون عنوان الورقة هو (( من اجل بناء ثقافة جديدة )) ثقافة الحداثة والحرية واحترام حقوق الإنسان .
2- اغفل واضع الورقة ان هناك ثقافة سائدة في المجتمع العراقي الا وهي ثقافة الرثاثة وتردي الوعي ، ثقافة الوهم ، ثقافة طائفية اسلاموية عرقية ما ورائية ن زرع بذورها (( عبد الله المؤمن )) ضمن حملته الايمانية في أخر سنوات حكمه وتعاظم أزمة حكمه .....
وهنا توجب على واضع الورقة ان يدعو الي قيام ثقافة بديلة تقاوم هذا المد لثقافة التردي والتجهيل وشد عصائب التضليل ، وبيان الوسائل والأساليب الذي توصله الي هدفه هذا .
3- المفارقة الكبيرة ان تجد في الورقة تكرارها الي الطلب حد الاستجداء من الدولة ودعوتها لدعم ((الثقافة )) التي لم يعرفها طبعا إي لم يشر إي ثقافة يريد ؟؟
متغافلا ان الحكومة القائمة ومؤسساتها القائمة على المحاصصة الطائفية والعرقية والممثلة بكافة أحزابها المشاركة في السلطة على تقديم الدعم اللامحدود لثقافة تردي الوعي الرث القائم على الوهم وتكريس المفاهيم العرقية والطائفية بين صفوف الجماهير ، وإنفاق مئات الملايين من الدنانير لدعم تكريس وهيمنة هذه الثقافة ، ثقافة الطقوس والشعائر التي أخذت تولد يوما بعد أخر الغرائب والعجائب من الممارسات التي يقف العقل الحديث أمامها حائرا ، لفجاجتها وتخلفها وهمجيتها .
ففي الوقت الذي بذلت السلطة مليارات الدنانير لتجديد وبناء الجديد من البنايات والبني التحتية لدعم توجهاتها الطائفية ونشر ثقافتها ، فإنها بالمقابل لم تقدم حتى على بناء مسرح واحد او دار سينما او مقرا لاتحاد أدباء العراق، ولا نقول دورا للموسيقى والغناء، في العديد من محافظات العراق التي تفتقر الي مثل هذه المباني والتجهيزات .
ان السلطة القائمة تعيي تماما ما تفعل ، في الوقت الذي يبدو كاتب الورقة وكأنه لا يرى ولا يسمع كمن يطالب أفعى ان يكون سمها دواء شافي لإنسان مريض؟؟؟!!!!
متناسيا بأنه ك((حزب شيوعي )) تمكن من نشر ثقافة التنوير والتثوير من خلال المعتقلات والسجون في سجن نقرة السلمان ، وسجن الحلة المركزي ، الكوت ،وبعقوبة وغيرها ، ونشر ثقافة الحداثة والتنوير في الشارع العراقي واستهوى بل هيمن على عقول اغلب المثقفين والبسطاء من العمال والفلاحين وهو ملاحق من قبل السلطة وأجهزتها الأمنية وعليه ان يجدد أساليبه في نشر ثقافة بديلة في واقع جديد يتسم بديمقراطية نسبية توفرت له بعد التغيير في 2003 وعدم التمسك بأذيال السلطة لبناء ثقافة جديدة .
4- والغريب أيضا انه يغفل الواقع الاجتماعي ، واقع رثاثة الطبقات الاجتماعية ، فالطبقة الحاكمة هي ((الاقطوازية )) التابعة والكاره لثقافة الحداثة ، فهي تلبس الحديث ن وتركب الحديث ، وتسكن الحديث ولكن يخنقها ويعكر مزاجها الفكر الحديث وكل معالم ثقافة الحداثة والتجديد، فواقعنا البائس متشبعا ببؤسه من بؤس الطبقة البرجوازية الطفيلية الغير منتجة ، والطبقة الوسطى الرثة التابعة للسلطة وهي الخارجة والمستولدة من رحمها ، والطبقة العاملة التي معظمها من حثالة البرولتاريا ، نظرا لتفشي ثقافة الاستهلاك، في بلد يستورد الطماطة والبصل حتى السيارة والطائرة ، أنى له ان ينتج ثقافة منتجة ، ثقافة الحداثة والتقدم ؟؟؟
مما استوجب على واضع الورقة الحث على إعادة عجلة العمل والإنتاج الي الحياة لكي تكون لنا طبقات منتجة يتطلب منها العمل ان تتابع التطور العلمي والثقافي في العالم وتحاول ان تلحق بركب الحضارة المتقدمة ، ولا تبقى تتخبط في كهوف الماضي المغبر المنفر ، لا تقتات الا على فضلاته وعفنه متنكرة لكل ما هو مشرق فيه ، لان إشراقه سيصيب عيونها بالعمى لأنها أدمنت الظلم والظلام .
5- كما كان يفترض بواضع الورقة ان يهتم بثقافة المهمشين وعدم محاكاة ثقافة المركز المهيمن الفاسدة والمتعالية النابذة لكل ما هو حر وجميل ومنتج ضمن ثقافة المهمشين الطامحين بالحرية وقيم الجمال ، واحترام المخالف والمختلف ....
عموما الحديث يطول في هذا المجال ولكن الورقة للأسف لم تكن بمستوى طموح المثقف العراقي ال ديمقراطي واللبرالي ناهيك عن المثقف اليساري الماركسي او المثقف العضوي . رغم ذلك فهو اهتمام يستحق الانتباه والمتابعة خصوصا وان المحاضر الجزائري قال إنها ورقة تنتظر من المثقفين العراقيين إبداء ا لملاحظات لغرض أغنائها واكتمالها وتفعيلها ...