نقد الحضارة، للباحث محمد عبد الحق (ج 2)


محمد عادل زكي
2017 / 6 / 11 - 08:48     


(إن وعي الإنسان القديم كان يعاني الشيزوفرينيا، وإن الحضارة المصرية القديمة كان يتحكم بها ويوجهها أصوات تعاني من الهلوسة والانفصام) (1) قد يكون هذا النص صادم للبعض، ولكنه مألوف، بل ويؤيده عدد غير قليل من الباحثين في علم المصريات. فصاحب هذا النص هو أحد علماء علم النفس المهتمين بدراسة الحضارات القديمة وعلم المصريات، ذلك العلم الذي أنشأه الأوربيون لدراسة التاريخ المصري. وبعد أن بدأ هذا العلم من خلال دراسات موضوعية متأثرة ومستندة على ما ذكره الإغريق عن عظمة الحضارة المصرية، تحول إلى تحليلات موجهة لتصوير التراث المصري القديم بشكل يرضي أهواء النظرة الأوربية عن العالم.
فعندما بدأ عصر النهضة في أوربا، تأثر الأوربيون بما دونه الإغريقيين عن علوم وحكمة قدماء المصريين، وهذا ما أيدته بحوث الحملة الفرنسية على مصر في بداية القرن التاسع عشر. فما ذكره الإغريقيون عن إعجابهم الشديد وتأثرهم بالكهنة المصريين ورحلات فلاسفتهم وعلماؤهم الأوائل لمصر بغرض العلم والتعلم من الكهنة المصريين، كما ذكر أفلاطون في كتاب (محاورة طيماوس) (2) أبهر عقول الأوربيون. فحاولوا الكشف عن تلك الحكمة وهذا العلم الكامن في آثار مصر القديمة، وبخاصة بعد فك رموز اللغة المصرية القديمة على يد فرنسوا شمبليون. ولكن بعد ذلك ظهر تأثر الأوربيون بمبدأ التطور التراكمي للعلم والحضارة على علم المصريات. واعتبروا هذا المبدأ الذي وضعه فرانسيس بيكون (3) هو أمر مسلم به، وأهملوا بذلك اجتهاد كل الحضارات السابقة لهم على مدار ما يزيد عن خمسة آلاف عام، وإبداعات تلك الحضارات العظيمة . وانطلقوا في كتابة على المصريات وباقي العلوم الأخرى مرتكزين على رؤيتهم القاصرة والتي تؤرخ للعالم ابتداءا من رؤيتهم، معتبرين بذلك أنهم هم الأوربيون أصحاب كل مظاهر العلم الحديث والتطور والحضارة التي عرفتها البشرية. إما المراحل التي تسبقهم فكانت مراحل طفولة أو مراهقة حضارية، وأنه كلما كانت الثقافات أقدم كلما كانت أكثر بدائية وتخلف. ولم تبلغ الحضارة البشرية النضج إلا على أيديهم وبإجتهاداتهم فقط.
من ذلك المنظور الأوربي انطلقت غالبية العلوم التي ندرسها الآن. ومن ضمن تلك العلوم علم التاريخ، كعلم مستقل ينظر في الجذور والأصول الحضارية وتطورها، ليكون داعم لفكرة التطور التراكمي المسيطرة على عقول الأوربيين. لذلك من المنطقي أن نجد كل هذا التشويه للحضارات العظيمة السابقة كالحضارة السومرية في العراق، والحضارة المصرية القديمة وحضارة المايا في أمريكا اللاتينية.
ذكر في البحث السابق(4) بعض مظاهر التطور في الحضارة السومرية العظيمة، كما ذكر تحليل بسيط لتلك المظاهر وفرضية وجودها، وفي هذا البحث سأتوجه بالنظر إلى الحضارة المصرية القديمة، كثاني حضارة من حيث القدم، كما هو مذكور في الرواية الرسمية الأكاديمية لعلم التاريخ، وتحليل بعض مظاهر تلك الحضارة العظيمة، مستندا في ذلك على أقدم النصوص التي تركتها لنا تلك الحضارة. تلك النصوص هي متون الأهرام(5) وكتاب الخروج إلى النهار (كتاب الموتى).(6)
عند قراءة متون الأهرام أو كتاب الموتى نجد ترجمتها تدفعنا دائما إلى مظاهر لطقوس تعبدية أو جنائزية. ولكن بين كلمات تلك النصوص نجد الكثير من الكلمات التي يعد وجودها ألغازا كبيرة.
