طريق اليسار - العدد 96أيار/مايو 2017


تجمع اليسار الماركسي في سورية
2017 / 5 / 31 - 09:44     


طريق اليســـــار
جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم /
* العدد 96أيار/مايو 2017 - [email protected]E-M: *



* الافتتاحية.


- محاولة لتحديد مفهوم (نزعة الإستعانة بالخارج) -

في التاريخ الأوروبي الحديث هناك أسرتان ملكيتان عادتا للعرش بعد ثورتين داميتين:آل ستيوارت في انكلترا(1660-1688)وآل بوربون في فرنسة(1815-1830).تولى تشارلز الثاني عام1660 العرش بعد أحد عشر عاماً من قطع الثورة لرأس والده الملك تشارلز الأول. بين هذين التاريخين عاش هو في القصر الملكي الفرنسي حيث كانت أخته هنرييت متزوجة من دوق أورليان شقيق الملك لويس الرابع عشر.كان معجباً بالثقافة ونمط الحياة الفرنسيان ورغم كون ملك انكلترا هو رأس الكنيسة الأنجليكانية منذ انشقاقها عن كنيسة روما عام1534فإن تشارلز الثاني كان معتنقاً سرياً للكاثوليكية وكان يقبض راتباً شهرياً خاصاً بعد عودته للعرش من لويس الرابع عشر وفي القصر الملكي بلندن كان يتكلم بالفرنسية أكثر من الإنكليزية.تحالف مع فرنسة ،حاملة لواء الكثلكة،في حربها على الجمهورية الهولندية .عندما تولى أخوه جيمس الثاني عام1685العرش فإن تبعيته لباريس كانت أكثر من سلفه الراحل،وقد أدت محاولاته لكثلكة انكلترا من جديد،وهو الكاثوليكي الصريح،إلى ثورة 1688-1689التي اختلطت فيها مشاعر الإنكليز القومية مع العداء للكاثوليكية ومع العداء للنجم الصاعد في السماء الأوروبية أي الملك لويس الرابع عشر في قصر فرساي بباريس.اختلطت الأمور الثلاثة مع السعي إلى سلطة البرلمان وجعل الملك"يملكولايحكم"فيماكان جيمس الثاني متحالفاً مع لويس الرابع عشر صاحب كلمة :"أنا الدولة".ظل الملك الفرنسي يسعى إلى عودة جيمس الثاني حتى عقد معاهدة1697عندما اعترف بوليام الثالث ملكاً على انكلترا مع اقرار بالتخلي عن دعم الملك الانكليزي السابق.مع هزيمة نابليون بونابرت عاد آل بوربون إلى الحكم في باريس عام1815على رؤوس حراب الأجنبي:البريطاني- الروسي- النمساوي- البروسي بعد ربع قرن من الثورة الفرنسية التي اقتلعت رياحها عرشهم.كانت تبعيتهم للأجنبي والطريقة التي عادوا بها إلى قصر فرساي،إضافةلماقيلعنهم:"لم ينسوا شيئاً،لم يغفروا شيئاً،لم يتعلموا شيئاً"،قد أدت ،كعوامل مجتمعة،للإطاحة بهم ثانية في ثورة تموز1830.
تعطي التجربة الأوروبية محددات للعملية السياسية الداخلية:أطراف اللعبة محليون حصراً،وممنوع الاستعانة بالخارج من أجل حسم أوتمييل ميزان القوى الداخلي في أثناء النزاعات أوالصراعاتالمحلية،سواء من السلطة القائمة أومن قوى المعارضة.الداخل والخارج ،هنا،يتحددان من خلال الحدود الجغرافية للدولة المحلية القائمة وقت النزاع أوالصراع.في تلك المحددات يمكن للسلطة القائمة طلب معونة دولة أجنبية في حالة تعرض البلاد لغزو خارجي(اليونان عام1940عندما طلبت المعونة البريطانية ضد غزو موسوليني)وليس في حال نزاع داخلي تكون هي أحد طرفيه. تعتبر من المحرمات ،التي تصل للخيانة العظمى،عملية التعامل مع الأجنبي الغازي والمحتل(تجربة جمهورية فيشي برئاسة الماريشال بيتان في فرنسة المحتلة من الألمان بين عامي1940-1944) ،وهو مايلامس حدود الفعل الجنائي الجرمي ولايمت بصلة للفعل السياسي في حدوده المعروفة والمتفق عليها.
في التجربة السياسية العربية الحديثة هناك حالات كثيرة من (نزعة الإستعانة بالخارج): حاكم استعان بالخارج ضد أطراف من السلطة تحالفت مع قوى اجتماعية ضده(الخديوي توفيق عام1882لمااستجلب القوات البريطانية ضد وزير الحربية أحمد عرابي والقوى الاجتماعية المصرية الواقفة وراءه وهو ماكان بداية الاحتلال البريطاني لمصر- الهاشميون في بغداد عام1941الذين استعانوا بلندن من أجل الإطاحة بحكومة رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني وعادوا للقصر الملكي على ظهر الدبابات البريطانية- جعفر النميري وأفراد سلطته الذين استعانوا بالسادات والقذافي ضد انقلاب 19تموز 1971بقيادة الرائد هاشم العطا المدعوم من الحزب الشيوعي السوداني حتى عودته للسلطة بعد ثلاثة أيام).أحزاب أوقوى سياسية أوتنظيمات ذات طابع إثني حملت السلاح ضد السلطة المركزية مطالبة بتحقيق الانفصال أوالحكم الذاتيأوالفيدرالية واتجهت من أجل تحقيق أهدافها للإستعانة بالخارج الدولي أوالاقليمي أوكليهما معاً(حركة التمرد الجنوبية بالسودان بين عامي1955و1972ثم حركة جون غارانغ بدءاً من عام1983- تمرد الملا مصطفى البرزاني بين عامي 1961و1970ثم بين عامي1974و1975في الشمال الكردي العراقي وبعده مسعود البرزاني وجلال طالباني في الثمانينيات والتسعينيات- حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري بين عامي2014و2017). انقلابات عسكرية أومحاولات انقلابية فاشلة استعانت بالخارج(انقلاب الانفصال السوري يوم 28أيلول1961المدعوم من بريطانية - انقلاب حزب البعث في بغداد يوم8شباط1963المدعوم من واشنطن والقاهرة معاً ضد سلطة عبدالكريم قاسم المتحالف مع الحزب الشيوعي- خطة الانقلاب العسكري ضد حكم حزب البعث ببغداد التي كشفت قبل وقوعها بالشهر الأول من عام1970وكانت مدعومة من شاه ايران).أحد أطراف نزاع داخلي يستعين بالعدو الخارجي لدولته من أجل منع تمييل الموازين لصالح خصمه ومن أجل كسر التوازن وتمييله لجانبه (بشير الجميل بين عامي1978و1982). معارضة سياسية تتعاون مع الأجنبي الغازي والمحتل (عراق2002-2003).معارضة سياسية تتجه نحو المراهنة على الرياح الخارجية ضد السلطة القائمة من أجل تحقيق التغيير الداخلي ("اعلان دمشق"في عام2005) .معارضة سياسية أثناء نزاع وأزمة داخليان تنحوا إلى الاستعانة بالخارج من أجل الإطاحة بالسلطة القائمة("المجلس الوطني السوري"بعامي2011و2012و"الائتلاف الوطني السوري"منذ2012).فصائل عسكرية معارضة تحمل السلاح في أثناء نزاع وأزمة داخليان تتجه إلى الاستعانة بالخارج من أجل مساعدتها بالإطاحة أوهزيمةأوتمييل موازين القوى ضد السلطة القائمة(سوريا2012-2017).اعطاء قوات أجنبية مطارات عسكرية من قبل مليشيا محلية في مناطق تسيطر عليها الأخيرة من أجل المساعدة في انشاء توازنات عسكرية- سياسية لصالحها في المشهد المحلي العام الراهن والمستقبلي(قوات سوريا الديمقراطية بعامي2016و2017).
إذا أردنا التكثيف:في التاريخ الغربي الحديث مثَلت (نزعة الإستعانة بالخارج)شذوذاً ،بينما كانت في التاريخ العربي الحديث قوية وذات منحى رئيسي في سياق الحركة العامة.انتشرت بقوة في مجتمعات عانت من حالة (اللااندماج الاجتماعي)مثل السودان ولبنان والعراق،أومن (انفجار داخلي)مثل سورية2011-2012.وجدت هذه النزعة بقوة عند أحزاب أقليات دينية وطائفية وإثنية كانت قوية التمثيل لوسطها الاجتماعي الأقلويالخاص.انتشرت هذه النزعة بقوة عند تنظيمات (الاسلام السياسي ) بفرعيه الأصولي الإخواني والسلفي الجهادي.وجدت هذه النزعة بقوة طاغية عند ماركسيين تحولوا إلى الليبرالية في مرحلة مابعد تفكك الاتحاد السوفياتي أواخر عام1991.ترافقت هذه النزعة عند أغلب معتنقيها العرب مع نبذ(العروبة)والاتجاه نحو النظر إلى المجتمع "بوصفه مكوناً من مكونات دينية وطائفية وإثنية"وليس بوصفه مكوناً من "مواطنين متساوون بمعزل عن دينهم وطائفتهم وإثنيتهم".عند جميع هؤلاء كانت (النزعة الثأرية)قوية الحدة وكان هناك عدم أخذ بنصيحة لينين:"الحقد مرشد سيء في السياسة".

