مهدي عامل؛ أو لم تعدنا بأن البحث لن ينتهي...؟

ألكسندر عمّار
2017 / 5 / 20 - 12:16     


ترجّل مهدي عامل (حسن حمدان) عن صهوة الفكر، حينما مشى أعزلاً في شارع الجزائر في مدينته بيروت التي أحبَّها، غير عابئ بتهديدات القوى "الظلامية" التي أباحت سفك دمه و"حلّلته". مضى، في مثل هذه الأيام الربيعية منذ ثلاثين عاماً خلت، متابعاً أعماله ونشاطاته اليومية كالمعتاد، متأبطاً أوراقه وملفاته، مواجهاً بصدره العاري رصاصات كواتم الصوت. هكذا رحل عنا المفكر ــ المناضل في الثامن عشر من أيار سنة1987، أما حوائط بيروت وأسوار مبانيها فما زالت، حتى يومنا هذا، تذكّر كل مارٍّ بشوارعها وأزقّتها بعبارته الشهيرة التي كتبها في مواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982: "لست مهزوماً ما دمت تقاوم".



فلماذا، إذن، اغتيل مهدي عامل؟ تراه من يكون، حتى تتم تصفيته الجسدية والسياسية؟ وفيما تكمن أهميته كي يطاله هذا الغدر الحاقد؟

صحيح أن مهدي عامل، بشخصيته الفذّة وخصاله الفريدة، كان إنساناً متعدد الجوانب؛ فهو أستاذ مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات في الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية؛ وهو المناضل النقابي في رابطة الأساتذة المتفرغين والناشط في سبيل "ديمقراطية التعليم"؛ وهو الكاتب والمفكر والشاعر والمساهم في النشاطات الفكرية ضمن أهم الأطر والجمعيات الثقافية؛ وهو، قبل هذا وذاك، كان منتمياً إلى الحزب الشيوعي اللبناني وعضواً قيادياً في لجنته المركزية. لكن ما يميِّز مهدي عامل، ويُكسبه دلالة خاصة، كونه أول من تجرأ على الخوض في "مخاطرة" تطوير النظرية الماركسية بما يتناسب مع واقعنا الاجتماعي المتمايز. فأصبح، بذلك، أول منظّر ماركسي في تاريخ الحزب.



انطلق مهدي عامل في تحليل وحدة النظام الرأسمالي العالمي مستنداً إلى إعمال منطق "الاختلاف"، بدلاً من اعتماد منطق "التماثل" الهيجلي. فاعتبر أن نمط الإنتاج الرأسمالي "الكوني" يتألف من بنيتين اجتماعيتين متمايزتين نوعياً، هما: البنية الإمبريالية، من ناحية؛ وتلك الكولونيالية التي تربطها علاقة تبعية بنيوية بالأولى، من الناحية المقابلة. فوجد أن أساس وحدة هاتين البنيتين يتمثل في علاقة السيطرة التي تحدّد آليات تطورهما المتفاوت. واستنتج مهدي عامل من ذلك، بأن "الكوني لا ينوجد في التاريخ إلاّ مميزاً". وإذ هو أراد أن يرى "بعين الماركسية ومفاهيمها النظرية إلى واقع مجتمعاتنا العربية"، فقد رفض كل "تكرار فارغ للمفاهيم" وأي اسقاطات نظرية على الواقع من خلال اجترار "قوالب فكرية جاهزة متكوِّنة".

إذن، يكمن عنصر الجدّة في طرح مهدي عامل، في نقضه منهج "تطبيق" النظرية الماركسية المتكوِّنة على واقعنا الاجتماعي. إنما أكد، في المقابل، أن "عملية إنتاج المعرفة العلمية بهذا الواقع هي عملية تمييز كونية المفاهيم الماركسية". بهذا المعنى، تصبح الممارسة النظرية البروليتارية (بل وإنتاج هذه النظرية)، بالنسبة لمهدي عامل، عملية "إعادة إنتاج النظرية الماركسية اللينينية"، أي "إنتاج معرفة هذا الشكل التاريخي المحدد الذي تتميز فيه كونية النظرية الماركسية اللينينية في بنية اجتماعية محددة". بل ذهب مهدي أبعد من ذلك، حينما أوضح "أن وضع فكرنا الماركسي المتكوِّن موضع التساؤل هو الطريق الوحيد لتكوُّن فكرنا الماركسي".



لذلك، آثر مهدي عامل أن يبدأ إنتاجه المعرفي بنقد ماركس، أو بشكل أدق، عبر نقد مفهوم ماركس حول الكولونيالية. فتحوَّل المسار النظري في فكر مهدي عنه لدى ماركس عندما اختلفت منطلقات البحث لدى كل منهما، فتعاكست اتجاهاته. ويوضح مهدي ذلك بقوله: "أن ماركس يبحث في الكولونيالية من وجهة نظر الرأسمالية. أما نحن، فلا بدّ لنا أن نعالج المشكلة من وجهة نظر مختلفة تماماً، أي من وجهة نظر الكولونيالية لا الرأسمالية".



وفي هذا السياق، كان مهدي عامل قد حدّد الهدف المزدوج لأبحاثه، حيث يتمثل أولهما في صياغة "أبجدية المادية التاريخية في حركة التحرر الوطني"، بينما يكمن الثاني في مقاربة "حركة التحرر الوطني من موقع طبقي بروليتاري". وبهذا المعنى، سعى مهدي عامل إلى تطوير المنهج المادي التاريخي من خلال تجديد مفهوم حركة التحرر الوطني.



وفي المحصّلة، توصل مهدي عامل إلى الخلاصات التالية:

1- إن الصراع الوطني ضد الاستعمار، هو في ذاته، صراع طبقي، أو الشكل التاريخي المتميِّز للصراع الطبقي في المجتمعات الكولونيالية. فلا يمكن للصراع الوطني إلاّ أن يكون، في هذه البنية، صراعاً طبقياً، كما لا يمكن للصراع الطبقي إلاّ أن يكون وطنياً؛



2- إن الثورة الاشتراكية ــ في المجتمعات الكولونيالية ــ هي ثورة على البنية الاجتماعية الكولونيالية، لذلك، كان بين الثورة التحررية والثورة الاشتراكية تماثلاً بنيوياً في منطقهما الداخلي نفسه، أي أن هاتين الثورتين هما في الحقيقة ثورة واحدة.



يتبدى لنا، أن من شروط تحقق هذه الثورة (المزدوجة) لدى مهدي عامل، ذلك "التلازم في حركة التحرر الوطني بين العداء للإمبريالية والعداء للرأسمالية". فلقد انتقد مهدي بشدة ممارسة الطبقة البرجوازية الصغيرة، ومنطق فكرها "القومي" أيضاً، بسبب من فصلها التعسفي ما بين الصراع الذي خاضته ضد الإمبريالية وبين مهمة القطع البنيوي مع الرأسمالية (أو البنية الاجتماعية الكولونيالية). والواقع أن الطبقة البرجوازية الصغيرة التي قادت حركة التحرر الوطني العربية ــ في ظروف تاريخية محددة ــ نجحت في "استبدال" الطبقة البرجوازية الكولونيالية في موقع السيطرة الطبقية. وهي، بالتالي، أعادت إنتاج طبقة برجوازية كولونيالية متجددة، لعجزها عن القطع مع البنية الاجتماعية الكولونيالية. فاقتنع مهدي عامل أن "الدور التاريخي للطبقة العاملة من حيث هي الطبقة المهيمنة النقيض، يكمن في ضرورة اعطائها التناقض الوطني حلّه الوحيد بتحويلها بنية علاقات الإنتاج الكولونيالية" في مجرى صراعها ضد الإمبريالية، وكسرها لعلاقة التبعية مع هذه الأخيرة، عبر تحقيقها الثورة الاشتراكية.



هكذا، ساهم مهدي عامل في إضفاء البُعد النظري على ممارسة الحزب السياسية، كما اجتهد للارتقاء بممارسات الحزب النضالية، لأول مرة، إلى مستوى ممارسة الصراع الطبقي على المستوى النظري بالتحديد.



واللافت في الأمر، أن مساهمة مهدي عامل النظرية ــ منذ ما ينوف عن العقود الثلاثة المنصرمة ــ أعطتنا مؤشرات هامة حول مآل حركة التحرر الوطني العربية في راهنيتها. فقد حذّر مهدي من بلوغ حركة التحرر الوطني مرحلتها "الحاسمة"، لكونها تحديداً "مرحلة الأزمة في قيادة البرجوازية الكولونيالية المتجددة لهذه الحركة". وهذا ما شهدناه بالضبط منذ أواخر عام 2010. وكان قد دعا الطبقة العاملة وحزبها الثوري، منذ أمد بعيد، كي تتوثب لقيادة التحالف الطبقي النقيض.



أما وقد تفجرت الأزمة الثورية في 2010-2011، وسط ذهول أحزاب الطبقة العاملة العربية المعنية، وتردد العديد منها تجاه المشاركة في الحركة الجماهيرية العربية أو تلكؤ بعضها الآخر عن قيادتها، فقد أضاعت كل فرص نجاح تحقيق كامل أهداف المرحلة الأولى من الثورات الديمقراطية في العالم العربي. بل، على العكس من ذلك، سادت في السنوات اللاحقة، شيئاً فشيئاً، مختلف أنواع الثورات المضادة، منها ما استطاع المحافظة على مواقع السلطة وتثبيت أسس النظام الحاكم؛ ومنها ما أطلق العنان لأبشع صنوف الرجعية (ما قبل الرأسمالية)؛ ومنها الآخر ما تمكن من إعلاء شأن العلاقات ما دون الدولتية، كمثل الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وسواها، حتى باتت عدد من الدول العربية مهددة بالتقسيم والتفتيت. كما تمثلت الثورة المضادة في استشراس التدخلات الخارجية (الإقليمية والدولية) وانتشار القواعد العسكرية الأجنبية، وفي إطلاق العنان للأطماع والسياسات الصهيونية في المنطقة.



مرّت سنوات طويلة على ما يشبه الوصية التي تركها لنا مهدي عامل، عندما كتب يقول: "فلا ننسى... أن عملية إنتاج النظرية الماركسية هي عملية مستمرة باستمرار الحركة الثورية نفسها... إنها عملية إعادة إنتاجها متجددة بتجدد الشروط التاريخية الخاصة بتحقق السيرورة الثورية". ما أحوجنا اليوم، يا مهدي عامل، إلى "الورشة الفكرية" التي لطالما دعوتنا إليها في كتاباتك وحثيتنا على القيام بها. وها أنك رحلت قبل أن يتحقق مشروعك، الذي يحمل في طياته سرّ اغتيالك. أولم تعدنا في حياتك بأن "البحث لن ينتهي"؟.