فمثلا نجد في مواضع كثيرة يذكر فيها قدماء المصريين استخدام اللازورد، وهو أحد الأحجار الكريمة، في وصف الآلهة القديمة ومقتنياتهم، كما نجد في المتحف المصري تماثيل مطعمة باللازورد ترجع لعصر ما قبل الأسرات. الغريب في ذكر حجر اللازورد هو أن مصدره الوحيد في العالم القديم كان منطقة وسط آسيا وبالتحديد عند منطقة شمال نهر السند. وتلك المنطقة تبعد عن أماكن اكتشافه في مصر آلاف الأميال. ومن النصوص أيضا يبدو لنا أن هذا الحجر كان متداول بكثرة عند المصريين. وهو ما يدفعنا للتفكير في كيفية نقل هذا الحجر بكميات كبيرة بين تلك الحضارات وفي تلك العصور!
تلك الحركة التجارية توضح لنا أنه كانت هناك حركة تجارية نشطة بين حضارات موغلة في القدم. فكيف كانت تجرى هذه الحركة التجارية؟ وما هو المنظم لتلك العمليات التبادلية للسلع بين تلك الحضارات المختلفة، وبالأخص قبل وجود الكتابة والتدوين؟ وما هي وسائل الانتقال التي استخدمتها تلك الحضارات للتواصل فيما بينها وقطع تلك الآلاف من الأميال من أجل التجارة؟
من الغريب أن التاريخ برغم كل ما يحتويه من تفاصيل يعجز عن الإجابة عن تلك الأسئلة بإجابات منطقية.
كما نجد في النصوص المصرية القديمة يذكر معدن الذهب (الإلكتروم) في كثير من المواضع أيضا. ولهذا المعدن أيضا دلالات على بعض الأمور الغامضة. فقد اتفقت كل الحضارات القديمة على أن الذهب معدن نفيس له قيمة عالية. كما رصد وجوده في الحضارات القديمة في فترات ترجع لما يزيد عن الأربعة آلاف عام قبل الميلاد، ووجدت مشغولات ذهبية عالية النقاء في مصر وبلاد الرافدين بعضها مطعم بالأحجار الكريمة. فكيف كان يتم صهر هذا المعدن وسباكته بتلك الجودة؟ ونتساءل أيضا كيف اكتشفه الإنسان وصهره، وبخاصة عندما نعلم ان درجة انصهاره أضعاف درجة حرارة النار العادية التي كان يشعلها الإنسان البدائي. إذا فهو يحتاج درجات حرارة عالية وأفران مخصصة لصهره. فكيف توصل الإنسان البدائي لمثل هذه التكنولوجيا التعدينية ليتمكن من صهر الذهب وسبكه بل وتطعيمه بالأحجار الكريمة؟
كما نجد في اللوحة الثالثة من بردية آني في كتاب الموتى صورة يدفعنا تحليلها لأمر اجتماعي بالغ الأهمية. تروي هذه اللوحة مشهد محاكمة روح المتوفى ، وبالرغم من التصوير الطقسي لتلك المحاكمة ولكنها تحتوي على مظاهر لها دلالات توضح تطور مفهوم العدالة وطرق تطبيقها عند قدماء المصريين. تصور تلك اللوحة قاعة المحكمة التي نجد بها رئيس المحكمة الإله أوزيريس ومعه إثنان وأربعون قاضيا من أقاليم الدولة المصرية السياسية، ونجد صورة الميزان كدلالة على الحرص على تطبيق العدالة، وعند المحاكمة يمثل الشخص أمام هؤلاء القضاة المتمثلون في صور آلهة، ويتم استجوابه، ثم بعدها يصدر الحكم وينطقه الإله دحوتي وينقله لرئيس المحكمة الإله أوزيريس، حيث يعلن براءة الشخص المعني بالمحاكمة، ثم ينتقل هذا الشخص لصحبة الإله أوزيريس في حقول الجنة ليحظى بالنعيم الأبدي. قد تنتهي تلك الصورة بحالة نألفها وهي حالة النعيم الأبدي بصحبة الإله كما هو موجود في الديانات السماوية، ولكن ما يعنينا في هذا التحليل هو تصوير تلك المحاكمة بهذا الشكل الراقي الذي يواكب أكثر النظم القضائية تطورا في تلك الايام. وإن كانت تلك الصورة تتحدث عن طقوس جنائزية غير واقعية، ولكن ما هو تفسير على التاريخ لهذا التصوير وكيف تطرق هذا التصوير إلى عقول قدماء المصريين إن لم يكن مأخوذ من الواقع؟
أما إذا تحدثنا عن المظاهر العلمية في الحضارة المصرية القديمة فسنجد أنفسنا أمام أمر بالغ الغرابة، فمهما حاول المنهج الإستقرائي لفرانسيس بيكون أن يشرح تلك المظاهر لن يستطيع أن يوضح تلك المظاهر المتنوعة دون استخدام أدوات متطورة للكشف عن القوانين الموضوعية التي بنيت عليها علوم قدماء المصريين. فمثلا علم الفلك ومظاهره في الحضارة المصرية القديمة، وفهم قدماء المصريين لقوانينه، هو من أكثر ألغاز الحضارات الإنسانية تعقيدا على مر العصور.
فالتقويم المصري القديم ودقته وزمن بدايته، (7) وذكر مجموعات نجمية عملاقة، والوعي بالأبعاد الكونية بين تلك المجموعات النجمية، (8) وتحديد الاتجاهات الأربعة بدقة تفوق البوصلة، وتعامد الشمس على بعض التماثيل والمعابد في مواعيد محددة تتكرر كل عام، وطرق بناء المعابد واتجاهاتها، والبناء المعجز الأعظم على وجه الأرض وهو الهرم الأكبر وكل ما يحتويه من أسرار وأرقام لمعايير فيزيائية مكتشفة حديثا، وتشابه طرق بناؤه مع أهرام أخرى في حضارة المايا في أمريكا اللاتينية، كل تلك الأمور لم ينشئها قدماء المصريين صدفة، ولكنهم امتلكوا علوم مكنتهم من تسخير قوى الطبيعة ليتركوا لنا كل هذا الكم من الإنجازات والألغاز.
ومن العجيب أيضا ما تحتويه حضارة المايا من تشابه مع الحضارة المصرية القديمة، وما يزيد الأمور غرابة هو البعد الجغرافي بين الحضارتين، بالتأكيد ومع كل الاكتشافات المتشابهة بين الحضارتين كان هناك تواصل من نوع ما، تم بين تلك الحضارات. ولكن العلم يجهل تلك الطريقة التي تم التواصل من خلالها. كما أن تدمير آثار حضارة المايا وطمس آثارها على يد المستعمرين الاوربيين كان له أثر بالغ السوء على فكرة دراسة حضارة المايا بشكل أكثر دقة. إذا فكيف تم الاتصال بين الحضارات، وما هي وسيلة الاتصال بين حضارة المايا والحضارة المصرية القديمة؟
شغلت آثار قدماء المصريين عقول العالم، وعجز العلم الحديث عن تفسير أسباب وطرق إنشاءها. ومع أن قدماء المصريين تركوا الكثير من تفاصيل حياتهم وعلومهم وحضارتهم وأدواتهم، ولكنهم لم يتركوا تفاصيل تخص تلك العلوم التي استخدموها لبناء تلك الآثار العظيمة فصارت لنا لغز. فهل فعلا من قام ببناء الآثار المصرية هم ملوك الأسرات المعروفة كما يزعم علم المصريات وعلماؤه أم أنهم ورثوها، كما ورثوا العلم والأسرار التي دونوها من حضارة سابقة لهم وصفوها هم أنفسهم بالعصر الذهبي. (9) حيث وصف قدماء المصريين هذا العصر بأن البشر فيه كانوا أقرب إلى العالم الإلهي وكان البشر فيه يعيشون في تناغم مع ال(ماعت)(10)؟
ما أعلمه أنا والكثيرين أيضا أن التفكير المنطقي يرفض تفسير تلك الظواهر الكامنة في الحضارة المصرية القديمة بالطريقة التي تم تفسيرها بها في علم المصريات. لذلك لابد من إعادة النظر في محتويات هذا العلم، وإعادة كتابة تاريخ الحضارات بصورة أكثر منطقية، تتماشى مع التطورات والكشوف الأثرية الحديثة من جهة، ومن جهة أخرى إعادة ترجمة النصوص المصرية كنصوص الأهرام وكتاب الخروج إلى النهار وباقي النصوص بصورة أكثر شمولية وديناميكية عن كونها مجموعة من الطقوس الجنائزية.

وفي النهاية، قد نفنى دون الوصول لإجابات شاملة لتلك التساؤلات كما فنيت حضارات عديدة وعظيمة. وستظل آثار مصر صامدة أمام التاريخ لتبلغ القادمين من البشر عن عظمة ورقي وتطور تلك العصور الذهبية التي غابت عنا تفاصيلها، وأعجزتنا آثارها التي بقيت، وستظل باقية...


هوامش
(1)من كتاب جذور الوعي عند تحليل العقل الازدواجي لعالم النفس الامريكي جوليان جينس. وأيده في تلك الرؤية اخرين منهم فنسنت توين صاحب كتاب(العقل الازدواجي كأساس منطقي للديانة المصرية القديمة)، وكين ويلبر صاحب كتاب (الصعود من جنة عدن: رؤية موضوعية لتطور البشرية)
(2)هناك الكثير من علماء وفلاسفة الاغريق تأثروا تأثرا كبيرا بعلوم وحكمة قدماء المصريين، ففي كتاب (محاورة طيماوس) ذكر افلاطون حديثا دار بين الفيلسون اليوناني سولون وبين احد كهنة مصر القديمة في القرن السادي قبل الميلاد وفي هذا الحديث قال الكاهن المصري للفيلسون اليوناني (انتم ايها اليونانيون كالاطفال، انكم جميعا صغار العقول) ويبدو ان ذلك الحديث لم يخلق اي امتعاض او ضجر عند الفيلسوف اليوناني لإقراره ووعيه بصحة هذه العبارة، بل واستمر هو وكثيرين من اليونانيين في رحلاتهم العلمية لمصر ليستزيدوا من العلوم والحكمة التي يمتلكها الكهنة المصريين.
(3)فرانسيس بيكون فيلسوف انجليزي يعتبر قائد الثورة العلمية في اوربا وصاحب الفضل الاكبر في ترسيخ منهج الاستقراء والملاحظة والتجارب للكشف عن كل الظواهر المحيطة بالانسان. وشرطه الاساسي لهذا المنهج هو تطهير العقل من كل الاحكام السابقة والاوهام والاخطاء التي انحدرت إليه من الاجيال السابقة. وتبعه في ترسيخ فكرة التطور الفيلسوف الفرنسي اوجست كونت ودارون وآخرين.
(4)بحث سابق لي بعنوان نقد الحضارة1
(5)متون الاهرام او نصوص الاهرام، هي مجموعة من النصوص المنحوتة على اهرامات الدولة القديمة للاسر الخامسة والسادسة في منطقة سقارة. ويرجع تاريخ تلك الاهرام للقرن الرابع والعشرون قبل الميلاد. بينما يرجح ان عمر نصوص الاهرام يرجع لعصور تسبق ذلك التاريخ بعصور بعيدة.
(6)كتاب الخروج إلى النهار(كتاب الموتى) هو مجموعة من النصوص الدينية وجدت على بردية تسمى بردية آني يرجع تاريخ استخدامها للقرن السادس عشر قبل الميلاد ويرجح ايضا ان كتابة تلك النصوص يرجع لفترة تسبق تاريخ استخدامها بعصور بعيدة.
(7) التقويم المصري القديم : قام علماء مدينة اون (عين شمس) بإبتداع نظام تقويم شمسي لتحديد الايام والفصول في مصر القديمة، بدأ تطبيق هذا التقويم تقريبا في العام 2773 قبل الميلاد، واحتسبوا السنة مكونة من 365 يوم قسموها على 12 شهر كل شهر مكون من 30 يوم بينما الخمسة ايام الباقية جعلوها احتفالات بخمس آلهة رئيسية وهم اوزيريس وايزيس وست ونفتيس وحورس. من بحث الفلك في مصر القديمة للباحث مهاب درويش.
(8) في كتاب الخروج إلى النهار يذكر فيه المترجم محسن لطفي السيد في كثير من الفصول ذكر تفاصيل عن النجوم، ومجموعات نجمية مثل مجرة درب التبانة، ومجموعة اوريون (الجوزاء) ومجموعة الشعرى، كما يذكر الكثير من التفاصيل الخاصة بالفضاء.
(9)تنتشر فكرة وجود عصر ذهبي في الحضارات القديمة واشهرها الحضارة السومرية ، وقد ذكرت ذلك في البحث السابق (نقد الحضارة 1) وايضا في الحضارة المصرية القديمة نجد كثير من الباحثين في المصريات يذكرون وصف قدماء المصريين لهذا العصر الذهبي، منهم جيرمي نيدلر في كتابه (معبد الكون) وكريستيان جاك في كتاب (التراث العتيق لمصر القديمة) ومعهم اخرين متفقين على تلك الرؤية.
(10) الماعت : المقصود به هنا الحق والعدل ، على اعتبار تلك المثل والقيم هي احد القوانين الكونية فإن البشر في العصر الذهبي كانوا يعيشون في مناخ يملؤه الحق والعدل والنظام.