التنظيمات العمالية العربية: طليعة النضال الديموقراطي الوطني


يزن زريق
2019 / 4 / 17 - 10:06     

 
ان أهم ما يلفت عند دراسة تاريخ الحركة العمالية العربية هو على وجه التحديد اتساع وأهمية نضالاتها "اللاعمالية" و "اللانقابية"، والتي من المفترض أن تصنف عادة خارج إطار الاهتمامات التقليدية للحركة العمالية! انه النضال الوطني والديموقراطي بأوسع معانيه الذي لم تنخرط فيه الحركات والتنظيمات العمالية فحسب بل وكانت -كقاعدة عامة-رأس حربته، وطليعته ومادته الشعبية والطبقية الرئيسية. الحركات العمالية العربية ذات إرث متواضع فعليا في المجال النقابي أو النضال العمالي ... الا أنها صاحبة إرث ملكي في مجال النضال السياسي الديموقراطي والتحرري. وبل حتى نستطيع القول أن النضال الديموقراطي كان المحور الاساسي والأفق الرئيسي لجميع تحركاتها التاريخية. الواقع والتاريخ يقولان لنا أن الطبقة العاملة العربية كانت ولا تزال حاملة لواء الحريات والمناضل التاريخي الأول في سبيل الديموقراطية.  
إن الظهور المبكر للحركة العمالية اللبنانية على سبيل المثال الذي يمكن تحديده كظهور حقيقي في 1907 حيث نجح عمال شركة التبغ بالاشتراك مع عمال الطباعة وعمال سكة الحديد الذين كانوا على اتصال مع العمال النقابين الفرنسيين المتواجدين في لبنان في تلك المرحلة، نجحوا في الاحتفال لأول مرة في تاريخ الإمبراطورية العثمانية بعيد العمال في الاول من ايار في منطقة "ضبيه" وليزرعو شجرة أرز سميت بشجرة أول ايار للدلالة على أهمية الحدث ورمزيته العميقة. وما يجب ملاحظته هنا أن الحركة العمالية اللبنانية الوليدة في تلك المرحلة رغم ضعفها ورغم صغر تجمعاتها لم تكن ذات مطالب عمالية أو نقابية بحتة. حتى أنها لم تطالب بمجرد حرية تأسيس النقابات، بل امتدت مطالبها لتصل الى حدود المطالبة بالحريات السياسية العامة وحرية تشكيل الاحزاب والجمعيات والمنتديات لكافة طبقات الشعب كمطلب نضالي عمالي وآني ومباشر، ما انتهى في نهاية الأمر تحت ضغط الحركة العمالية الصاعدة الى اضطرار السلطات العثمانية لإصدار " قانون الجمعيات " عام 1909 وهو القانون الذي سمح عمليا لتأسيس حركة النهضة العربية بجمعياتها وأحزابها ومنتدياتها الادبية والسياسية بعد سنوات قليلة.
- أما في مصر فثورة 23 يونيو عام 1952 ما كانت لتصمد لولا النضالات العمالية الوطنية والديموقراطية التي شلت عمليا أي امكانية للمقاومة من قبل النظام الملكي البائد، فقد ترافق الانقلاب العسكري مع سلسلة من الاضرابات العمالية الكبرى في مصانع كفر الدوار تأييدا للنظام الجديد مطالبين بمحاربة رموز الفساد من بقايا النظام الملكي القديم واستعادة الحريات السياسية بما فيها حرية تشكيل النقابات، ثم هناك الاضرابات الشهيرة التي قامت بها اتحادات نقابات عمال النقل في 28 اذار  1954 التي أسقطت الجناح اليميني من مجلس الضباط الاحرار بقيادة محمد نجيب المدعوم من الدوائر الغربية وبقايا الطبقة الحاكمة القديمة، لصالح الجناح الثوري فيها بقيادة عبد الناصر. لنجد هنا مرة أخرى أن الحركة العمالية كانت في صلب النضال الوطني الديموقراطي المصري، وأن لها الكلمة الفاصلة في المراحل الحاسمة.
- لم تتأخر الطبقة العاملة العراقية في التعبير عن نفسها وأخذ دورها في قيادة النضال التحرري والوطني. الاضرابات العمالية في مصانع السكة الحديدية التي حدثت في عام 1918ضد عسف السلطات العسكرية البريطانية مهدت الأجواء "لثورة العشرين" ضد الانتداب والتي قادتها العشائر والتي لاقت تأييدا منقطع النظير من الطبقة العمالية في المدن تحديدا في بغداد عبر اضرابات وأعمال احتجاجية وصلت الى ذروتها عبر احراق كراجات الانتداب في بغداد في حزيران 1920 وليسجل سقوط أول شهيد في هذه الثورة عامل من منطقة الميدان في بغداد. هذه الثورة التي أجبرت الانتداب على تغيير أسلوب حكمه للبلاد والغاء الحكم والاحتلال المباشر.