ملف :
في الذكرى الثلاثين لاستشهاد مهدي عامل:
الدكتور حسن عبد الله حمدان المعروف باسم مهدي عامل (ولد في بيروت عام 1936) ابن بلدة حاروف الجنوبية قضاء النبطية. متزوج من إيفلين بران، وله ثلاثة أولاد: كريم وياسمين ورضا.
تلقى علومه في مدرسة المقاصد في بيروت وأنهى فيها المرحلة الثانوية.
نال شهادة الليسانس والدكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون، فرنسا. درّس مادة الفلسفة بدار المعلمين بقسنطينة (الجزائر)، ثم في ثانوية صيدا الرسمية للبنات (لبنان). انتقل بعدها إلى الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية كأستاذ متفرغ في مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات.
كان عضوا "بارزا" في اتحاد الكتّاب اللبنانيين والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ورابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1960، وانتخب عضوا في اللجنة المركزية للحزب في المؤتمر الخامس عام 1987.
في الثامن عشر من أيار عام 1987 اغتيل في أحد شوارع بيروت، وهو في طريقه إلى جامعته الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول، حيث كان يدرس فيها مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات. من أقواله "لست مهزوما ما دمت تقاوم". وعلى إثر اغتيال مهدي عامل أعلن يوم التاسع عشر من أيار من كل عام "يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي".
نشأته و حياته
هو مفكر ومناضل شيوعي ولد في بيروت عام 1936 من بلدة حاروف قضاء النبطية.اسمه الحقيقي حسن عبدالله حمدان. في العام 1955 انهى مرحلة الدراسة الثانوية من مدرسة المقاصد في بيروت، سافر إلى فرنسا في عام 1956 ونال من جامعة ليون شهادتي الاجازة والدكتوراه في الفلسفة .وفي العام 1960 انتسب إلى صفوف الحزب الشيوعي اللبناني[2].في عام 1963 سافر إلى الجزائر واشتغل لمدة اربع سنوات في التعليم في دار المعلمين بمدينة القسطنطنية، وكتب بالفرنسية عدة مقالات نشرت في مجلة “الثورة الأفريقية” الصادرة في الجزائر .في عام 1968 درّس مادة الفلسفة في ثانوية صيدا الرسمية للبنات وبقي في عمله هذا إلى ان انتقل عام 1976 إلى الجامعة اللبنانية-معهد العلوم الاجتماعية، ليدرّس فيها مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات .ولقد كانت بداية حسن حمدان في مجلة “الطريق” تحت اسم مهدي عامل، الذي اصبح يُعرف به فيما بعد.[2]
تعتبر هذه الفترة (1968-1976) من الفترات المهمة في حياة حسن حمدان، حيث بدأ فيها ممارسة مشروعه الفكري والكتابة باللغة العربية، في وطنه، لدراسة واقعه الاجتماعي دراسة علمية وتمييز كونية قوانين الماركسية فيه، لتبدأ، بحسب حسن حمدان، «صيرورة الفكر العربي فكرًا علميًا» مبتعدًا عن القولبة وتكرار المقولات الجاهزة. ولقد ادرك خطورة ما يقوم به بقوله[2] :
- أصدر مهدي عامل عام1972 كتابه الاول “مقدمات نظرية لدراسة اثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني”. وقسّمه إلى قسمين: القسم الاول “في التناقض” والقسم الثاني “في نمط الانتاج الكولونيالي” الذي صدر عام 1976. وتكمن اهمية هذا الكتاب في ان مهدي بحث فيه في مجال جديد في الفكر الماركسي،وهناك جزء ثالث من الكتاب بعنوان “في تمرحل التاريخ” و الذى استشهد قبل أن يكمله.
- في عام1973، صدر كتابه “ازمة الحضارة العربية ام ازمة البرجوازيات العربية”، وفيه انتقد اعمال الندوة الفكرية التي عقدت في الكويت تحت عنوان أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي
- مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في عام1979، صدر كتابه “النظرية في الممارسة السياسية، بحث في اسباب الحرب الاهلية في لبنان”
[3] - و في عام1980، صدر كتابه “مدخل إلى نقض الفكر الطائفي-القضية الفلسطينية في ايديولوجية البرجوازيةاللبنانية”، عرض فيه المفاهيم الاساسية التي تكوّن ايديولوجية البرجوازية اللبنانية، وانتقدها من موقع نقيض لها، هو موقع الطبقة العاملة، مظهرًا بنقده البعد السياسي الذي تغيّبه ايديولوجية البرجوازية في نظرتها إلى القضية الفلسطينية.[2]
- في عام 1984 صدر ديوانه شعره الثاني “فضاء النون” تحت اسم هلال بن زيتون. وفي عام 1985 صدر كتابه “في علمية الفكر الخلدوني” وهو عبارة عن تمرين، بحسب قوله، لقراءة نص تراثي بفكر مادي علمي. وفي العام نفسه صدر له ايضًا كتاب بعنوان”هل القلب للشرق والعقل للغرب-ماركس في استشراق ادوارد سعيد” الوارد في كتاب “الاستشراق” في “ماركس وعلاقته بالفكر الاستشراقي وبالشرق الاسيوي”.
- في عام 1986 صدر كتابه “في الدولة الطائفية” الذي حلل فيه طبيعة النظام السياسي-الطائفي القائم في لبنان، بهدف كشف الصراع الطبقي الذي تحجبه الايديولوجية الطائفية بمظهر طائفي، لتؤيد الانتماء للطائفة لا للوطن، لتأييد النظام السياسي-الطائفي واعادة انتاجه.[2]
- بعد استشهاد مهدي عامل جُمعت مقالاته وكتاباته التربوية والتعليمية التي كتبها من 1968 _الى 1973ونُشرت في عام 1991 في كتاب بعنوان” في قضايا التربية والسياسة التعليمية”، حلل فيها الآلية السياسية التعليمية للدولة، في لبنان، التي تعمل من خلالها على ضرب التعليم الرسمي وتعميق الانتماء الطائفي لاعادة انتاج النظام السياسي-الطبقي-الطائفي.
مؤلفاته
من مؤلفات مهدي عامل:
• مقدمات نظرية: لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني. 1972 الطبعة الأولى، 1986 الطبعة الخامسة.
• أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية. الطبعة الأولى 1974، الطبعة الثالثة 1989.
• النظرية في الممارسة السياسية. بحث في أسباب الحرب الاهلية. الطبعة الأولى 1979. الثالثة 1989.
• مدخل إلى نقض الفكر الطائفي - القضية الفلسطينية في ايديولوجية البرجوازية اللبنانية. الطبعة الأولى 1980. الطبعة الثالثة 1989.
• هل القلب للشرق والعقل للغرب. الطبعة الأولى 1985. الطبعة الثالثة 1990.
• في علمية الفكر الخلدوني. الطبعة الأولى 1985. الطبعة الثالثة 1990.
• في الدولة الطائفية. الطبعة الأولى 1986.
• نقد الفكر اليومي. الطبعة الأولى 1988. لم ينتهِ.
• في تمرحل التاريخ، الطبعة الأولى، 2001.
له العديد من المساهمات النظرية المنشورة والتي ستنشر ضمن الاعمال الكاملة.
• في الشعر:
• تقاسيم على الزمان، الطبعة الأولى 1974.
• فضاء النون، الطبعة الأولى 1984.
-------------------------------------
حاجتنا إلى مهدي عامل
أسامة دياب/ فلسطين
https://www.ultrasawt.com
في عام 1974، عُقدت ندوة فكرية في الكويت، حول موضوع "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي"، بمشاركة عدد كبير من المفكرين العرب، من بينهم: زكي نجيب محمود وأدونيس ومحمود أمين العالم وأنور عبد الملك وفؤاد زكريا وآخرين.
يرى مهدي عامل أن الرجوع في التاريخ إلى الجاهلية أو الإسلام ليس ضروريًا لفهم تكوّن البنيات الاجتماعية العربية القائمة حاليًا
ناقشت الأبحاث المُقدَّمة في تلك الندوة أزمة التطور التي أدت إلى عدم قدرة الحضارة العربية على الوصول إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية من "تقدم". بعد أن كانت حضارة زاهرة، ثم دخلت في طور "انحطاط" طويل لم تخرج منه بعد. وتعليقًا على هذه الندوة، كتب المفكر اللبناني مهدي عامل (1987- 1936)، كتابه المُهم: "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية" الذي رأى فيه أن مجرد الإقرار بأن أزمة مجتمعاتنا العربية القائمة هي أزمة الحضارة العربية، يفرض على الفكر اتباع منهج يبتعد فيه عن معالجة الأزمة الفعلية، من حيث هي أزمة هذه المجتمعات في بنياتها القائمة، ليسير في اتجاه آخر هو اتجاه البحث عن أسباب هذه الأزمة في بنية الحضارة العربية نفسها، فيرتد بهذا إلى الماضي للبحث عن أسباب علَّة الحاضر.
محاولة قراءة الواقع في الماضي، بدلًا من قراءته في ذاته، هو ما ينتقده عامل بشدة؛ لأن الحاضر في رأيه هو الذي يملك مفتاح الماضي وليس العكس، على حد تعبير ماركس. يضرب عامل مثالًا على ذلك باستحالة قراءة نمط الإنتاج الرأسمالي، مثلًا، في بنية نمط الإنتاج الإقطاعي؛ لأن العلاقة بين هذين النمطين من الإنتاج ليست علاقة استمرارية بل علاقة قطع، ليس فقط في بنية علاقات الإنتاج في النمطين، بل فيما يقوم عليهما من بناء فوقي أيضًا (كالدولة وأجهزتها ومختلف الأشكال الأيديولوجية للوعي الاجتماعي، من فن وفلسفة ودين وأخلاق وقيم وعادات وتربية).
وإذا كان الإنتاج المسيطر في البلدان العربية هو نمط الإنتاج الرأسمالي، أو شكل تاريخي محدد منه هو الشكل الكولونيالي، وأن تاريخ تكوّن علاقات الإنتاج الرأسمالية لم يبدأ مع ظهور الإسلام أو الجاهلية أو العصر الأندلسي، إلخ، بل مع بدء التغلغل الإمبريالي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما هو معلوم. فإن عامل يرى أن الرجوع في التاريخ إلى الجاهلية أو الإسلام أو حتى إلى ما قبل بدء تكوّن العلاقات الرأسمالية في أوروبا نفسها، ليس ضروريا تمامًا، أثناء محاولة فهم تاريخ تكوّن البنيات الاجتماعية العربية القائمة حاليًا.
يعتقد عامل أن إظهار أزمة الحركة التاريخية للبنيات الاجتماعية العربية في شكل "أزمة الحضارة العربية" هو إخفاء لحقيقة هذه الأزمة، من حيث هي أزمة البرجوازيات العربية المسيطرة. وهنا يكمن التضليل الأيدولوجي في استخدام عبارة "حضارة". فالقضية الأساسية التي غابت عن أبحاث الندوة، في رأي عامل، هي التحرر الوطني من الإمبريالية. فلو طُرحت هذه القضية لتحددت المهمة الأساسية للشعوب العربية في ضرورة التحويل الثوري لبنية علاقات الإنتاج الكولونيالية، التي بتجددها المستمر، تتجدد السيطرة الإمبريالية، ويتأبد خضوعنا لهذه السيطرة، ويتأبد بالتالي ما يسمى "تخلفنا".
الدوافع التي تسببت في انتفاضة الشارع العربي، كانت نتيجة مباشرة لممارسات البرجوازيات العربية المسيطرة منذ عقود
هذا بالضبط ما تهدف إلى إخفائه البرجوازيات العربية المسيطرة، كما يبين لنا عامل، عن طريق ربط التطور الراهن للبنية الاجتماعية العربية بتطور البنية الاجتماعية الرأسمالية قبل ظهور الإمبريالية. وطمس قضية التحرر الوطني وإظهارها كأنها مجرد "تخلف" كمي أو تأخر زمني في تطور الرأسمالية عندنا، عن "تقدمها" في أوروبا الغربية وأمريكا. وهو ما يجعلنا نعيش دائمًا في حالة جلد للذات؛ لأن أية عوائق في سيرنا "الحضاري" هذا إلى "النموذج الكامل" لكل "حضارة وتقدم" لا بد من البحث عنها فينا نحن أو في "حضارتنا" العربية.
أفكار عديدة ومهمة، ناقشها عامل في هذا الكتاب، أصعب من أن تُجمع في مقالة. إلا أن أهم ما يمكن ملاحظته بعد مرور أكثر من أربعين عامًا، أن أغلب النقاشات الفكرية، التي تُطرح فيما يُعرف بالأوساط الثقافية العربية، حول نفس موضوع ندوة الكويت، ما زالت تدور في فلك الأسباب الثقافية/ الحضارية/ التراثية. وبالتالي فإن الأطروحات الناتجة عن هذه النقاشات لم تخرج عن أفكار من نوعية، تجديد الخطاب الديني وتنقية التراث من العنف وغيرها من الأطروحات الثقافوية، التي تعيد البحث عن أزمة الحاضر في الماضي، مرة أخرى.
وبالرغم من أن مرحلة الانتفاضات العربية التي شهدتها بلادنا أخيرًا، كانت فرصة ذهبية لطرح قضية التحرر الوطني، التي شغلت مهدي عامل، ومناقشتها في سياقها. وخصوصًا أن الدوافع التي تسببت في انتفاضة الشارع العربي، كانت نتيجة مباشرة لممارسات البرجوازيات العربية المسيطرة منذ عقود. إلا أن القطاع الأكبر من النخب في العالم العربي، ما زالت تصمم على مناقشة الأزمة الحالية من نفس المنظار الثقافوي، والعودة إلى ثنائيات بالية، مثل "التقدم والتأخر" و"الأصالة والحداثة". وكأن على الشارع العربي الآن، إذا أراد حلًا لمشكلاته، أن يعود إلى "تراثه" أولًا، ليبحث فيه عن مواضع الخلل!
-------------------------------------------
في ضرورة استحضار مهدي عامل
• جمال القرى- طبيبة وناشطة
• المصدر: "النهار"
• 17 أيار 2016 |
في قهقهة التاريخ المتقدّم عبر الإمكانات المتضاربة، يُحتضر عالمٌ بأكمله، ويتهيّأ للولادة آخر. تتفكّك نظم من الفكر والاقتصاد والسياسة يصعب عليها الموت بغير عنف، تتصدّى لجديد ينهضُ في حشرجة الحاضر وتقاوم في أشكالٍ تتجدّد بتجدّد ضرورة انقراضها، تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات هي فيها مع الموت على موعدٍ يتأجّل. إذن، فليدخل الفكر المناضل في صراعٍ يستحثّ الخطى في طريق الضرورة الضاحكة. فهو اليانع أبداً، وهو اليقظ الدائم، في الحركة الثورية ينغرس ويتجذّر. يستبق التجربة بعين النظرية، ولا يتخاذل حين يُفاجأ: يتوثّب على المعرفة ويعيد النظر في ترتيب عناصره ليؤمّن للنظرية قدرتها على التشامل، ورحابة أفقٍ يتّسع لكل جديد. هكذا يكتسب كل نشاط نظري طابعاً نضالياً، ويتوق كل نشاطٍ ثوري الى أن يتعقلن في النظرية، فتتأكد، بالتحام النشاطين في الملموس التاريخي، ضرورة الفكر العلمي في أن يكون ثورياً، وضرورة الحركة الثورية في أن تكون علمية".

يمكن اعتبار مهدي عامل من أهم الشخصيات الفكرية الماركسية - العلمية التي طبعت النصف الثاني من القرن العشرين الى حين اغتياله في 18 أيار 1987 مِمن روّجوا لنشر الفكر الغيبي الذي لا يستقيم من دون إزاحته ورفاقٍ له من طريق نشر دعوتهم، بعدما أودع المكتبة الفكرية العربية إرثاً فكرياً ونظرياً قيِّماً. ويشكّل هذا الإرث الفكري، مادة حيّة دوماً لنقد أوضاعنا القائمة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مجمل ما كتبه وأنجزه كان في سياقٍ تاريخي محدّد تبدّلت وجهاته الأساسية حيث إن الثورة الاشتراكية الأم، سقطت في عقر دارها، كما أن الصراع الطبقي بات يتّخذ منحى آخر عن ذلك الذي كتب عنه مهدي عامل، كما أن المرحلة المقبلة من الصراعات القائمة في هذه المرحلة، من الصعب التكهّن بأنها تسير نحو الاشتراكية. ولكن ذلك لا يُنقص من قيمة إنجازاته الفكرية التي شرّحت البنى الاجتماعية العربية كما الاقتصادية والسياسية والثقافية، كما أشكال بنيانها السياسي- الديني بنهجٍ علمي– ماركسي لم يتقادم بعد عليها الزمن، ومستفيدين مما كتبه ونقده وأثاره من قضايا وتحليلات علمية، يمكن القول بأنه لا يزال يشكّل مرجعاً مهمّاً في هذا المجال.

في كتابه "نقد الفكر اليومي"، الذي طبُع بعد اغتياله، والذي كان قد بدأه في العام 1980 في خضمّ الحرب الأهلية اللبنانية، مسجّلاً فيه ومساجلاً وناقداً كتابات مفكرين ومثقفين لبنانيين وغير لبنانيين ممن كانوا يكتبون في الصحف اليومية والدوريات، مشدّداً على ضرورة نقد هذا الفكر اليومي في حينه لكشف ملابساته وموقعه الحقيقي مما يجري من أحداث. ولم يوفّر في كتابه هذا أحداً من الكتّاب والمفكرين المحسوبين إن على القوى الوطنية، كما على الفكر القومي والبورجوازي والمنزلقين الى الفكر الطائفي.

