هل انتهى القرن الأمريكي ؟


مجدى عبد الهادى
2017 / 6 / 20 - 17:10     

بحنكة الاستراتيجي المخضرم يجيب جوزيف ناي صاحب أطروحتيّ القوة الناعمة والقوة الذكية على ذلك السؤال الذي يشغل العالم اليوم : هل انتهى القرن الأمريكي فعلاً ؟ أم أنه لم ينته لكنه بسبيله للانتهاء قريباً كحتمية لاراد لها ؟ أم أنه لا يزال ممكناً لأميركا إطالته ردحاً من الزمن ؟ وبصيغة أخرى : هل أفلست أميركا على صعيد القيادة الدولية أم لا يزال في جعبتها الكثير لتقدمه في هذا المجال ؟
يقدم جوزيف ناي إجابته في كتيب يحمل السؤال مباشرةً على غلافه ، وبحجم صغير لا تتجاوز ترجمته العربية - الصادرة عن دار العُبيكان السعودية بترجمة محمد إبراهيم العبد الله عام 2015م - الـ 130 صفحة من القطع المتوسط ، مُجزءاً سؤاله الرئيس لستة أسئلة فرعية مُتسلسلة منطقياً ومُوزعة على ستة فصول تعقبها خلاصة برأيه ومقترحاته .

بشكل منطقي يبدأ ناي الفصل الأول بالسعي لتعريف ماهية "القرن الأمريكي" ، مُميزاً بين مفاهيم الهيمنة والصدارة ، ومُحدداً بدقة معايير لتحديد ماهية وحدود القرن الأمريكي ، مُنتهياً إلى أن "الطريقة الأكثر نفعاً في تعريف القرن الأمريكي وتحديده هى ألا يقتصر على جهة موارد القوة وحدها ، بل أن يشمل كذلك الطرائق التي استخدمت بها الولايات المتحدة هذه الموارد لتؤثر في ميزان القوة العالمي" ، وأنه وفقاً لهذه الطريقة فالقرن الأمريكي "تاريخ ميلاده عام 1945م ، وتاريخ وفاته غير مؤكد" .

ثم ينتقل في الفصل الثاني ليحدد ماذا يعني التراجع أو الانحدار الأمريكي ، مُميزاً ما بين حالة الانحدار النسبي في القوة الخارجية نتاج تقدم قوى أخرى ، وحالة الانحدار المحلي المطلق نتيجة فقدان القدرة على تحويل موارد الطاقة إلى قوة فاعلة على الأرض .