ولعل أبز النماذج لدينا في لعب دور الطليعة الوطنية والديموقراطية هي تجربة الحركة العمالية العربية في فلسطين. انه ذلك التأييد العمالي الثوري لثورة 1936 إثر استشهاد الشيخ القسام في جبال منطقة "يعبد"، حيث بدأت الثورة بالتحديد عبر الاحتجاجات والاضرابات المتصاعدة لنقابات العمال في منطقة يافا، لتطور الأعمال الاحتجاجية الى أعمال عسكرية خاصة بعد مجزرة يافا في نيسان 1936 بالتزامن مع أطول اضراب بالتاريخ الذي قرره المؤتمر الوطني لاتحاد النقابات الفلسطينية بالتعاون مع اللجنة القومية العليا الذي امتد من 31 نيسان الى 13 تشرين الاول اي حوالي 178 يوم.
ان عصب النضال الوطني والتحرري العربي هو الحركات العمالية والنقابية التي رغم ضعفها وصغر تجمعاتها وتكويناتها، كانت ذات آفاق أكبر وأوسع بكثير من أغلب القيادات السياسية وحتى الشيوعية منها في العالم العربي، وليكون لها الدور الرئيسي ولتقف حاملة الراية في المقدمة تماما، ممهدة الطريق للقوى والطبقات الأخرى. انها أول من خاض نضالا ديموقراطيا عربيا وأول من وسعه على مستوى وطني و قومي شامل، لتشكل حالة نادرة في تاريخ الوعي السياسي العربي: فالحركات العمالية - النقابية نفسها كانت تجعل من المطالب العمالية والنقابية عتلة أو أداة لطرح المطالب الوطنية والقومية والديموقراطية الكبرى التي تمثل صالح المجتمع والشعب عموما، راسمة بذلك خط لطالما كان هو الاكثر ثورية بين جميع الخطوط والتوجهات القائمة، و لتقود جميع الطبقات ( مثلا حالة تأييد الحركة العمالية العربية في مصر للجناح الناصري اليساري سنة 1954 ضد جناح نجيب والاخوان المسلمين كان واحد من أسبابها الرئيسية هو جذرية أطروحات عبد الناصر في ما يتعلق في الاصلاح الزراعي وتوزيع الاراضي على الفلاحين، هذه الاطروحات التي عارضها نجيب وحاربها الاخوان بشدة ).
لقد كان الوعي الشعبي والعمالي " العفوي " أرفع وبما لا يقاس وعلى طول الخط من "وعي " القيادات العمالية والشيوعية التي كانت في انتهازيتها وفئويتها تجر الحركة العمالية العربية الى الخلف كقاعدة عامة.
لا وجود لأحداث ديموقراطية أو وطنية كبرى في التاريخ العربي المعاصر دون دور قيادي وطليعي ورائد للحركات والتنظيمات العمالية التي لطالما امتلكت منظورات ورؤى أكثر اتساعا وأكثر ثورية من جميع " النخب " التي ادعت قيادة النضال والتي طرحت برامج أضيق وأتفه بما لا يقاس من الاطروحات العفوية للتحركات العمالية الثورية، التي كانت غالبا ما تخلف في انتفاضاتها هذه " النخب" وراءها بأشواط. وهذا ما تأكد بشكل أكبر من خلال أحداث الربيع العربي. ان من نزل الى الشوارع وتلقى رصاص الانظمة وخاض معارك الحرية في تونس ومصر وسوريا ليسوا النخب اليسارية او الليبرالية. هؤلاء امتطوا الموجة فحسب. فقد أكدت البروليتاريا العربية وجودها مجددا وبقوة لا ترد. وكان على المجتمع الذي ظلمها وهمشها وأسكنها في الاطراف وفي مدن الصفيح والضواحي النائية أن يراها في قلب ساحاته ومراكز مدنه مناديه بقلب أسسه وأركانه. المراقب السطحي للحراكات العربية يستغرب من أن تلك الجماهير الشعبية والعمالية لم ترفع مطالب مادية أو اقتصادية مباشرة تتعلق بلقمة عيشها وحاجاتها الملحة، بل رفعت مطالب ديموقراطية وتحررية عامة تتعلق بالحريات السياسية للمجتمع ككل. والحقيقة أنه لا مجال للاستغراب هنا، فتاريخ التحركات العمالية والشعبية العربية يشهد على أن هذه الطبقات لطالما حملت لواء تحرر المجتمع ككل وخاضت معارك الديموقراطية نيابة عن الجميع ببطولة استثنائية ووعي لطالما تجاوز مصالحها المباشرة والضيقة. إن ارث نضالنا العمالي كله يتحرك في هذا الاتجاه ليكون اثباتا متجددا بأن الطبقة العاملة العربية على مر التاريخ هي طليعة النضال الوطني التحرري والديموقراطي العربي.