ميّز مهدي عامل بين نمطين من التيارات الفكرية التي اتّخذت حيّزاً واسعاً من الصفحات الثقافية اليومية والدوريات: تيار الفكر اللابس وجه الفكر العدمي، وتيار الفكر الظلامي. مع تمييز بينهما، وتداخل، الى حد الانصهار من حيث موقعهما في الفئات الوسطى، وفي انزلاقهما الى مواقع القوى المسيطرة.
فتيار الفكر الأول، ومن بينهم موسى وهبي، حسن داود، الياس خوري، عباس بيضون، أدونيس وحازم صاغية، وبالاستناد الى مقالاتهم، إنّما يعلنون بحسب عامل موت السياسة باعتبارهم إياها كطرف ثابتٍ في أي معادلة كانت إن مع الثقافة، أو الشعر، أو النقد، أو الأدب، أو الحياة والحرب، مما شكّل مادةً لرفضها برفض التاريخ. فهي وجه الموت، وكيف يموت صراع تتولّد منه الحياة؟ هي نقطة الصفر التي ينطلق منها هؤلاء، ويتغلّب على فكرهم الشكل العدمي، او اللابس الشكل العدمي المؤدي الى العدم السياسي الذي يتلقفّه الفكر المسيطِر في عملية إخضاعٍ للوعي، ويُدخله في تحالفٍ غير مرئي معه. ففكر كهذا، برفضه الفكر المسيطر والفكر المقابل له، الثوري، إنمّا ينزلق الى الفكر المسيطر الذي هو نقيض الفكر الثوري، ليحلّ محل الصراع الاجتماعي في الفكر والسياسة، صراع غيبي بين النظام وعدمه، بين الفكر وعدمه. أما وجوده خارج كل المواقع المنتجة للمعرفة، رافضاً لها، فيجعله فكراً ينتج صفراً في فهم عملية الصراع، الذي به يتأمّن تجديد السيطرة.

أما أتباع الفكر الظلامي، فإن كتاباتهم ونقدهم الواقع تتحوّل الى نقدٍ للفكر الماركسي بالذات في كل المجالات السياسية والتاريخية والفلسفية. فهم يقدّمون رؤيتهم إنطلاقاً من "خصوصيتهم"، ويرون التاريخ كحركة صراعٍ بين الذات والآخر، ويختزلون حركة التحرر الوطني في حركة استرداد "الذات الضائعة". ومنطق هذا الفكر يقوم على أساس الانفصام بين الشرق والغرب، حيث إن لكل منهما ثقافته. فللشرق الثقافة التقليدية والأصالة التي هي من حظ الجماهير دون النخبة، وللغرب الحداثة دون الأصالة التي هي من حظ النخبة دون الجماهير. إن هذه الثنائية تغرّب المثقف الحامل للثقافة الغربية، وتجعله بلا هوية، وتلغي كل صراعات حركة التاريخ، وتستبدلها بحركة وهمية لصراع الذات مع الآخر، أي، صراع "الجوهر" مع" الجوهر" الآخر، به تتجوهر حركة التاريخ الذي لا يتغيّر منذ بدايات الاسلام حتى الآن.

لقد نقد مهدي عامل فهم هؤلاء للماركسية الذي لا علاقة له بالماركسية، من حيث إحلال العامل الايديولوجي- الديني، مكان العامل الاقتصادي الذي هو في الحقيقة ليس العامل الأول في البناء الاجتماعي، بل العامل المحدِّد للعوامل الأخرى التي يتحدّد بها. كما نقد فهمهم للصراع بأنه صراع ديني بينما هو صراع اجتماعي يتخّذ شكلاً دينياً له. وأكمل نقده لما سمّاه تناقض في الفكر بحسب الحدث اليومي عند بعض، وتأرجحه بتأرجحه، ولو كان نقيضاً له، وكأن مراحل التاريخ عنده هي الأحداث بذاتها، جاعلاً من منهجه منهجاً وصفياً تفسيرياً، يتموّج في استعادة لهوية أصلية يُبرز صراعاته الداخلية، ومعبّراً عن تناقض فكري يجمعه في فكر واحد. هذا النمط من الفكر، إنما يعمد الى إلغاء كل اختلاف مع الفكر الآخر، ويلغيه، ليظهر في المحصّلة أنه لا يستطيع مجابهة الفكر الماركسي.
"التيار البورجوازي المتأسلم"
ثم أكمل نقده لفريق آخر أطلق عليه اسم "التيار البورجوازي المتأسلم" الذي اعتبر ان الثورة الاسلامية الإيرانية، هي ثورة ضد التغريب والحداثة التي هي اغتراب الذات عن الذات، واستلابها به. وكان منهم رضوان السيد، وجيه كوثراني، حسن الضيقة، نظير جاهل، محمد حسين دكروب، صالح بشير، وليد نويهض، منير شفيق وسهيل القش. واعتبر أن أفكارهم تلتقي على العداء للفكر الثوري، مع تكرارٍ لها، وصولاً الى جعلها أنساقاً ثابتة متجوهرة متقابلة بين الشرق والغرب. فالرأسمالية هي الغرب في فكرهم، هي "نسق أوروبي حديث" لا يتغير بل يتجوهر عبر كل التاريخ بتغييب الاقتصادي والسياسي عنه. مما يفضي الى ان العلاقة الثنائية المتقابلة تتكرّر مع هذا الغرب، ولم تتغير منذ الحروب الصليبية وبقيت علاقة إسلام وفرنجة. أما عن العلاقة التبعية بالغرب، فيتماسك هذا الفكر الغيبي ويتّسق بتغييب الاقتصادي الذي هو ميزة الرأسمالية عنها وليختزلها بـ"الغرب" فقط، مما يؤدي الى ان هذه العلاقة هي بين جوهرين، اي، بين ثقافتين وحضارتين جوهريتين، ليصبح الصراع بتغييبه التاريخ صراعاً بين الخير والشر. يؤدي هذا النمط من الفكر الغيبي المغيِّب لحركة التاريخ، الى أن العنف هو أداة تكوّن الرأسمالية، وأن العلاقة معها ومع الامبريالية هي تكرار لما سبقها، أي علاقة تقليدية خارجية للذات بالآخر في كل العصور، علاقة منعتقة من التاريخ وشروطه، قائمة بين شرق وغرب. هذا الفكر، بتأسلمه، يصل الى توسّل "الإسلام" في صراعه الايديولوجي، مما ينقل الصراع مع الغرب وسيطرته الى صراع إسلامي- غربي، صراع جوهري لن يتحرر الشرق منه سوى بتحرير الجوهر الذي هو الاسلام. وهذا التحررّ تشوبه علاقة عنف دائم بقصد الاستيعاب يمارسه الغرب للإخضاع، بينما العنف في عرف الإسلام ضد الغرب لا ينتهي الا بإسلامه، أي بتماثله مع ذاته.
ويستكمل عامل نقده هذا وصولاً الى نقد تجارب الدول التي تعاقبت على العالم العربي منذ الخلافة الراشدة وحتى الزمن العثماني، بنقد تزمنن الإسلام وتمأسسه، حيث اعتبر أنه بتمأسسه انما انحاز الى الطبقات المسيطرة وأحكم سيطرته على المجتمعات بدولة استبدادية تظهر بشكل دولة اسلامية. وعبر التاريخ لم يجرِ تغيير لهذا النظام الاستبدادي، بل كان يجري استبدال دولة بدولة أخرى تتكرر في أشكال تاريخية متعددة بحركة دائرية، ولكنها متماثلة بطابعها كدولة استبدادية، تتثبت بثبات نمط الإنتاج الآسيوي فيها، وليس بطابعها الاسلامي المتبدل والمتنوع بحسب الفقه الذي فيه تتفقّه. وتتخذ الصراعات فيها شكل الصراعات الدينية، في حين انها صراعات اجتماعية تلبس لبوس الصراعات الديني. إن كسر هذه الدائرة لن يتم الا بمجابهة الأرضية الفكرية التي تقوم عليها هذه الدولة بفكرٍ نقيض، وليس بفكرٍ اسلام مؤسسي آخر.