وعليه بدأ في الفصل الثالث يناقش حالة الانحدار النسبي ، مؤكداً أنه كاف بذاته لإنهاء القرن الأمريكي حال صعود دول أخرى ، حتى لو لم تكن أميركا في حالة انحدار مطلق ، ليبدأ في تقييم المنافسين المحتملين لأميركا دولياً ومقارنتهم بها حالياً ومستقبلاً ، سواء كدول منفردة أكّد أن أيّ منها لا يمكنه التفوق على أميركا في الأفق المنظور ، أو كأحلاف يمكنها أن تضع حداً للتفوق الأمريكي وتحدث تراجعاً كبيراً في الموقع الصافي للقوة الأمريكية .
فبدأ بأوربا التي رأي أنها رغم كافة مؤشرات القوة التي تمتلكها لحد منافسة أميركا والتفوق عليها في بعضها ، إلا أنها لا يمكنها أن تحقق ذلك إلا في إطار وحدتها والتغلب على الاحتكاكات السياسية الداخلية والنزعات القومية ، بحيث تتمكن من امتلاك إرادة مُوحدة ، وهو ما لا يراه بادياً في الأفق .
ثم انتقل لليابان التي يرى أنها ينطبق عليها ما قيل بخصوص أوربا ، إضافةً إلى صغر حجمها سكانياً وجغرافياً بالقياس لأمريكا ، وغياب احتمالة أن تكون قوة عسكرية معادلة لها حتى مع تطوير قدرات نووية ، فضلاً عن ضعف احتمالية أن تتحالف مع الصين لاعتبارات إقليمية وتاريخية ؛ بحيث يظل الأرجح أن تظل على تحالف مع أميركا لحفظ استقلالها في مواجهة الصين .
وبعدها كتب المؤلف عدداً لا بأس به من الصفحات يليق بالمنافس القديم روسيا ، مُنتهياً إلى أن "روسيا تظهر في حالة انحدار ، مع اقتصاد المحصول الواحد ، وبمؤسسات فاسدة ومشكلات ديموغرافية يصعب حلها ، لكن يجب عدم المبالغة في هذا الانحدار ، مادام أن روسيا فيها موارد بشرية موهوبة ، وبعض المجالات مثل صناعة التسليح يمكن أن تنتج سلعاً متطورة ، ... ، كما أنه مع القوة النووية المتبقية لها والنفط والغاز ومهارتها في الفضاء التكنولوجي وقربها من أوربا واحتمالية تحالفها مع الصين ، سيكون لدى روسيا موارد تسبب بها المشكلات للولايات المتحدة" ، لكن في التحليل الأخير "لن تمتلك روسيا القدرة على مقارعة القوة الأمريكية كتلك التي كانت تمتلكها أثناء الحرب الباردة ، ولا يُرجح أن تكون منافستها السبب في إنهاء القرن الأمريكي" ، خصوصاً مع وجود عقبات تاريخية وجغرافية وديموغرافية وتاريخية وتجارية أمام تحالفها مع الصين فيما يتجاوز حدود "التنسيق الدبلوماسي التكتيكي" .
بعدها يناقش المؤلف الهند والبرازيل كقوتين صاعدتين صغيرتين ليس من المحتمل بأي معيار أن تشكًلا قوىً معادلة للقوة الأمريكية ، ناهيك عن تجاوزها ، ومُنتهياً بذلك إلى أن "الدولة الوحيدة المُرشحة للقيام بهذا الدور هى الصين ، ... ، فهى الدولة العملاقة ، وباقتصاد يعادل اقتصاد دول أخرى مجتمعة ، ولديها أضخم جيش ، وأضخم موازنة عسكرية ، مع ارتفاع كبير في نموها الاقتصادي ، وهى أكثر الدول استخداماً للإنترنت" ؛ لينتقل إلى الفصل الرابع الذي أفرده بالكامل لمناقشة الصعود الصيني ومصاعبه على المستوى العالمي .

وبدأ بمناقشة القوة الاقتصادية للصين مُصححاً مفهوم "صعود الصين" إلى الكلمة الأكثر دقة بحسب تعبيره وهى "تعافي الصين" ، التي كانت صاحبة أكبر اقتصاد في العالم حتى أيام تفوق أوربا وأميركا الصناعي في القرنين الماضيين ، وأكد أنه حتى لو لحقت الصين قريباً بأميركا على صعيد الحجم ، فإنها لن تلحق بها قريباً على صعيد التطور النوعي حيث لايزال بها ريف متخلف ضخم ، ولم يتجاوز متوسط دخل الفرد بها 20 % منه للفرد الأمريكي ، كما أنها حتى مع تفوقها الكمّي في التجارة ، فإنها متخلفة في طابعها النوعي بضعف القيمة المضافة لكثير من صادراتها وافتقارها للعلامات التجارية المميزة وقلة ما ينتسب لها من شركات عابرة للقارات وموقعها المتأخر نسبياً على الصعيدين العلمي والتكنولوجي ، فضلاً عن الميزة النسبية لأميركا على الصعيد النقدي مُتمثلاً في موقع الدولار كعملة دولية لا تزال تستحوذ على 81 % من مجموع المعاملات الدولية .
ثم ناقش القوة العسكرية مؤكداً أنه ستأخذ نفس مسار القوة الاقتصادية صعوداً ، لكنها لاتزال بعيدة عن منافسة أميركا ، سواء من جهة الإنفاق العسكري الذي يشكّل 11 % من الإنفاق العالمي مقابل 39 % منه لأميركا ، أو من جهة التقدم التكنولوجي لصالح الأخيرة ، وكثرة التحالفات على المستوى الدولي التي وفّرت لأميركا ما يقارب 24 ألف وحدة عسكرية متمركزة في عشرات الدول الأجنبية ، مقابل آلافاًَ قليلة من العسكريين والجنود الصينيين ضمن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ، مُنتهياً إلى أنها تستطيع فقط زيادة تكاليف أي تدخل أمريكي في البحار قرب السواحل الصينية .

وبطبيعة الحال ناقش القوة الناعمة التي ابتكرها كمفهوم في السياسة الدولية ، والتي ترتكز على ثلاثة موارد : ثقافة البلد من ناحية جذبها للآخرين ، وقيمها السياسية عندما تعمل لأجلهم داخل الوطن وخارجه ، وسياستها الخارجية حينما تعطيها مشروعية وسلطة أخلاقية ، وتكون الدولة أنجح في صناعة قوتها الناعمة كلما قلّ اعتمادها على الحكومة وزادت روافدها من ممارسات الأفراد والمجتمع المدني والقطاع الخاص ؛ وهو ما يعطي أميركا تفوقاً واضحاً آخر على الصين ، التي تواجه مصاعباً في علاقاتها السياسية مع جيرنها بسبب نزاعات المكانة والمناطق ، كما تعتمد بالأساس على الحكومة من خلال برامج مساعدات تلقي ترجيباً أكثر من مثيلتها الغربية ، ومن خلال نشر ثقافتها من خلال معاهد كوفوشيوس ووكالات الأنباء الحكومية الخاصة بها .
وينتهي ناي إلى موافقة السياسي الصيني يان شيوتنغ على أنه "لكي تشكًل بكين بيئة دولية صديقة لصعودها ، فإنها تحتاج إلى تطوير علاقاتها السياسية والعسكرية بصورة أرقى من واشنطن ، .. ، فجوهر التنافس بين الصين والولايات المتحدة سيكون من منهما لديه أصدقاء من الطراز الأول" ؛ ليبني ناي على ذلك أن "الولايات المتحدة في موقع أفضل للاستفادة من هذه الشبكات والتحالفات ؛ إذ لدى واشنطن ما يقارب 60 معاهدة تحالف ، في حين لا تمتلك الصين إلا القليل ، ... ، وفي الاصطفاف السياسي ، قدّرت مجلة الإيكونوميست أنه من أصل 150 دولة في العالم ، تميل 100 دولة تقريباً إلى الولايات المتحدة ، في حين تميل 21 دولة ضدها" .

وبعد هذه المقارنات التي انتهت إلى استمرار التفوق الأمريكي رغم مسار الانحدار النسبي دولياً ، ينتقل ناي في الفصل الخامس إلى مناقشة الحالة الثانية مُتمثلةً في الانحدار المطلق محلياً ، ليقيّم الأوضاع الأمريكية مُتسائلاً ، هل ستكون أميركا تكراراً لروما التي "فسدت من الداخل حينما فقد الناس ثقتهم بثقافتهم ومؤسساتهم ، وبدأت النخبة تتقاتل للسيطرة ، وازداد الفساد ، وأخفق الاقتصاد في نموه" ؟
فناقش المجتمع والثقافة والاقتصاد والمؤسسات السياسية ، مُنتهياً إلى أن "الثقافة الأمريكية فيها انشقاق ، لكن تبقى قابلة للعلاج وأقل خطورة من أي وقت مضى ، والمشكلات الاجتماعية زاخرة ، بعضها تحسّن وبعضها تردى ، ويبقى المجتمع مُنفتحاً على العالم الخارجي وأفضل من كثير من المجتمعات في قدرته على تجديد نفسه ، ... ، والاقتصاد الامريكي ينمو بشكل أسرع مما كان عليه في الماضي ، لكنه يبقى إبداعياً في استخدام وتسويق التكنولوجيا بسبب ثقافته القائمة على ريادة الأعمال ، وصناعة رأس المال والاستثمار الأكثر نضجاً ، والعلاقات التقليدية الحميمة بين الصناعة والجامعات الأكثر رقياً على مستوى العالم" ، ومع ذلك تبقى مشكلات مثل اللامساواة وضعف التعليم الأساسي والدين العام وازدياد جمود النظام السياسي ، لكنها في رأيه "لا يمكن أن تخلق انحداراً مُطلقاً يجيبنا بوضوح عن الزمن الذي سينتهي فيه القرن الأمريكي" .