أيننا اليوم من فكر مهدي عامل ومن اجتهاداته، ومن يستكمل هذه الورشة الفكرية التي أبدع فيها إنتاجاً نظرياً ربطه بممارسة عملية يومية من خلال حزبه، ومن هم القادرون على إعادة قراءة ما يحصل اليوم في عالمنا العربي على أساسٍ من الفكر المادي- العلمي، ومتى ستُكسر هذه الدائرة اللعينة وتنضج الظروف التاريخية لكسرها، كسر كل أنظمة الاستبداد بكل الأوجه التي تغلّفها؟؟ ومتى يبرز فكر نقدي لفكر مهدي عامل ولكل منظومته الفكرية، ومتى سيتجدّد يسار عربي لا يقف بصف أنظمة الاستبداد والفكر الظلامي؟؟
----------------------------------------
ماذا لو عاد مهدي عامل حياً؟
محمد علي مقلد | السبت 21/05/2016 – موقع "المدن"
رويتُ عن حسن حمدان، مهدي عامل، في مقالة سابقة، قوله لقيادة الحزب ممازحاً، ما معناه "نهجكم في النضال وفي قيادة الحزب صحيح، لكنكم لا تعرفون لماذا هو صحيح، فأنتم تجهلون الأساس النظري الذي تبنون عليه برنامجكم السياسي، وكتاباتي هي التي ستتولى تعريفكم عليه".
إذا صح أنه لا حزب ثورياً من غير نظرية ثورية، وهذا ما كانت تقوله الأدبيات الماركسية، فإن كتابات مهدي هي صياغة فلسفية نظرية لبرنامج حزبه ، وبالتالي فمن الطبيعي أن تنال كتاباته من غرم النقد الذي طال سياسة الحزب ما حظيت به من غنم النضال الصادق الذي خاضه مع الحزب من أجل قضايا التحرر والتقدم والاشتراكية.
مع أن مهدي تعرف على الماركسية من منابعها الأصلية، على ما قاله لمحاوره رفعت السعيد، ورواه هذا الأخير، بينما تعرف عليها سواه من تأويلاتها السوفياتية، غير أن نظريته الثورية كانت تعكس واقع الحال في ظل الدور المحوري الذي كان يلعبه الاتحاد السوفياتي في الصراع العالمي بين منظومتين. ومن سوء حظ نظريته أنه دفع حياته ثمن صرامة تفكيره قبل انهيار المنظومة الاشتراكية بسنوات قليلة، ولم يمنحه القتلة وقتاً كافياً ليقوم بقراءة نقدية لأفكاره.
القراءة النقدية تتناول المصطلحات، لأنها مفتاح البحث العلمي، لا المبادئ لأن معاييرها ذات طابع أخلاقي، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بالقيم السياسية والمثل التي يستلهمها المناضلون. فهو القائل، قل لي ما مصطلحاتك أقل لك من أنت. وعلى أساس هذه القاعدة كان صارماً في الحكم على بعض المنتمين إلى الحركة التقدمية واليسارية والماركسية، قائلا عنهم انهم ينطلقون من ثنائيات دينية تشبه الكلام عن الخير والشر والجنة والنار، مع أنهم ربما كانوا صادقي الانتماء إلى حركات التغيير، لكن الصدق وحده لا يكفي، بل يلزمه وضوح في الرؤيا ودقة في تحليل الواقع، وهذا مستحيل من غير مصطلحات علمية مطابقة ومنهج سليم.
المصطلحات التي تحتاج إلى إعادة نظر هي تلك المتحدرة من القراءة السوفياتية للماركسية وللصراع العالمي. وإذا كانت ورشة النقد قد بدأت قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، فهي تسارعت وتعمقت بعده، وبات المفكرون مطالبين بتعديلها تعديلاً جذرياً أو بشحنها بمضامين جديدة. نبدأ بالترسيمة الأممية التي نصبت الاتحاد السوفياتي على رأس حلف انضوت تحت لوائه أحزاب "الطبقة العاملة" في البلدان الرأسمالية و"حركات التحرر الوطني" في العالم، في مواجهة تحالف تقوده الامبريالية والرأسمالية العالمية. وفي ظني أن هذه الترسيمة ، بالمصطلحات الواردة فيها، هي أول مادة ستطالها قراءة مهدي النقدية ، لا من موقع التنكر للماضي، بل من موقع التمسك بالمبادئ والقيم الفلسفية الثورة التي تهتم بتغيير العالم ولا تكتفي بتفسيره.
مهدي رأى أن فكرة " التميز والكونية في الماركسية اللينينية" تملي عليه إدخال تعديلات أو تأويلات على الأدبيات الماركسية ، فابتكر مصطلح "نمط الانتاج الكولونيالي"، لكن هذه الإضافة لم تبدل في المعادلة السوفياتية التي اعتمدتها أحزاب الطبقة العاملة في بلدان العالم الثالث ولا حركات التحرر الوطني، لأن الحل الذي يستند إلى هذا المصطلح هو فك التبعية عن الاستعمار، أي مواجهة الرأسمالية من خارجها، وهو الحل ذاته الذي اقترحه سمير أمين تحت عنوان بناء الاقتصاد المتمحور على الذات، وكلاهما كان ينطلق من الفرضية الثورية السوفياتية المنشأ، القائلة أن العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية. فهل ما زالت الفرضية هذه صحيحة؟ وهل الصراع العالمي اليوم هو بين جبارين، وهل ينطبق على الصراع العالمي اليوم ما كان ينطبق عليه أيام وجود الاتحاد السوفياتي؟
يقول مهدي إن الطائفية هي الشكل السياسي لدولة البرجوازية الكولونيالية. ربما كانت "الطائفية" أكثر المصطلحات حاجة للنقد وإعادة النظر، لا لأنه كمفهوم إجرائي كان قليل الجدوى في قراءة الواقع اللبناني، بل لأنه أساء لعملية التغيير وشكل تغطية على مكمن الداء المتفشي في مفاصل النظام اللبناني والمتمثل باستخدام التنوع والتعدد مادة لصراعات وحروب أهلية، في حين تنجو مجتمعات أخرى أكثر تنوعا من آفة الحروب لأنها، بمجرد اعترافها بالتنوع والمتنوعين، تجعلهم متساوين تحت سقف القانون، الذي يحمي التنوع وحرية المعتقد الديني والسياسي. هذا فضلاً عن أن مصطلح "الدولة" في التراث الماركسي تعرض لكثير من التشويه، بعد أن جرى تأويل الكلام عن اضمحلال الدولة، وانتقلت المهمة المنوطة بالتاريخ إلى مهمة راهنة أمام الطبقة العاملة وأحزابها.
مصطلحات كثيرة كان سيعيد مهدي النظر فيها، لكن من موقع إصراره على البقاء مثقفاً عضوياً ملتزماً بقيم الثورة واليسار والماركسية.
----------------------------------------------
في ذكرى مهدي عامل
الكاتب: يزن حداد
• "راديكال" - العدد الخمسون
• على خط الزمن
• يزن حداد
16-05-2014
قد تكون رصاصات الرجعية التي دوى صوتها في شارع الجزائر عام 1987 في بيروت تمكّنت من إيقاف قلم مهدي عامل عن الكتابة، لكنها لم تتمكّن بالتأكيد من أن توقف مؤلفاته وفكره الثاقب من التجوّل في المكتبات الماركسية وبين صفوف المثقفين الثوريين، ليصبح مهدي عامل بالفعل، علماً من أعلام الفكر الثوري التقدمي.
وقد لا يسعنا مقالٌ واحد لنفي مهدي عامل حقّ الحديث عنه وعن إنتاجاته الفكرية الغزيرة، لكن ما يهمنا هو إضاءة المحطات الرئيسية في حياة الشهيد، وإضافاته للفكر الماركسي الذي يرى فيه مشروعاً متكاملاً للتحرر من الرأسمالية وإمبرياليتها.
مهدي عامل، لست مهزوماً ما دمت تقاوم
كان عنوان “لست مهزوماً ما دمت تقاوم” هو جملة افتتاحية كتبها مهدي عامل في مجلة الطريق عام 1982 عقب اجتياح قوات الاحتلال الصهيونية لبيروت، حيث بقي مرابطاً فيها يحثّ على النضال والصمود ومقاومة الاحتلال الذي يحاصر حدودها.
لكن دعونا نخرج من إطار التسلسل التاريخي الرتيب في سرد الأحداث قليلاً، فذلك قد يفقد الحديث عن مهدي عامل صبغته الخاصة، ولنبدأ كلماتنا من الوصف الذي وصفه اياه أحد أصدقائه المقربين بأن شبّه ” أفكاره في رأسه كالمسامير في فم اسكافي ماهر، ولا تحتاج الفكرة لأكثر من ضربة واحدة من شاكوش عقله، حتى تنغرس في قلب الحقيقة”! هو الدكتور حسن عبدالله حمدان الذي عُرف باسم مهدي عامل حينما بدأ يكتب في مجلة الطريق اللبنانية، والذي ترسخ لاحقاً لدى الجميع من خلال مؤلفاته الكثيرة. أصدر ديوانين في الشعر، نشر الأول “تقاسيم على الزمان” تحت اسم هلال بن زيتون، والآخر “فضاء النون” تحت اسم حسن حمدان.
على صعيدٍ شخصي، بدأتُ بقراءة مهدي عامل قبل عامٍ ونيف من الآن بعد أن حذرني البعض من صعوبة كتاباته التي قد لا أفهمها بسهولة، لكنّي قبلت التحدي وبدأت بالتنقل بين ثنايا نصوصه المحكمة وأفكاره المترابطة، وبالفعل، فقد عانيت من فرط التركيز محاولاً استيعاب الفيض النظري الذي وجدته في كتب مهدي عامل، فقد كان الكتاب الذي قرأته بدايةً “مدخل إلى نقض الفكر الطائفي، القضية الفلسطينية في أيديولوجية البرجوازية اللبنانية” مدخلاً حقيقياً ليس لنقض الفكر الطائفي وحسب، بل لنقض الفكر الرجعي بمجمله في سياق عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي للمفاهيم ما قبل الرأسمالية. فالبرجوازيات الكولونالية تعمل على تكريس الوعي الهوياتي (الطائفي، العشائري، الإقليمي.. إلخ) بهدف التعتيم على الصراع الأساسي الذي كان البحث في أسسه وتفكيك آلياته بؤرة أعمال مهدي عامل، وهو الصراع الطبقي.
حيث كانت الحرب الأهلية الدامية في لبنان دافعاً لهذا الكتاب الذي أنجزه عام 1980 في خضمّ المعارك، والذي كان جزءاً من التزام عامل كمفكّر ماركسي حقيقي يبحث في أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي تتخذ طابعاً طائفياً، والتي كان يرى فيها صراعاً طبقياً بالأساس، يتموّه بتموّه الفكر المسيطر الذي يحركه.
وفي سياق نقض الفكر الطائفي، يميّز مهدي عامل بين الأيديولوجية الدينية كونها أيديولوجية سائدة بعامة، والأيديولوجية الطائفية كونها أيديولوجية الممارسة السياسية للبرجوازية اللبنانية بخاصة، حيث كان ينظر إلى الصراع بين نقيضين طبقيين بوصفه صراعاً مكشوفاً ليضعه ضمن مستواه المادي وليؤكد كذلك على أن الأشكال المختلفة التي يتخذها هذا الصراع ما هي إلّا تحايل أيديولوجي من قبل الطبقة المسيطرة حال دون تشكّل الطبقة النقيض، فيقول: “… إن الأيديولوجية الدينية هي أيديولوجية الطبقة –أو الطبقات– المسيطرة في هذه العلاقات من الإنتاج (أي السابقة على الرأسمالية). لكنها أيضاً أيديولوجية الفلاحين الخاضعين لسيطرة الإقطاع، أو الأرستقراطية. لذا كان الصراع الطبقي بين الفلاحين والطبقات المسيطرة هذه، يأخذ غالباً، شكل الصراع الديني، وكان هذا الشكل عائقاً لتطوره، إن لم يكن سبباً رئيسياً من أسباب فشل الثورة الفلاحية من حيث هي ثورة فلاحية، سواء في أوروبا في القرن السادس عشر، أم في مجتمعات القرون الوسطى، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية”.
بينما يحدد عامل العلاقة الطائفية للسيطرة بكشف طابعها الحقيقي، حيث “… إن الطابع العنصري ضمني في الأيديولوجية الطائفية. فآلية تحرك هذه الأيديولوجية، من حيث هي الشكل الرجعي الذي تمارس فيه البرجوازية سيطرتها الطبقية في الحقل الأيديولوجي للصراع الطبقي، تقضي بضرورة أن يبقى ذلك الطابع العنصري فيها ضمنياً، أي بالتالي، خفياً، كي تتأمن ديمومة التجدد لنظام التوازن الطائفي، الذي هو أساسي لنظام سيطرة البرجوازية الطبقي وتجدده، …”!
وبذلك، شكّل هذا الكتاب مصدراً غنياً كان حجر الزاوية في بناء تراكم فكري فتح أمامي أبواب جديدة وآفاق أوسع لإدراك طبيعة البنى الفوقية للأنظمة العربية وكيفية عملها بصورةٍ عامة، ومنها أجريتُ مقاربة بين علاقة السيطرة “الطائفية” في لبنان وعلاقة السيطرة “العشائرية” في الأردن، لأصلَ إلى نتيجة مفادها أن “العشائر” في الأردن كما “الطوائف” في لبنان لا يمكن أن تُعرّف بوصفها كيانات سياسية مستقلة ومتناحرة إلّا بوجود دولتها التي تعطيها الامتياز لهذا الشكل من التكون.
فيما بعد، وقع بين يدي كتاب “أزمة الحضارة العربية، أم أزمة البرجوازيات العربية” الذي كان من المفترض أن يكون مقالاً بالأساس (على حد تعبير لجنة نشر تراث مهدي عامل)، لكنّ استغراق عامل في بحث موضوع ندوة الكويت التي عُقدت في نيسان عام 1973 دفعه لأن يصدر كتاباً في نفس العام، يناقش الأفكار المركزية التي تداولها الباحثون في الندوة حول أزمة الحضارة العربية.
حيث يتضح جلياً من العنوان أن الركيزة الفكرية التي حكمت منطق المشاركين في الندوة هي دراسة أزمة الحضارة العربية بما هي أزمة حضارية مجردة من العوامل الاقتصادية التي تحدد موقعنا في علاقة الهيمنة الإمبريالية، بينما كان الهمّ الأساسي الذي شغل فكر مهدي عامل هو التأكيد على أن الأزمة هي أزمة البرجوازيات العربية في تبعيتها لمراكز رأس المال، والتي كان مؤداها تخلف قوى وعلاقات الإنتاج لدى البنى العربية عن نظيرتها التي نشأت في حقبة تفكك الإقطاع وصعود الرأسمالية وتطورها.
واستمريّت لاحقاً بقراءة مهدي عامل إلى أن وقع بين يدي كتابه الأخير “نقد الفكر اليومي” الذي خاض فيه عامل معركة ملحمية على عدة جبهات في الحقل الأيديولوجي، تارةً أسماها تيار الفكر العدمي، وتارةً اُخرى تيار الفكر الظلامي، والفكر البرجوازي المتأسلم كذلك، حيث كان يتتبع هذه التيارات الفكرية من خلال كتابات منظّريها في الصحف اليومية والدوريات، ومن ثم يقوم بتفكيك بنيتها النظرية وتعرية المنطق الذي تتحرك به وينقدها من موقع الطبقة النقيض.
وقد شكّل هذا الكتاب منعطفاً مهمّاً في تركيب بنية الوعي التراكمي بما أضافه لي من مفاهيم جديدة وأدوات معرفية لم أمتلكها من قبل، فدرجة الإحكام في النص وكثافة الأفكار المطروحة كانت السمة البارزة التي واجهتها دائماً أثناء تنقلي بعمق بين صفحات الكتاب. وفي سياق النصّ، يبيّن عامل أن النقد من موقع اللا-موقع ليس نقداً في محاولة الفكر العدمي النقد من خارج فضاء الفكر، بوصفه حقلاً للصراع الأيديولوجي، وكأنه مستقلٌ عنه، فيقول: “أمّا الفكر الذي يلغي التناقض والاختلاف بين هذه المواقع (أي مواقع الفكر في حقل إنتاج المعرفة بما هي مجال للصراع الطبقي)، أو يطمح، بالوهم، إلى إلغائها، فهو ليس بفكر نقدي، وإن ادّعى النقد. وهو بالفعل يدّعيه، بل يتوهم ويوهم بأن للنقد عنده طابعاً جذرياً شاملاً، لأنه نقد، من موقع الصفر، للنقيضين معاً، أي لما يسميه “الثقافة السائدة” و “الثقافة المعارضة”.”!
أمّا الفكر الظلامي، فهو ظلامي لأنه ينزلق، من حيث البنية النظرية التي تحكمه، إلى مواقع البرجوازية المسيطرة في الجوهر. وبالرغم من التقاطع الكبير بين الفكر العدمي والظلامي إلّا أن مهدي عامل يميّز بينهما من ذلك المنطلق بالتحديد، كما أن الفكر الظلامي “يشكك، قبْلياً، في قدرة هذه النظرية (الماركسية) على مقاربة واقعنا المتميز. ويستند التشكيك هذا إلى حجج متنوعة، لكن منطقاً واحداً من الفكر يحكمها، هو القائل: الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، ولن يلتقيا، فبين الاثنين مسافة هي القائمة بين الجوهر والعارض، بين الروح والمادة. الشرق هو الذات، والغرب هو الآخر”. وهو ما دأب مهدي عامل على دحض منطق عمله الداخلي وتفنيد معقوليته عبر الأعمال التي قام ببنائها على أرضية المؤلَّف الرئيسي “مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني” الذي صدر الجزء الأول منه “في التناقض” عام 1972 والجزء الثاني “في نمط الإنتاج الكولونيالي” عام 1976.
حيث أكّد مهدي عامل على تميّز المفاهيم الماركسية عربياً، إلى جانب كونية النظرية الماركسية ككل، وعدم صحة الادعاء القائل بفشل الماركسية على أبواب لبنان وسوريا والعراق والأردن وجميع الدول العربية تباعاً، وكون الفكر الماركسي اللينيني لم ينشأ في إحدى تلك الدول، فإن ذلك لا يعني عدم قدرته على هضم الإشكاليات التي يواجهها واقعنا العربي المعاصر وطرح البدائل العملية بالتالي انطلاقاً من الواقع نفسه، وذلك بتطوير مفاهيمه بشكلٍ خلّاق استطاع عامل من خلاله أن يضيف تصوراً جديداً للفكر الاشتراكي في إطار حركة التحرر الوطني من موقع الطبقة العاملة الثورية.
لكنّا لسنا بصدد الوقوف عند جميع مؤلفات مهدي عامل في استعراضٍ لأسماء الكتب وأبرز ما جاء فيها من أفكار، بقدر ما يعنينا أن نُظهر مدى الترابط في المنطق الذي استحثّ عقل الشهيد ليس للكتابة وحدها، حيث كان عامل يتنقل بين القرى اللبنانية ليناقش أطروحاته ويحاضر بلغة سهلة الفهم على المواطنين، وبالتالي راهنية هذه الكتابات التي مثّلت بناءً نظرياً محكماً في مجملها، لتصبح أداة تحليلية في فهم واقعنا العربي الذي تميّزه تبعية الطبقة المسيطرة فيه، على كل صعيد، للرأسمالية الإمبريالية.
مهدي عامل، وتفاصيل أُخرى
من زاويةٍ أُخرى، يتحدث بعض أصدقاء مهدي عامل في مذكراتهم عن رحابة شخصيته وطبيعته المرحة، حيث كان جموده ظنّاً خاطئاً انعكس لدى من لم يعاشروه نتيجةً لصرامة فكر الشهيد وشدّة تماسك نصوصه التي تعطي انطباعاً يوحي بمزاجٍ حاد وجديةٍ مضجرة عن صاحبه. فعلى سبيل المثال، حين طلب “الشاعر الفيلسوف” حسن حمدان (بحسب تعبير أحد المقربين له) من مجموعة أصدقاء المساعدة في نشر ديوانه الأول “تقاسيم على الزمان” الذي صدر عام 1973 تحت اسم شاعر جزائري مستعار هو هلال بن زيتون، قرر أحد الأصدقاء بعد أن اكتشف اللعبة القيام بمثلها بأن طلب المساعدة منه في توزيع كتاب لصديق آخر اسمه بدر بن ليمون.
وبالرغم من أن رصانة مهدي عامل في التفكير والنقاش والكتابة، والتي كانت تعكر أحياناً صفو أحلام مراهقي اليسار حينها، ارتبطت بجزءٍ ما من شخصيته، وربما تكون أساءت لها ممن لم يعرفوه عن كثب، إلّا أنها لم تفقده بالتأكيد الروح الشغفة المحبّة للحياة، والتي كان يناضل من أجل تغيير شروطها بعد أن دمرتها المنظومة الرأسمالية.
كانت رصاصة واحدة في رأس مهدي عامل، وجدت طريقها في الثامن عشر من أيار/مايو عام 1987 في شارع الجزائر، أثناء الطريق إلى عمله في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ببيروت، كانت كفيلة بأن توقف قلمه عن الكتابة، حيث كان عامل يعتزم إنهاء الكتاب الأخير “نقد الفكر اليومي” قبيل اغتياله على يد القوى الرجعية، والتي أرعبتها كلمات مهدي عامل التي تصرخ بالحقيقة، والذي بدأ بكتابته بالفعل عام 1980، لكنه توقف عن ذلك لسببين هما حصار بيروت عام 1982 وانشغاله بكتاب “في الدولة الطائفية” على حساب الأول نظراً لتصاعد العنف واحتدام الحرب الأهلية الطائفية الأمر الذي لم يستطع عامل الهروب منه كمفكّر ماركسي ملتزم.
ترك الشهيد مهدي عامل الصفحات الأخيرة من كتابه نصف فارغة، تحت عنوان “في عدم وجود نمط معين من الإنتاج يمكن تمييزه بأنه نمط إنتاج إسلامي” دون أن يكمل ما خطّه بيديه قبل ذلك اليوم، ليضع المهمّة على عاتق أبناء جيلنا في إكمال ما بدأه الشهيد، وفي تفسير ما لم تسنح له الفرصة بإتمامه.
عاد مهدي عامل إلى منزله قبل شهرٍ من الاغتيال ليقرأ على مسامع زوجته الفرنسية إيفلين، مقطعاً من بيانٍ لأحد المجموعات الأصولية تهدد بقتله، طلبت منه الرحيل عن بيروت لكنه رفض ذلك، حيث مثّل موقفه الثابت تجسيداً حقيقياً للفكر الثوري المقاوم الذي يحمله عامل، وبالفعل، لم يكذّب البيانُ خبراً، فقد نفّذت القوى الظلامية وعدها بأن أردته شهيداً للفكر والحرية، إلى أن أُعلن اليوم التالي لاغتياله 19 أيار/مايو من كل عام، يوماً “للانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي” بإجماع الهيئات الثقافية والجامعية.
مهدي عامل كان أكثر من مجرد مفكّر ماركسي له كلمات نافذة حتى النخاع في عمق الحقيقة وصميمها العلمي، هو تجربة نضالية متكاملة، تجربة زاوجت بين القلم المحكم والكلمة القاسية، بين الصمود البطولي والمقاومة الرافضة للذل والقهر، بين الفكر المتماسك وسعة الرؤية التي مكّنته من القبض على المشهد بشموليته وتفكيك بناه النظرية.. وعلى صعيدٍ شخصي، مجدداً، مثّل مهدي عامل علماً ماركسياً لا زلت أصبو لامتلاك معرفته باستمرار، ما يعيدني دائماً إلى مقولة لينين في إحدى رسائله: “إذا كنتُ أعرف أنني أعرف القليل، بذلتُ كل ما في جهدي لأعرف المزيد”.
-------------------------------------
استعادة مهدي عامل

الخميس , مايو 25 2017- "اليسار اليوم"
كتب : محمد المعوش
في منزله الكائن في آخر شارع مار الياس في بيروت من جهة “البطريركية”، في إحدى المباني السكنية، ترك مهدي عامل (حسن حمدان)، مساحة شخصية. كانت أساسا مساحة الكتابة. في غرفة المكتب الصغيرة نسبياً، مكتبة متوسطة، طاولة وكرسي خشبيين، وقفص معدني كان مخصصا للطيور، وأوراق لا تزال على الطاولة.
ولكن على الحائط، لوحة كبيرة مشغولة يدوياً، تطل على المكتبة وراء طاولة المكتب.
وفي اللوحة رسمٌ لديكٍ متأهب للمواجهة، عيناه متقدتان، وألوانه ساطعة ومتنوعة. وحوله هالة تشعّ في محيطه ضمن اللوحة وكأنه مصباح متوهِّج.
قصة اللوحة انه في احدى الجلسات الواسعة، امرأة قابلت مهدي للمرة الأولى، وكانت رسامة. وبعد الجلسة أرادت أن تعبّر عن ما تركه مهدي من انطباع قوي لديها، فرسمت تلك اللوحة، وأهدته إياها.
الدّيك الذي مثلت به صاحبة اللوحة مهدي، يظهر في اللوحة وكأنه يصارع بحزم وقناعة، منفجراً.
ما تركه مهدي في هذه المساحة هو جانب من انطباعات لم ترحل مع استشهاده. وذكراه تكمن في استعادة واحياء انتاجه كمفكر ماركسي- لينيني. لا في إحياء حادثة الاغتيال نفسها وكأنها كانت صراعا مع مهدي الشخص، بل ضد فكره. واغتيال الفكر بعدة طرق قد يكون، فمن مهدي القول:” ولعل أخطر داء يصيب الحركة الثورية هو داء العفوية أو التلقائية في ممارساتها”.
“يا أيها الزمن الخبيث إليك عني
كرهت فيك الذل والذكرى وأيامي التي تمضي
وددت قبل الموت لو أن الذي في بطنك الملعون
يأتي”
قسم من قصيدة لمهدي عامل في أيار – 1973
-----------------------------------------------------------

فلنتذكّرْ مهدي عامل...

ناهض حتر
العدد ١٨١٧ الثلاثاء ٢٥ أيلول ٢٠١٢- جريدة "الأخبار"

أنا أتذكّره بلا انقطاع، بمعنى أنّني أفكّره في إنتاج أفكاري. مهدي عامل من عدّة شُغلي؛ لا شعار ولا صورة ولا أغنية. وبما أنّني لا أعرفه شخصياً، ولم أر «الضحك الخفيف في طلته»، لم أحزن في مساء الثامن عشر من أيار 1987، حين جاءني خبر استشهاده، بل فكّرتُ، تواً، بعبء المهمات التي تركها لنا، وفكّرتُ، خصوصاً، بلغته (كيف يمكن اغتيالها؟) باكتشافه النظرية العلمية في حركة التحرر الوطني (منجز لا يمكن قتله). فكّرتُ بالفكر وصيرورة أثره الاجتماعي السياسي. مهدي مفكر محكم الفكر وكاتب صعب جداً، لا يتفاعل معه إلا قارئ كادحٌ صبور، فكيف، إذاً، تقرر اغتياله وسط أنداده من المناضلين والمقاتلين، الأكثر فعالية في السياسة اليومية؟ للنص إشعاعاته (رولان بارت) التي تتجاوز القراءة إلى الحضور في الحركات الاجتماعية، كما يحضر النبي في الإيمان، جوهرة للثقة بالذات والشعور بالأمان المعرفي إزاء الكون الغامض والمضطرب. في هذه الحالة، سوف يساعد الاسم المنحوت من المهدوية والشيوعية (مهدي ـ عامل) في اكتمال النبوة، الملهمة والمحرّضة والنضالية. لذلك، بالذات، قُتل الدكتور حسن عبد الله حمدان، المعروف باسم مهدي عامل.
ربما أكون من أوائل قرّاء مهدي عامل في الأردن في أواخر السبعينيات. وقد انتشر كتابه «مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني» بجزءيه، بين صفوف الشيوعيين واليساريين الأردنيين، وساهم في تثمير خط ثوري يمكن تلخيصه كالآتي: بإمكان حزب شيوعي صغير في بلد صغير أن يقود تحالفاً للاستيلاء على السلطة وتحقيق الثورات المطلوبة الثلاث: الثورة الديموقراطية والثورة الوطنية والثورة الاشتراكية. وهي أقانيم التحرر الوطني الثلاثة عند مهدي عامل. وكان مثال أفغانستان الشيوعية (1978) حاضراً وملهماً. لم ينبس مهدي ببنت شفة عن الاتحاد السوفياتي، لكن الأخير كان موجوداً في صلب تلك النظرية السياسية، بوصفه حامياً ونصيراً ومساعداً كافياً ومضموناً. وبسقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، لم تعد الأحزاب الشيوعية الصغيرة في البلدان الصغيرة، تُحتَسب بوصفها قوى أساسية. وهي نفسها تبددت. وهذا، مادياً، مصير محتوم.
في الزنزانة (77 و1979) كنتُ أحار لماذا تتساهل الاستخبارات الأردنية مع معتقلي المنظمات الفلسطينية المسلحة، بينما تطارد وتبطش بالشيوعيين المطلبيين والسلميين؟ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في 1990، توقفت الاستخبارات عن مطاردة الشيوعيين واعتقالهم وجرى الاعتراف بحزبهم ـــ أحزابهم. عندها أصبح واضحاً أنّ تلك الثلّة من المناضلين السلميين كانت تشكّل خطراً محتملاً في خلال الحرب الباردة، وكان يتم تعقّبها وقمعها لأسباب جيوسياسية، لا لأسباب محلية.
في تلك الأجواء، أجواء أواخر السبعينيات، قرأنا مهدي عامل، وأصبح إنجيل القائلين منا بالكفّ عن النظر إلى أنفسنا كتيّار ديموقراطي مطلبي ملحق بفتح وحلفائها والبورجوازية الوطنية، وبلورة رؤية مضادة تهيمن على حركة شعبية يقودها الحزب الشيوعي، وتفكّر، ثورياً، من منظور الحرب الباردة التي كان الشيوعيون وحدهم، من بين الحلفاء، يتحملون وزرها السياسي والأمني والشخصي. أفكّر الآن بأنّ الشيوعيين العرب بعامة لم ينتهزوا الفرصة السوفياتية الطويلة، مع أنّهم وحدهم مَن دفع ثمنها الباهظ. وغالباً ما يجري التعلل هنا بمواقف السوفيات السلبية إزاء برنامج ثوري للشيوعية العربية. لكن تاريخ الحرب الباردة أثبت أنّه حالما كان يتكتل شيوعيّو بلد ويصممون على برنامج كذاك، كان الاتحاد السوفياتي يضطر إلى الخضوع في سياق علاقة صراعية بين الحلفاء، هي بطبيعتها وككل علاقة تحالفية صراعية. ومأثرة مهدي عامل أنّه قرر أن يخوض الصراع داخل حزبه، مع منظومة فكرية كاملة مسيطرة في الوسط الشيوعي اللبناني والعربي، وخارج الحزب مع الحلفاء الذين نزع عنهم مهدي ثوب القداسة، ونزع عن العلاقة معهم ثوب التماثل، ليؤكد شرعية القيادة الشيوعية للحركة الوطنية، فكرياً من خلال تفوّق الماركسية، وسياسياً من خلال ميكانيزمات الحرب الباردة.
في منطق فكره، كان مهدي ضد القيادة الجنبلاطية للحركة الوطنية، وكان ضد التبعية للأبوعمّارية. وأظنّه اُصيب بالحمى حين سمع في حياته جورج حاوي يقول لأبي عمار: «يا قائدي». فالخلاصة السياسية لفكر مهدي عامل أن يكون حاوي هو القائد، لكنّه، كما الزعماء الشيوعيين العرب، كان مطمئناً أبداً للموقع الثاني أو الثالث. وفي ذلك، عند مهدي، موضع الفشل وتكرار الفشل في حركة التحرر الوطني العربية.
لكن مهدي جاء في ربع الساعة الأخير، وحين جرى الاعتراف به، جرّاء استشهاده، كانت الحرب الباردة تأفل، والعالم يدخل في فترة مظلمة من هيمنة القطب الواحد سياسياً، والليبرالية فكرياً. هكذا ضاع مهدي! صارت كتبه تزيّن مكتبات اليساريين ولكنّها لا تُقرَأ، ويُذكَر في المناسبات، ولا يُفكَّر في طروحاته، ولا أجد له أثراً في منتج فكري لبناني أو عربي. مصيره كمصير فارس آخر من لبنان، المفكر الشيوعي سليم خيّاطة، الذي اقترح، في ثلاثينيات القرن العشرين، رؤية مطابقة للمطالب الأيديولوجية لحركة التحرر الوطني العربية، من حيث هي في آن حركة تحرر قومي واجتماعي وثقافي، لكنّه استُبعدَ واغتيل ونُسي (سنتذكره في مقال خاص لاحق في ثلاثاء «الأخبار»).
لم أنس مهدي عامل أبداً. بمعنى أنّني أستشيره في ما يستجدّ، أقصد أستشير منطق فكره، صراعياً. ذلك أنّ الصراع هو درسه الأول. وضعتُ جانباً بالطبع الاستنتاجات السياسية الخاصة بحزب معين هو الحزب الشيوعي وتحالفاته في فترة معينة هي فترة الحرب الباردة والحرب الأهلية. تلك أصبحت من الماضي. لكن ما يبقى، لدى مهدي عامل، كثير جداً، وأساسيّ. وسأعرض بعضه القليل مرفقاً.
لماذا أستشير مهدي عامل؟ لأنّ نظريته في التحرر الوطني محكمة علمياً، إذ لا يمكن القائلين بتجديد حركة التحرر الوطني العربية إغفالها، فهي حاضرة كمرجع وأداة. ولماذا أدعو إلى تذكّره الآن؟ لثلاث ضرورات راهنة، لم يعد ممكناً، بالنسبة إلى اليسار الوطني التحرري، تجاهلها، هي الآتية:
أولاً، ضرورة القطيعة مع الفوضى الفكرية المستشرية في صفوف القوى التحررية المفترضة، ولا سيما بين المثقفين والشباب ممن كان لهم دور بارز في إطلاق الانتفاضات العربية في 2011، لكنّهم، بسبب الفوضى والاضطراب الفكري والغرور الفردي، تحوّلوا إلى الهامش الذي ركبت متنه قوى الإسلام السياسي المعادية للثورة،
ثانياً، ضرورة القطيعة مع المرحلة الليبرالية (1991 ـ 2011) بأفكارها ورموزها ومثقفيها و«يسارييها» وأحزابها الخ. وهي المرحلة السوداء التي انتهت ادعاءاتها جميعاً إلى خندق الإرهاب الإمبريالي ـــ الرجعي الصريح كما هي الحال في سوريا اليوم، حيث ارتبط مفهوم «الثورة» بالعدمية الوطنية والعدمية الاجتماعية والعدمية الأخلاقية في جماع ليبرالي ونيوليبرالي وإسلاموي، يمثّل، بذاته، أسوأ درجات تحطيم العقل، بما يتطابق كلياً مع الاحتياجات الأيديولوجية لهيمنة الإمبريالية في عهد انحطاطها الكامل.
ثالثاً، ضرورة التأسيس الفكري، انطلاقاً من أدوات النظرية العلمية، للمرحلة الثانية التي تولد اليوم من حركة التحرر الوطني العربية في أتون الصراع الذي سيتنامى بين الشعوب العربية وبين التحالف الثلاثي الأكثر عدوانية في تاريخنا المعاصر، الإمبريالية الأميركية والرجعية الخليجية وقوى الإسلام السياسي من إخوان وسلفية وسلفية جهادية... الخ.
إن ما ينتظرنا من صراع تناحري مع هذه القوى المتحالفة ـــ موضوعياً واضطرارياً في آن ـــ هو أقسى وأصعب الصراعات التي خاضتها الحركات الوطنية العربية في تاريخها كله منذ العثمانيين حتى الآن. ذلك أنّ تلك القوى، بالإضافة إلى ما تملكه من قدرات عسكرية ومالية وإعلامية الخ، يقع في تصرّفها الآلاف من المهووسين بالقتل، وتحظى بالتأثير الفكري والعاطفي على قسم ليس يسيراً من الجماهير المفقرة والمهمّشة، ما يجعل قدرتها على تبرير الخيانة الوطنية والاستغلال الطبقي والقمع الدموي، أكبر بأضعاف مما كانت تقدر عليه الأنظمة التقليدية السابقة. وفي مواجهة تلك القوى السوداء، لم يعد باستطاعة قوى التحرر الوطني خوض المعارك من دون مرجعية فكرية نظامية جامعة، ومن دون أطر تنظيمية لا مكان فيها للفردية والليبرالية، فكراً وسلوكاً. ولا تُخاض تلك المعارك محلياً، بل في سياق عربي، حددناه بالمشرق، ليس انطلاقاً من منظور عقدي، بل استجابة لطبيعة الصراع المحتدم في ميدانه الرئيسي، الهلال الخصيب، حيث يمكن التحالفَ الإمبرياليَّ الرجعيَّ تدمير المجتمعات والمنطقة من خلال تفسيخ فسيفسائها الديني والطائفي والمذهبي والإتني والجهوي، ولكن حيث يمكننا، بالمقابل، تحقيق النصر، بالنظر إلى ما يملكه المشرق من تنوّع يستنهض الوحدة، وعروبة متجذرة، وتقاليد تنويرية وعلمانية، وقدرات مجتمعية وثقافية تقدمية ليست متاحة في أي من مناطق العالم العربي الأخرى.
بإمكاننا، في هذا المشرق، أن ننتصر. وينبغي أن ننتصر من أجلنا ومن أجل العالم العربي كله. ومن أجل تحقيق ذلك، نحن نحتاج اليوم، مرة أخرى، إلى مهدي عامل.
■ ■ ■
وفي ما يلي سنتناول أبرز الطروحات الأساسية حول حركة التحرر الوطني لدى مهدي عامل.
(1) ضد الكولونيالية
عند مهدي عامل: «ليست الكولونيالية سبباً لـ(التخلّف) لأنّها سابقة له زمانياً، بل لأنّ لها معه ارتباطاً بنيوياً يجعلها تسببه، أي تنتجه باستمرار بحركة صيرورتها بالذات» (1). كيف؟ لقد أدت ضرورة التوسع اللامحدود للرأسمالية إلى قيام الرأسمالية الغربية بفرض نمط الإنتاج الرأسمالي على العالم، جاعلةً منه، بالاستعمار، مجالاً لتحقيق ضرورتها تلك. بالاستعمار إذاً، أصبح العالم كله رأسمالياً، أي عالماً واحداً، شرط وحدته، وبالتالي وجوده، أن يضمّ، وألا يضم إلا بنيتين، إحداهما تحقق ضرورة التوسع اللامحدود، فيكون شرطها ألا يكون توسعها محدوداً، هي البنية الإمبريالية (المسيطرة)، والأخرى، تتحقق فيها الضرورة تلك، فيكون شرطها أن يكون توسعها محدوداً، هي البنية الكولونيالية (التابعة). الرأسمالية إذاً، وحدة بنيتين تشترطان بعضهما بعضاً، بحيث إنه لا يمكن أن تكون هنالك بنية رأسمالية، إلا إذا كانت إمبريالية أو كولونيالية. وقانون تفاوت التطور، هو الذي حدّد ويحدد البلدان التي تقوم فيها البنية الأولى، أي الإمبريالية؛ والبلدان التي تقوم فيها البنية الثانية، أي الكولونيالية. ولذا كان مستحيلاً على البلدان التي وضعها تفاوتُ تطور الرأسمالية، في البنية الكولونيالية، أن تغدو في البنية الإمبريالية. فالتطور لا يمكن إلا أن يكون متفاوتاً؛ وتطور الرأسمالية العام، في تفاوته، حدد للبلدان الأقل تطوراً، وضعاً لا تستطيع الخروج منه، إلا بخروجها من سياق تطور الرأسمالية نفسه، وهو وضع الرأسمالية الكولونيالية. ويعني ذلك أنّ الرأسمالية في البلدان المتخلّفة، لا يمكن أن تكون إلا رأسمالية كولونيالية، وبالتالي محدودة التوسع. ومن شأن التوسع المحدود أن يكبح تطور القوى المنتجة، وألا يهدم، بل ألا يستطيع أن يهدم، أشكال الإنتاج قبل الرأسمالية؛ بل يعيد إنتاجها باستمرار، ومعها يعيد إنتاج الأشكال الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية قبل الرأسمالية؛ وبالتالي، فمن شأنه أن يعيد إنتاج التخلف».
يظلّ هذا التحليل البنيوي صحيحاً في اتجاهه العام، لكن تبرز الحاجة هنا إلى الإحاطة بظاهرة جديدة نشأت، خلال العقدين الماضيين، أي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، وهي ظاهرة الاقتصادات البازغة في دول كالصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا (مجموعة البريكس). هذه الدول ليست إمبريالية، وليست، كالنمور الآسيوية السابقة، جزءاً من المنظومة الإمبريالية. وهي ليست اشتراكية، وليست في الوقت نفسه كولونيالية. وهي تغادر منطقة التخلف اقتصادياً وثقافياً، وتسعى ـــ خصوصاً روسيا والصين ـــ إلى تكوين قطب دولي مضاد للإمبريالية. فكيف يمكن توصيف هذه الظاهرة على الأقل في صيرورة تشكلها الحالية، قبل أن يفرض عليها مسار التطوّر اللاحق، التحوّل إلى إمبرياليات أو السير في طريق اشتراكي؟ بالنسبة إليّ، من الواضح أنّ ظاهرة الدول القومية المتحررة لا تزال ممكنة في التاريخ. لكن مع الانتباه إلى أنّنا نتحدث، بالفعل، عن دول قومية مكتملة، كان لاثنتين منها (روسيا والصين) تجربة تنموية تاريخية في إطار اشتراكية الدولة، وللثالثة (الهند) تجربة استقلالية وديموقراطية متجذرة، وللرابعة (البرازيل) تجربة عميقة مستمدة من رؤى اليسار الاجتماعي الجماهيري بنيت على تراكم تنموي استمر عقوداً، وللخامسة (جنوب أفريقيا) تجربة كفاحية فريدة للانتقال من نظام عنصري ـــ كان جزءاً حديثاً من المنظومة الرأسمالية الإمبريالية ـــ إلى نظام قومي ديموقراطي. وكل تلك خصائص لصيقة بتجارب قومية عيانية، ولا يمكن تعميمها، ولا تمسّ، بالتالي، جوهر التحليل العاملي بالنسبة إلى البلدان العربية الشديدة التخلّف والمقيّدة في إطار أنظمة كولونيالية، ما يجعل حركة التحرر الوطني العربية مرتبطة، عضوياً، بالانقلاب الاجتماعي على مستوى كل بلد على حدة، ضد الفئات الكمبرادورية، وعلى المستوى القومي ضد الأنظمة الخليجية.
لكن، هنا أيضاً، سوف نصطدم بالتطوّرات اللاحقة التي شهدناها في العراق وسوريا. كان انهيار النموذج الناصري في مصر من داخله، يسمح لمهدي عامل بمدّ نظريته في الفشل الحتمي للتحرر من الكولونيالية بالنسبة إلى النظامين القوميين في ذينك البلدين، أيضاً. لكنّنا رأينا أنّ نظام صدام حسين لم ينهر من داخله، كما حدث في مصر، وأنّه واظب، رغم انزياحاته العديدة باتجاه التفاهم مع الإمبريالية والرجعية، على نهج مضاد للكولونيالية، ما استلزم منهما، أي من الإمبريالية والرجعية، تحطيم نظامه في حرب ضروس، كذلك الحال مع النظام السوري الذي حافظ، وبصورة خاصة من خلال نهج المقاومة، على حضوره في حركة التحرر الوطني ـــ رغم انزياحاته النيوليبرالية. وقد أثبتت تجربة سنة ونصف من الحرب الإمبريالية الرجعية الشرسة ضد هذا النظام أنّ انهياره من الداخل ليس متيسراً. يقودنا ذلك إلى القول إنّ تركيبة حركة التحرر الوطني، أكثر تعقيداً مما هي عند مهدي عامل، لكن استنتاجاته الأساسية تظل صالحة لفهم الخط العام لسمات الأنظمة العربية ـــ بما فيها انزياحات نظامي صدام والأسد، وتآكلهما في المجال الاجتماعي ـــ وصالحة، خصوصاً، لفهم سيرورة تجديد نظامَي الحكم في مصر وتونس، على أيدي الإسلاميين، من دون القطيعة مع الكولونيالية، بل بتجديدها. وذلك من خلال استخدام الأيديولوجية الدينية الليبرالية الشوهاء، بديلاً لبرنامج التحرر الوطني الاجتماعي.
(2) ضد الفوضى الفكرية
حركة التحرر الوطني، عند مهدي عامل، هي الحقل التاريخي للفكر العربي المعاصر. وعليه، فإنّ هذا الفكر، شاء أو أبى، هو فكر هذه الحركة، فلا ينأى عنها حتى حينما يُغَيّبها بتجاهلها. فالتجاهل شكل من أشكال ارتباط الفكر بحقله التاريخي. كيف؟ الإجابة، عند مهدي عامل، تتحدد كالآتي: لا يتحرك الفكر في فراغ، بل في إطار واقع اجتماعي تاريخي محدد، ولكل واقع ضرورة محددة تميزه، وتحدد له منطق صيرورته (إذ الواقع، دائماً، في صيرورة). ومن ضرورة هذه الصيرورة، أنّها تحدد، بالضرورة، جميع مستويات الواقع الاجتماعي التاريخي، ومنها المستوى الفكري، بحدودها. وحدودها هي حدود حركة الانتقال مما هو كائن إلى ما هو نقيض الكائن. فالفكر إذاً، في تحركه في إطار واقعه، يتحرك، بالضرورة، في إطار صيرورة الواقع إلى نقيضه. ولما كانت صيرورة الواقع الاجتماعي التاريخي الراهن في البلدان العربية، تتحدد بكونها حركة انتقال من الكولونيالية إلى التحرر الوطني، فهذه الأخيرة إذاً، هي الحقل التاريخي للفكر العربي المعاصر.
ولكن، كيف يتجاهل الفكر حقله، ويظل مع ذلك في حدود حقله؟ ذلك، عند مهدي عامل، لأنّ «الفكر ليس واحداً، بل هو وحدة صراع تناقضي بين فكرٍ يفكر في تغيير الكائن ـــ فيكون من منطقه (أي من منطق ذلك الفكر) التأكيد على صيرورة الكائن إلى نقيضه، أي التأكيد على عقل الصيرورة الواقعية تلك، والتحدد بها، أي بضرورتها ـــ؛ وبين فكر يفكر في تأبيد الكائن، فيكون من منطقه، بالتالي، أن يتجاهل تلك الصيرورة. فيكون التجاهل إذاً، موقفاً من الصيرورة تلك» (2). وهكذا، فإذا كانت حركة التحرر الوطني هي صيرورة واقعنا المعاصر، فستكون حقلاً للفكر العربي المعاصر، سواء أكّدها أو تجاهلها. فليس التجاهل هنا سوى شكل أيديولوجي من أشكال التفكير في تلك الحركة. «فتحرك الفكر ـــ كما يقول مهدي عامل ـــ قائم بالضرورة في حقل أيديولوجي يتحدّد في بنيته، بالبنية الاجتماعية التي هو فيها. وبالتالي بحركة الصراعات الطبقية التي تحدد بنية علاقات الإنتاج الخاصة بهذه البنية الاجتماعية» (3).
فماذا عن المفكر الفرد؟ هل هو محكوم أيضاً بالحقل التاريخي للفكر؟ أليس له حرية الانفكاك من حلبة الصراع، فلا يكون في فكره مرتبطاً بطبقة اجتماعية ضد أخرى؟ يقول مهدي عامل: كلا. «ليس للفكر حرية ذاتية في التحرك والتطور، كما أنّ نشاطه في إنتاج المعرفة ليس من فعل الفرد كإرادة ذاتية مطلقة» (4). وذلك لأنّ علاقة الفكر بالواقع ليست «علاقة بين وعي فردي وواقع موضوعي. ولا يمكن إطلاقاً حصرها في هذه العلاقة النفسية. إنّها في أساسها علاقة موضوعية بين بنية فكر وبنية واقع، كما أنّ التفاعل فيها هو بين بنيتين، لا فرد وبنية» (5).
فالفرد، عند مهدي عامل، لا يفكر في موضوع فكره بصورة مباشرة؛ لأنّ هذا القول يقوم على افتراض مستحيل، هو افتراض وجود وعي فردي «صافٍ» متحرر من كلّ مؤثر خارجه، كأنّه وعي الله؛ بل فكر الفرد، عنده، محدّدٌ، بالضرورة، بما هو خارجه، لذلك فهو، أي الفرد، لا يستطيع أن يفكر بموضوعه إلا بصورة «غير مباشرة، تمر بالضرورة ببنية فكرية لها وجودها. الموضوعي يحملها المفكر الفرد وبها يفكر (...). إن الفرد وإن كان (مفكراً) لا يفكر بفكره الفردي، بل بالبنية الفكرية التي هو سناد لها» (6).
ولا يتعارض هذا الحكم، عند مهدي عامل، مع واقع وجود الفكر كأفكار فردية متناثرة. فليس ذلك الواقع سوى «شكل تاريخي محدد لوجود البنية الفكرية (7). إذ البنية الفكرية هي «التربة الواحدة التي تنبت عليها أفكار متعددة قد يبلغ الاختلاف بينها حدّ التناقض، إلا أنّ جذورها تمتد في تربة واحده هي التي تحدد لها طبيعة نشأتها ومجال تطورها. ووجود التناقض بين هذه الأفكار لا ينفي وجودها في تربة فكرية واحدة، بل قد يكون دليلاً عليه، إذ لا تناقض إلا بين أطراف تضمّها وحدة بنية» (8). وأساس ذلك «أنّ البنية الفكرية هي الإطار الذي يتحدد فيه الوعي الأيديولوجي الخاص بطبقة اجتماعية معينة، أو ما نسمّيه أيديولوجية هذه الطبقة الاجتماعية» (9).
فالفرد، إذاً، لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال أيديولوجيا طبقة اجتماعية معينة؛ ليس لأنّه، بالضرورة، ابن لهذه الطبقة المعينة أو نصيرٌ لها، بل لأنّه لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال بنية فكرية هي، بالضرورة، أيديولوجية، أي بنية فكر طبقة ما. إذ ليس للبنية الفكرية، عند مهدي عامل، ولا يمكن أن يكون لها، علاقة مباشرة بالواقع الاجتماعي التاريخي، «بل هي تكتسب طابعها الاجتماعي التاريخي من وضعها الصراعي داخل البنية الأيديولوجية الخاصة بالبنية الاجتماعية (10). الفرد إذاً، لا يستطيع أن يفكر إلا من خلال بنية فكرية لا يمكن إلا أن تكون أيديولوجية.
لذا، كان غياب حركة التحرر الوطني عن الفكر العربي المعاصر، عند مهدي عامل، هو الشكل الذي تحضر فيه تلك الحركة في ذلك الفكر، أي كان تحديداً لموقف الثاني من الأولى؛ وهو، هنا، موقف التجاهل.
(3) ضد الليبرالية والسلفية
ولا يعني تجاهل الفكر العربي المعاصر لحقله التاريخي، عند مهدي عامل، اتهاماً للمفكرين العرب، أي لا يعني أنّ هؤلاء، عنده، يتجاهلون الانشغال بواقعهم، بل يعني، عنده، أنّ هؤلاء، على العموم، يفكرون بواقعهم من خلال بنية أيديولوجيا الخصم بالذات. وتحدَّد هذه البنية، حسب مهدي عامل، بمفهوم التخلّف؛ وهو المفهوم الذي يدور عليه الفكر العربي المعاصر.
وليس مفهوم «التخلّف» أيديولوجياً، بمعنى أنّه فارغ، كلياً، من تصوير الواقع الفعلي ـــ فتخلّف القوى المنتجة في البلدان الكولونيالية، واقع قائم ـــ لكنه مفهوم أيديولوجي لأنه يجعل من سمة معينة للبلدان الكولونيالية، يتسببها، باستمرار، واقُع السيطرة الإمبريالية عليها، سمةً عامة لهذه البلدان، تتحدد به، فيغيب ما هو من «التخلّف» أساسه، أي السيطرة الإمبريالية.
المذاهب الفكرية العربية، عند مهدي عامل، تتصارع، في ما بينها، صراعاً عنيفاً، لكنه صراع يقوم على تربة واحدة، هي معادلة «التخلّف» ـــ التقدم». فلما كان الفصل بين «التخلّف» و«التقدم» لا يكون إلا بمقياس هو النموذج المثالي للتقدم ـــ إذ لا معنى للقول بـ«التخلّف»، إلا إذا كان تخلّفاً عما هو في «التقدم» النموذج. اتفقت المذاهب العربية، حسب مهدي عامل ،على ما يأتي:
أ‌ ـ إن بلادنا: متخلّفة»؛
ب‌ ـ وعليها أن «تتقدم» لتتماثل مع نموذج التقدم في هذا المجال (وهو، طبعاً، الغرب الرأسمالي). لكنّها، أي المذاهب تلك، اختلفت إزاء فكر ذلك «التقدم»، فانقسمت إلى:
ــ مذاهب تقدمية تقول بـ«تخلّف» العقل العربي. فلا بد له إذاً، من أن يتقدم ليتماثل مع «العقل» الغربي؛
ــ مذاهب سلفية ـــ قوموية ترى أنّ عقل الغرب فاسد، وأنّ التفوق في الروح، هو «لنا»، لا للغرب الرأسمالي. فلا بد لنا، إذاً، من العودة إلى «أصالتنا» إذا ما أردنا أن نتقدم.
ــ مذاهب توفيقية، تحاول التوفيق بين المذهبين.
ولا نريد أن ندخل، هنا، في مناقشة تفصيلية مع هذه المذاهب (11)، أو حولها، فالذي يهمنا، هنا، هو الإشارة فحسب، إلى طابع المناقشة الفكرية العربية، من حيث هي تجري في سياق حدده، أصلاً فكرُ الخصم ـــ الإمبريالية. لذا، توجّب عند مهدي عامل، نقض هذه المناقشة، بإنتاج النظرية العلمية في حركة التحرر الوطني.
لم يعش مهدي عامل، لكي يرى كيف انحلت المذاهب «التقدمية»، اعتباراً من التسعينيات، إلى ليبرالية صريحة تقترح النموذج النيوليبرالي كإطار للتقدم مرفقاً، خصوصاً عند اليساريين السابقين، بالتعددية السياسية والانتخابات الخ، كدواء شاف للتخلف العربي، ولم ير كيف انحلت المذاهب السلفية إلى مذهب إرهابي متوحش، ثم إنّه لم ير كيف اندمج الليبراليون والسلفيون الإرهابيون معاً، برعاية خليجية، في الخندق الكولونيالي نفسه، كما هو حادث في سوريا الآن.
(4) وضد العقل المطلق
افتراض وجود المنطق الموضوعي في التاريخ الاجتماعي، هو الأساس لإمكان إنتاج النظرية العلمية في حقل التاريخ الاجتماعي. فبوجود ذلك المنطق الموضوعي، تصبح مقاربته بالنظرية، وفقاً لمحدداتها العلمية، ممكنة. وربما كان ضرورياً أن نقف هنا لتبديد ما قد يكون التباساً بين المنطق الموضوعي في التاريخ، كما يفهمه مهدي عامل، و«العقل في التاريخ»، كما هو عند هيغل. فالعقل في التاريخ، عند مهدي عامل، ليس هيغلياً، بل هو عقل مادي، يحدد الفكر، ولا يتحدد بالفكر. فهو من الواقع الاجتماعي التاريخي معطى نعقله، فيكون عقلنا له انعكاساً للعقل في الواقع. ولو كان العقل في التاريخ، هيغلياً، أي مثالياً، لما أمكننا إنتاج المعرفة العلمية في التاريخ في نظرية علمية، شرط علميتها أن تكون نسبية، بينما شرط العقل ذاك، أن يكون مطلقاً. فالمعرفة لا تكون علمية إلا إذا كانت علماً بما هو نسبي، أي معين، وبالتالي مادي أو مشروط بالمادي. والعقل المطلق، عند هيغل، كالله، ليس مشروطاً بما هو خارج ذاته. بل هو شرط ذاته، معيّن بذاته ولذاته، مُنَزَّه عن النسبية، بينما العلم يتحدد بما هو نسبي. لذا، كانت معرفة المطلق إلهاماً؛ وكانت معرفة النسبي تنظيراً يستلزم استكشاف ما هو، في النسبي، منطق موضوعي؛ فيكون هذا المنطق نفسه، في وجوده الواقعي والنظري، نسبياً.
من هنا، قرّر مهدي عامل، علمية الفكر الخلدوني (12)، رافضاً في الوقت نفسه النظرية الخلدونية. فالفكر الخلدوني علمي، أولاً، لأنّه قطع مع التأريخ التجريبي السابق له. فبينما كان ذلك التأريخ، في تجريبيته، لا يرى من تتابع الأحداث إلا ظاهرها، فيفسر الحدث بالحدث؛ قرر ابن خلدون أنّ للتاريخ منطقاً، هو الذي يحكم، بالضرورة، حركة الأحداث التاريخية في تتابعها. وثانياً، لأنّ ابن خلدون، لم يذهب مذهب التأريخ المثالي السابق له، فيبحث في تاريخ «الخليقة» كله، بل قرر أن يستكشف منطق عصره؛ فلما اكتشف المنطق ذاك، صاغه في نظرية عامة في ضوئها ينقد الأخبار، ويفسر الأحداث، ويتنبأ بما سيأتي منها.
الفكر الخلدوني، إذاً، علميٌّ، عند مهدي عامل، في تحدده فكراً نظرياً في النسبي؛ وهذا هو شرط علمية كل فكر. ولكن، على الرغم من، بل بسبب «علمية الفكر الخلدوني»، فإنّ مهدي عامل يرفض الانطلاق من النظرية الخلدونية، لأنّها علم في تاريخ انتهى من التاريخ، لمّا وحدت الرأسماليةُ العالم. فصار منطقها ـــ الرأسمالية ـــ هو منطق التاريخ العالمي، وصارت النظرية العلمية في التاريخ، هي النظرية التي تستكشف المنطق ذاك، وتحدده في سياقها النظري. فصار دور ابن خلدون أن يقودنا إلى ماركس.
■ ■ ■
... غير أنّ مهدي نفسه يقول إنّ محدودية التوسع الكولونيالي تقود، بانتظام، إلى إعادة إنتاج الظواهر ما قبل الرأسمالية، ومنها العصبيّات. ومفهوم العصبية هو الأداة النظرية الأساسية عند ابن خلدون. وفي رأيي أنّ ابن خلدون يظل صالحاً لفهم صراع العصبيات في المشرق، طالما ظل المشرق كولونيالياً. ولا يعني ذلك تأبيد العصبيات، بل يعني الاعتراف بأنّ واقعنا الاجتماعي السياسي الثقافي، لا يزال مقيداً بالتحليل الخلدوني الذي ينبغي أن يجد له مكاناً في نظرية حركة التحرر الوطني العربية، يرنو إلى تجاوز الخلدونية، بمعنى أننا لا نستطيع اليوم أن نغفل العصبيات من تحليلنا واستراتيجيتنا إلا إذا كنا نقرر التعالي على واقعنا. لكنّنا، في الوقت نفسه، نسعى إلى تقويض العصبيات، لا بالتصادم معها، ولكن بالصدام مع الكولونيالية ـــ النيوليبرالية التي تنتجها، وبهزيمة الأخيرة، سوف تتحول الأولى إلى فولكلور.
الهوامش
(1) مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، ج 2: في نمط الإنتاج الكولونيالي، ط 2، بيروت، دار الفارابي، 1978، ص 203.
(2) مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية، ط 3، بيروت، دار الفارابي، 1981، ص 155.
(3) المصدر نفسه.
(4) مهدي عامل، مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، ج 1: في التناقض، ط 2، بيروت، دار الفارابي، 1978، ص 16
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه، ص 17.
(8) المصدر نفسه، ص 18 – 19.
(9) المصدر نفسه، ص 22.
(10) المصدر نفسه.
(11) في مقدمة كتابه: «أزمة الحضارة العربية أم أزمة البورجوازيات العربية»، يعالج مهدي عامل التيارات الأساسية في الفكر العربي المعاصر، مظهراً تماسك هذا الفكر حول محور «التخلّف ـــ التقدم». ويناقش الكتاب، بخاصة، زكي نجيب محمود، شاكر مصطفى، أدونيس، فؤاد زكريا، أنور عبد الملك.
(12) خصص مهدي عامل كتيّباً ممتازاً للبحث «في علمية الفكر الخلدوني» بالاسم نفسه. انظر: عامل، في علمية الفكر الخلدوني، بيروت، دار الفارابي، 1986.

مقال:
جريدة "الحياة" - دولي الإثنين، ٢٢ مايو/ أيار ٢٠١٧
11ملاحظة لعلماني سوري على الإسلاميين السوريين
ياسين الحاج صالح
ماذا يمكن أن يقول علماني تحرري سوري لإسلاميين حسني النية، في العام السابع من الصراع السوري؟ هنا ملاحظات أولى، ليست كل ما يقال ولا الأهم.
1- ليس العلمانيون ولا الإسلاميون مجموعتين متجانستين. في داخلهما تباينات وخصومات، وكل منهما يتغير مع الزمن، ولا تُشتق مواقف أي منسوبين إلى هذه أو تلك من العنوان العلماني أو الإسلامي. هناك علمانية تسلطية وعلمانية تحررية، هناك علمانية هي قناع للطائفية، وهناك علمانية وطنية ترفض الغش باسم العلمانية (هناك غش طائفي باسم الديموقراطية أيضاً). هناك علمانية هي دين معكوس يتطوع في معارك العقائد، وهناك علمانية نقدية تسائل العقائد المختلفة عن شرعيتها الفكرية والأخلاقية استناداً إلى المعايير نفسها: الحرية والمساواة والكرامة المتكافئة لمعتنقي العقائد المختلفة. هناك علمانية تدخلية وهناك علمانية محايدة... وبالمثل هناك إسلامية سياسية وأخرى حربية أو جهادية، وهناك سلفيون متنوعون وهناك «إخوان»، وهناك «داعش» و «القاعدة» وجيش الإسلام وأحرار الشام... ومنظر «القاعدة» أبو بكر ناجي مثلاً يعتبر «الإخوان المسلمين»... علمانيين!
2- لا لزوم لتصور للعلمانية يفصل الدين عن السياسة. لكن فصل الدين عن السيادة لا بد منه من أجل الحد الأدنى من العدالة والمساواة في مجتمعاتنا. والمقصود بالسيادة الولاية العامة والاختصاص الحصري بالعنف. فلا ولاية عامة لأية سلطة دينية، ولا يجوز أن يمارس العنف باسم الدين. ولاية السلطة الدينية جزئية وطوعية وتقتصر على من يرتضونها من المؤمنين، وهي منفصلة عن العنف ولا إكراه فيها. لا ينبغي أن يحول حائل بين حزب أو أحزاب إسلامية وبين العمل السياسي إن كانت تقبل بميثاق وطني يفصل بين الدين والسيادة.
3- في واقع الأمر، هناك قطيعة بين الإسلامية السياسية، وأكثر منها الإسلامية الحربية، وبين بنى وتنظيمات العالم المعاصر السياسية والحقوقية والمؤسسية، وكذك بينها وبين الإنسانيات والعلوم الاجتماعية المعاصرة. ولا يبدو أن الإسلاميين في سورية، مثلاً، أخذوا علماً جدياً بكونهم تعبيراً عن السنية السياسية، بل تعابير متنوعة، متنازعة في ما بينها. السنيون نسبة من سكان بلداننا، كبيرة، لكنها ليست الكل، ليست «الأمة»، وليست جماعة موحدة. وعدا أن أكثر السنيين ليسوا إسلاميين، فهناك بينهم من هم مثلنا علمانيون، ومن هم غير مؤمنين. ونحن نتاج اجتماعنا وتاريخنا ووجودنا في العالم، ولسنا نبتاً غريباً وافداً واجب الاجتثاث. هذا التصور الذي يُخرج من «الأمة» أمثالنا يؤسس لإبادة غير الإسلاميين على يد الإسلاميين. ثم إن في مجتمعاتنا من ليسوا مسلمين وليسوا سنيين، وهم مكون أصلي لمجتمعنا مثل غيرهم، ليسوا غرباء وليسوا ضيوفاً. هذا أيضاً واقع لا يبدو أن الفكر السياسي الإسلامي يستطيع أن يقول كلاماً واضحاً في شأنه. والمسألة ليست نظرية مجردة، إذ يترتب عليها في الممارسة نتائج سياسية خطيرة، تتراوح بين مكانة ثانوية للجماعات غير المسلمة المعترف بها إسلامياً («الكتابيّون») وبين احتمال إبادة غير المعرف بهم إسلامياً من علويين ودروز وإسماعيليين وغيرهم، فضلاً عن العلمانيين وغير المؤمنين.
4- من أكبر المفارقات في التفكير السياسي الإسلامي المعاصر أنه لا يقبل المساواة الحقوقية والسياسية، ولا يكافح من أجل المساواة الحقوقية والسياسية، حتى وهو يعترض على الظلم. ما يريده الإسلاميون هو أن تكون السلطة لهم، أو تكون لهم أفضلية كبيرة سياسية ورمزية وحقوقية في السلطة العامة والمجال العام. هذا غير عادل، وهو أحد الأسباب المهمة لعدم قبول كثيرين مظلومية الإسلاميين. كيف أتضامن معك وأنت، بينما لا تزال مظلوماً، لا تعدني إلا بأن أكون في «ذمّتـ» ـك في أحسن الأحوال؟ ولا يحترم الإسلاميون في عمومهم ألم غيرهم، إن في مجتمعات أخرى، أو قبلها في مجتمعاتنا ذاتها. وهم بذلك يضعون أنفسهم خارج ثقافة مشتركة وخارج مصير مشترك مع الغير.
5- الدولة الحديثة ليس لها دين، ولا ينبغي. إنها مؤسسة حكم عامة، يفترض أن توفر حقوقاً متساوية للمختلفين. ولا تمارس العنف باسم الدين، ولا تُكره الناس على دين أو على ترك دين. والمانع دون ذلك منطقي ومفهومي، وليس تفضيلاً أيديولوجياً. فبما أن كل المجتمعات المعاصرة مكوّنة من أكثر من جماعة دينية، ومن متدينين ولا متدينين، ومن مؤمنين وغير مؤمنين، وبما أن جوهر الدولة «احتكار العنف الشرعي» وضمان السلم والمساواة بين السكان، وجب ألا يكون دين البعض، مهما كثروا، دولة للجميع. تديين الدولة يمكن أن يتحقق في واقع الأمر، إلا أنه يقتضي عنفاً هائلاً، يناقض مفهوم الدولة ذاته. ونعرف أن عنفاً هائلاً لزم من أجل أن يكون الطارئ أبدياً في سورية، والجمهورية مملكة عائلية، والطائفية وحدة وطنية. تناقض هذه المشاريع: الجمهورية العائلية، الدولة الدينية وغيرها، لا ينحل بغير استعداد دائم لممارسة العنف الساحق، أي بالانحلال المستمر للدولة.
6- ظهور «داعش» إذلال كبير جداً للإسلام والمسلمين، لكن شروط هذا الإذلال متوافرة في مزيج المظلومية المنتشر جداً بين الإسلاميين والمخيلة الإمبراطورية المنتشرة جداً بدورها، حتى صار أي متبطّلٍ جاهل يريد فتح روما! ليس الإسلاميون وحدهم من تعرضوا للإقصاء السياسي، وللتمييز والاضطهاد، وإن نالوا في السجون معاملة أكثر توحشاً من غيرهم في الواقع. وليست المظلومية الشائعة بينهم احتجاجاً على الظلم والاستبعاد وطلباً للعدالة، بل هي خطاب يعطي جماعة الإسلاميين شعوراً بالعدل الذاتي، فيغلقها على نفسها ويغنيها عن الإحساس بغيرها والتضامن مع غيرها. وليس إلا عادلاً واقع أن من لا يتضامن مع غيره لن يتضامن معه غيره، ومن لا يحترم الغير لن ينال احترام الغير. أما المخيلة الإمبراطورية فلا بد من طيّ صفحتها نهائياً، لأننا لا نستطيع أن نعترض على الإمبريالية في العالم بينما لا نريد غير أن نحل نحن محل المسيطرين، فنفتح أراضي ونُخضع بلداناً ونتحكم بشعوب. هذا النزوع الإمبريالي يجرد الإسلامية المعاصرة من أي بعد تحرري، وهو السبب، جزئياً على الأقل، في قلة ما نحظى به من تضامن في مصائبنا السياسية.
7- لا تقتصر الإهانة على «داعش». «الهيئات الشرعية» هي أجهزة أمنية دينية لا تختلف في شيء عن أجهزة المخابرات الأسدية، ولا عن محاكم التفتيش في تاريخ المسيحية. ومثل هذه الأجهزة الإجرامية هي من اختطف زوجتي وأخي وأصدقائي، وأسهم في تحطيم الجذع الوطني الشعبي للثورة، إلى جانب النظام. وهي مثل أجهزة المخابرات الأسدية معابد للقوة، يسودها الخوف والكراهية واليأس.
8- هناك تخاذل فكري وأخلاقي وحقوقي كبير من طرف الإسلاميين: لا أحد يقول جهاراً إن أحكام الرق والسبي وملك اليمين... لاغية. هذا ترك ثغرة تشريعية كبيرة مفتوحة دخل منها «داعش». ولا أحد يتجاسر على الكلام على التمييز في الحقوق والمكانة ضد المرأة. ولا يجرؤ أحد من الإسلاميين على أن يقول إن هذه الأحكام تاريخية ولاغية اليوم، وأن هناك اليوم ما هو أعدل منها وأكثر إنسانية، وأن مستقبل الإسلام مرهون بأن يتخفف من أعباء أخلاقية وحقوقية كهذه، وأن تجرى إعادة هيكلته حول نواته العقدية الأساسية: التوحيد والعدل واللاإكراه وكرامة الإنسان وإعمار الأرض. الإصلاح الإسلامي هو إعادة هيكلة الإسلام حول تلك النواة.
9- من وجهة نظر تاريخية، قد تكون الثورة السورية نقطة الذروة في مسار الإسلاميين، وليس بعدها غير الانحدار. هناك جرائم كبيرة ودماء كثيرة على يد إسلاميين، وهناك نفور متزايد حيال الإسلاميين من طرف من كانوا يتفهمونهم حتى عامي الثورة الأولين، وهو نفور يطال دين الإسلام نفسه في حالات تتكاثر. الإسلاميون مدعوون إلى مواجهة هذا الواقع والتصرف بتواضع وانفتاح وتحمل للمسؤولية، وإعادة هيكلة تفكيرهم على أسس تجمع بين الإخلاص لمعتقدهم الديني بين احترام المختلفين عنهم ومعهم والقبول الواضح بالمساواة وبحرية الاعتقاد الديني، بما فيها حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد.
10- السلفيون الجهاديون من بين الإسلاميين لا يقولون إن كل ما لدينا هو حق، بل يقولون إن كل ما هو حق لدينا. هذا يصلح تعريفاً للظلامية. والإسلاميون الآخرون لا يكادون يقرون بوجود حق خارج موروثهم، إلا في مجال الإجراءات والتكنولوجيا. وهم في الحالين مخطئون كلياً. في العالم الكثير مما نتعلمه، حقوقياً وأخلاقياً وسياسياً وفكرياً وروحياً وجمالياً، والكثير مما يُحيي موروثنا ذاته ويغنيه.
11- ليس العلمانيون منبع مشكلات الإسلاميين في سورية اليوم. وليس لاختفاء سحري للعلمانيين أن يوقف كيد الإسلاميين لبعضهم وقتلهم لبعضهم. منبع مشكلات الإسلاميين وصراعاتهم هو أنه لا حل لديهم لأي من مشكلاتنا المعاصرة غير العنف، والعنف يبحث دوماً عن أعداء، ويجدهم. قبل نحو قرنين قال داهية فرنسي عبارة ينفع الإسلاميون أنفسهم إن فكروا فيها: يمكن أن نفعل كل شيء بالحراب، إلا الجلوس عليها!


* كاتب سوري. النصّ أعلاه متن ورقة كتبت من أجل «الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين في سورية» الذي نظمه مركز «جسور» في اسطنبول، يومي 17 و18 أيار (مايو) الجاري.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن:
htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715




للاطلاع على صفحة الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي على الفيسبوك على الرابط التالي:
https://www.facebook.com/pages/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي/1509678585952833
موقع الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي على الإنترنت:
www.ahewar.org/m.asp?i=9135 5