وهكذا بعدما وصل ناي إلى استمرار التفوق الأمريكي خارجياً وعدم انحدارها داخلياً ، أضاف اعتبار ثالث في الفصل السادس يحدد إمكانية وطريقة استمرار القرن الأمريكي ، وهو المتعلق بتحوّلات القوة الدولية وتعقّداتها ، إذ كما تحوّلت القوة من دول الغرب إلى دول الشرق ، فإنها أيضاً وهو الأخطر قد انتشرت من الحكومات إلى اللاعبين غير الحكوميين من ناشطي إنترنت وحركات سياسية واجتماعية وإرهابية ومنظمات إجرامية .. إلخ ؛ بحيث ضعفت سيطرة الأخيرة وقلت قدرتها على العمل في العديد من القضايا دولياً ، خصوصاً تلك التي لا تصلح القوة الصلبة في التعامل معها كقضايا البيئة والمعلومات خصوصاً ، وهو ما ساهم في إعادة ترتيب مستويات القوة دولياً ، بحيث احتل أؤلئك اللاعبون غير الحكوميون المستوى الثالث من مستويات القوة تلك ، تحت المستوى الثاني المتوسط الذي تتنافس فيه القوى الكبرى اقتصادياً دونما تفوّق أمريكي حاسم في الأفق القريب ، والمستوى الأول الأعلى الذي لاتزال أميركا تحتله مُنفردةً كالقوة العسكرية الأولى .
وهذا التحوّل والتعقّد والانتشار في القوة سيعقّد كثيراً من مسألة القيادة العالمية ؛ ما سيزيد من أهمية التعاون وبناء التحالفات التي ستحتل فيها أميركا موقعاً محورياً تمتلك معه الريادة لا الهيمنة ؛ بحيث يمكن أن يستمر القرن الأمريكي ، لكن بتحوّل جوهري في محتواه يتسق مع الانحدار النسبي في موقع أميركا دولياً ، والخلاصة في رأيه أن "القرن الأمريكي لم ينته ، ... ، فنحن لم ندخل بعد عالم ما بعد أميركا ، لكن استمرار القرن الأمريكي لا يبدو أنه كما كان في القرن العشرين ، فحصة أميركا في الاقتصاد العالمي أقل مما كانت عليه في منتصف القرن الماضي ، والتعقيدات التي تتمثل بصعود دول أخرى ، إضافةً إلى ازدياد دور المؤثرين غير الحكوميين سيجعل من الصعب على أحدنا أن يكون له نفوذ أو أن يرتب لحدث ما" ؛ وعليه فالمُستهدف كما وصفته هيلاري كلينتون هو "عالم متعدد الشركاء" .

ورغم قوة حجة المؤلف ، ومنهجيته المميزة في تناول قضية القيادة الدولية عبر الأبعاد الثلاثة التي حددها بالموقع النسبي دولياً والإمكانات المطلقة محلياً وتحوّلات القوة رأسياً وأفقياً ، لكن لاجدال في تفاؤله الزائد – وانحيازه بالطبع - فيما يتعلق باستمرار التفوق الأمريكي ، فباستثناء قلة تتعجل وتستسهل الاستنتاجات ، لا أحد تقريباً ممن يتحدثون عن الانحدار الأمريكي قال بأن أميركا قد انتهت فعلاً ، بل يقرّون باستمرار تفوقها على العديد من الأصعدة حتى اليوم ، إلا أنهم ينظرون بجدية أكبر إلى الاتجاهات والمسارات الحالية التي تجري اليوم تحت أعيننا جميعاً ، والتي إن استمرت على ذات الوتيرة ، فإنها تبشر بمزيد من الانحدار الخارجي (تقدم المنافسين) والداخلي (التراجع الذاتي) لأميركا ؛ ومن ثم تراجع دورها في خريطة التحالفات الدولية بشكل ربما لا تمتلك معه حتى ذلك الدور القيادي المتميز الذي يتحدث عنه المؤلف كمواطن أمريكي بأمل ورغبوية مفهومة ومشروعة !

=====================================================

نُشر لأول مرة بمجلة "عالم الكتاب" المصرية ، الإصدار الرابع ، العدد الثالث ، ديسمبر 2016م ، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب