الثورة التي لم ... ولن تُنسى ... (2)


رشيد قويدر
2017 / 5 / 8 - 19:52     

فلاديمير ايليتش لينين ...
رشيد قويدر
حين يدور الحديث عن الثورة، فإن من الواجب تناول مهندسها ومفكرها وملهمها ومعلمها الأكبر، الرؤيوي فلاديمير ايليتش لينين، الذي يستحق حقاً ما ناله من كتابات عالمية، ليكون أحد الكبار على المستوى العالمي والإنساني على مرّ التاريخ والعصور.
أتناول هنا، في هذه الحلقة أحد الاتجاهات الأدبية الكبرى في الفكر الإنساني، هؤلاء الذين يستجيبون لدورهم في التاريخ، وفي خضّم الحراك الضخم والمأساوي للأفكار، دون خلط، فثمة مواضع إرتقاء وتراجع، وتيارات فكرية معاكسة للتيار الرئيسي، يؤكد ذلك هذا اليوم.. المعاصر، أن العالم يعيش أزمة حضارية، نشاهد فيها نوعاً من المجابهة الدامية والمأساوية التي لا تلين، بين النزعات الشغوفة الخالدة على المستوى الإنساني، والنظام المروع والمتوحش الذي يفرض فرضاً بقوة الحديد والنار والمقابر الجماعية، وبين الروح التواقة للحرية والعدالة الاجتماعية.
إن ميزة فلاديمير ايليتش لينين، إدراكه أن الوسيلة الوحيدة لتفادي أزمات ومافيات الرأسمالية، وماكينة مخالب آلتها العملاقة الجهنمية وتوابعها الرجعية، (حروب الميديا، والحروب بالوكالة)، التي بدأت مع الألفية الجديدة في مطالعها، حين انتهى القرن العشرين في التسعينيات منه، ليسجل قرناً جديداً في الصراع، في خضم التقدم الباهر للعلم وخلاصاته الثورية، التي تبشر بسيادة الإنسان دون الإفراط بالتفاؤل، فثمة من أبصر نذير الشؤم المخبوء في كوراث قادمة لا محالة، وإن لم يتسنى له سوى رسم معالمها، دون أن يعايشها ويدرسها عياناً..
عاش لينين ــــ وهو الاسم المستعار الذي استخدمه ليخدع الشرطة السريةـــــ في مرحلة تاريخية، شهدت دوراً كبيراً للأدب الروسي في نشر الثقافة السياسية بين أوساط الشعب الروسي، ذلك لأنه كان من الصعب جداً نشر السياسة المباشرة والصريحة في ظل استبداد النظام القيصري، وأية مقالة وإن اتخذت شكل «نزوة أو فشة خُلق»، فإن الرقابة القيصرية سترسل كاتبها إلى أحد المصحات النفسية ــــــ كما سُميت حينها ــــــ، أي إلى الحجز في مصحات نفسية، حتى «يتعافى»، أي يتبرأ من موقفه.. وهذا كان يجري على الأدب وصنوفه وعموم مكونات الإبداع الثقافي..
على سبيل المثال، طال هذا الأمر الشاعر المبدع الذي لقب بِـ «أبي الأدب الروسي الحديث»، ألا هو بجدارة الشاعر بوشكين، أعظم شعراء روسيا، فضلاً عن كونه كاتب وروائي ومسرحي، وقد أوصى القيصر أن تخضع كتاباته لرقابة مباشرة منه، نظراً لأهميته.
ولد بوشكين في موسكو في عام 1799، وترعرع في أسرة من النبلاء تعيش حياة الترف، والده شاعر بارز ساهم في تنمية موهبته الشعرية، وتوفيّ مبكراً في عام 1837، وكان القيصر نيقولا الأول، يصر على إجازة النشر، أو القص والحذف بنفسه، قبل أن ترسل إلى المطبعة، ولم يتمكن بوشكين من الإحتفاظ بأيٍ من النسخ الأساسية قبل الحذف، كما لم يُعرف مصير هذا الشعر، بسبب خوفه على نفسه من مداهمة منزله وتفتيشه، فقد كان يحرقها، ولذلك لم يعرف أحد شيئاً أبداً عن مصير الأبيات التي حُرقت من مسرحية «يوجين أونيجين» الشهيرة، وهي مسرحية شعرية نشرت ما بين عاميّ (1825و1832)، تتناول العلاقة بين الخيال والحب والموت، والحياة الحقيقية، يجمع بوشكين بها قصة حب كبيرة تعبر عن الحياة الروسية في القرن التاسع عشر، تتخذ من الهجاء والنقد الاجتماعي البارع جداً ميداناً لها، وإخراج ذلك كله شعراً، ورغم رقابته «الذاتية» فإن السياسة قد دخلت في المسرحية وبصوت مسموع، وجمعت غالبية الموضات عبر الأساليب الأدبية، بسحرها وعاطفتها، واعتبرت نقطة الانطلاق لدراسة الأدب الروسي المعاصر في الجامعات الروسية.
كذلك ما جرى مع الكاتب والروائي نيكولاي غوغول، من آباء الأدب الروسي، ولد في عام 1809 وتوفي عام 1852، من أعماله الشهيرة «النفوس الميتة» وصدرت في عام 1842، تناول بها أوضاع المجتمع الروسي، وعلى وجه الخصوص النظام الإقطاعي الملّاك، في القرن التاسع عشر، في فترة من تاريخ روسيا القيصرية، حيث كان النظام الساري على الأرض هو نظام القنانة، كشكلٍ من أشكال الرق المعدل، والأقنان (الأنفس) هي لخدمة هذه المزارع الإقطاعيات في الأراضي الزراعية، التي تزداد بها «وجاهة» بالقنانة الإقطاعية بحسب كثرة اعدادهم، القن هنا هو مملوك بعمله اليومي، وأعدادهم تعتبر رمزاً لأهمية «النبيل» المالك، ودرجة امتلاكه للهكتارات من المساحات، وأهمية اللقب ودرجته هي لدى القصر القيصري..
بطل الرواية موظف بسيط لدى الدولة، كان يعرف هذه "المعادلة الإقطاعية" لعدد (الأنفس) المملوكة، وكان يسعى في جولاته التفقدية الدورية إلى شراء هذه الأنفس (الميتة) ـــــ الذين غادروا الحياة.. من (المالكين)، بثمن بخس، مقابل أن يسجلهم أحياء، والأحياء منهم يعملون فقط مقابل طعامهم وشرابهم.
ألهبت هذه الرواية روسيا الممتدة في عموم جنباتها، وباتت تُقرأ على الأميين بصوتٍ عالٍ، مما أغضب القيصر..
وقد أدرك ذلك الناقد الأدبي الرئيسي حينها، الثوري وعالم الجمال الروسي فيساريون بيلنسكي (1811ــ 1848)، فأرسل «رسالة إلى غوغول» عبر الصحافة الأدبية، هي عبارة عن مقالة تدعوه إلى الثبات ومواصلة «الواقعية»، تحدث بها عن حكم الأقلية ودور الكنيسة الأرثوذكسية حينها، وعلاقتها بالإقطاع والنظام القيصري.
لكن غوغول وبعد رواية «المعطف» القصيرة، تراجع عن أعماله، الرواية التي رصد بها إدقاع وفقر طبقة الموظفين في الدولة إبان القيصرية.
في «المعطف» درجت مقولة النقاد لمن أتى بعد غوغول، بأنهم تخرجوا «من معطف غوغول» وقد تراجع غوغل عن أعماله ، وتأرجح كبندول الساعة، فكتب عن روايته «النفوس الميتة»، «لقد كان الكثير مما كتب في هذه الرواية خطأ، فلا تجري الأمور هكذا فعلاً على الأرض الروسية، أطلب منك عزيزي القارئ تصحيح ذلك، لا تتجاهل المسألة، اطلب منك أن تفعل ذلك»، الأمر الذي أغضب بيلنسكي بعد الجدال العلني بينهما.
في هذا التكثيف للمناخات والأجواء الفكرية والسياسية والثقافية، وقد سبقته حركة إبداع أدبي فكري ثقافي سياسي لكبار وعمالقة الأدباء الروس الذين أصبحوا على مستوى العالم من حيث الشهرة..
كان والد لينين رجلاً مثقفاً جداً، يعمل في منصب كبير مفتشي المدارس في منطقته، ويحظى باحترام كبير وواسع بين الناس، كان يجمع أبناءه ظهيرة كل يوم أحد، ليقرأ أعمال شكسبير وغوته* وبوشكين، فعائلة أوليانوف قد قرأت كل الأعمال العظيمة التي مرت على البشرية في روسيا وفي العالم.
أثناء دراسته الثانوية، رغب لينين دراسة اللغة اللاتينية والناجم عن اهتمامه بها، الأمر الذي دفع مدير مدرسته أن يعقد عليه آمالاً كبيرة بأن يصبح عالماً في اللغة اللاتينية، نجم هذا عن استمتاعه بالأدب اللاتيني القديم، ولم يفارقه الأمر، فقرأ فرجيل وأوفيد وهوراس، والملاحم الاغريقية بلغتها الأصلية، وفرجيل (70 ق.م ــــ 19ق.م) قدم (الإنياذة) وهوميروس الإلياذة والأوديسا، وعدت الإنياذه لفرجيل، أحد مصادر اللغة اللاتينية منذ القرن الأول للميلاد، كما التهم مؤلفات غوتة ( 1749-1832)، وهو حتى الآن شاعر ألمانيا المتميز، وترك أرثاً أدبياً ضخماً للمكتبة الألمانية والعالمية، كما ترك أثراً بالغاً في الحياة الشعرية والأدبية والفلسفية العالمية، ومازال مؤلفه (فاوست) الذي قرأه لينين مراراً وتكرارا ..ًيفعل فعله.
روح فاوست التي بيعت للشيطان، وهو الشخصية الرئيسية في الحكاية الشعبية الألمانية، عن الكيميائي الألماني الدكتور يوهان جورج فاوست، الذي يحقق نجاحاً كبيراً، لكنه غير راضٍ عن حياته، فيبرم عقداً مع الشيطان، يُسلم له به روحه، في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة مع كافة الملذات الدنيوية، القصة التي باتت الأم لمسرحيات وحكايات تابعة لها، ومؤلفة منها، أو مقتبسة عن الفكرة، في كل لغات وأرجاء العالم..
في الجزء الثاني لِ «فاوست»، ركز غوتة على الظواهر الاجتماعية، مثل علم النفس والتاريخ والفلسفة، وهو قائم على قصيدة نظمها قبل الجزء الأول، وأسماها: «خيال الظل الكلاسيكي الرومانتيكي»، ولم يتطرق إلى الروح التي بيعت.. وقد بيعت، ونُشر الجزء الثاني بعد وفاته في عام 1832.
إبان تخطيط لينين لثورة أكتوبر، وقبلها بسنوات، يمكن تلمس تأثير الثقافة الانسانية، وعمق الاطلاع لدى لينين، تبرز كشذرات فيما كان يردده لرفاقه، أو في مراسلاته، مع معرفته العميقة بالأدب الكلاسيكي الانساني، ومتابعة الجديد منه، «النظرية، رمادية اللون، يا صديقي، لكن شجرة الحياة خضراء إلى الأبد»، والمقولة هي مقولة ميفيستوفيليس بطل رواية (فاوست)، التي اعتبرت العمل الرئيسي لغوتة، كما كان يردد هذه المقولة أثناء تخطيطه لثورة أكتوبر عام 1917، أثناء كتابته المخطوطات التي سُميت بـِ«موضوعات نيسان»، والتي كتبها في كوخ، بإحدى غابات سان بطرسبورغ، كذلك في رده على رفاقه المقربين، الذين كانوا مكلفين للاتصال به، حيث اختفى كي لا يطاله الاعتقال وقد كان مطلوباً حينها.. في عام 1917 وهو العام الذي قطع به صلته مع قادة «الاشتراكية الديمقراطية»، في روسيا، داعياً في اطروحاته إلى قيام ثورة اشتراكية على أرض الواقع.
ومن موقع عمق اطلاعه على الأدب الروسي، أدرك لينين جيداً أن عموم أعمال الأدب الروسي الكلاسيكي ترتبط بالسياسة، فلا يوجد كاتب مهما اتخذ قراراً ذاتياً بالابتعاد عنها، فإنه سيجد صعوبة في الهروب منها، انطلاقاً من موقف شعبي عام، قائم على ازدراء حالة البلاد وما آلت إليه.
حتى أن مصطلحات بعض الروايات، تم نقلها تلخيصاً للحالة، مثال رواية «ايفان غونشاروف» والمسماة «أوبلوموف» مثالاً على ذلك، وقد فضل لينين هذا العمل، في تصويره لحياة النبلاء والملاك، وتفاهتها وطفيليتها وفراغها وكسلها واستبدادها، درجة الاحتفاء بها وتقدير نجاحها، فدخلت إلى المعجم السياسي الروسي كلمة (أوبلوموفيه)، التي تشير إلى طفيلية وتفاهة الطبقة الحاكمة ربطاً بالإقطاع والنظام القيصري، تفاهة الطبقة التي ساعدت الاستبداد على البقاء في الحياة لفترة ممتدة طويلة.
وقد شخص لينين ذلك في محاضراته وتعليقاته، بأن هذا المرض لم يقتصر على الطبقات ومؤسسات تعليمها ومناهجها.
وقد انتقل إلى فئات كبيرة وإلى الكنيسة والمؤسسة الدينية الأرثوذكسية: « جميعنا تحت قدر الرب.. وهذا ما شاءه.. إننا كلنا بين يدي الله ورحمته..»، وهكذا؛ فقد أصاب انصار البلاشفة ذاتهم من عموم شرائح الشعب بسببها، بما يتطلب شحذ سلاح التوعية الجماهيري، وتجد في سجالات لينين الكثير في رده على خصومه، بمقارنتهم بشخصيات طفيلية مقيتة وهامشية، في الحياة العامة، ينتزعها من أعمال أدبية شهيرة في الأدب الروسي.
كما أن الخلافات بين قوى التغيير امتدت من الكتّاب إلى الأحزاب والمجتمع، وطالت الوسائل المفترضة للإطاحة بالقيصرية، فقد دعم بوشكين انتفاضة ديسمبر عام 1825، الانتفاضة التي أُطلقت تسميتها على «الديسمبريين»، والتي اتخذت من «الارهاب الثوري» منهجاً لها، وتحدت القيصر نيقولا الأول، وسخر غوغول من قمع الأقنان، قبل أن يتراجع مسرعاً عن موقفه، حتى الرومانتيكيين من الكتاب الروس الذين كتبوا عن الحب والطبيعة الروسية مثال تورغنييف انتقدوا القيصرية، فضلاً عن كره لينين للتيارات العدمية، تلك التي مارست الإرهاب وتبنته منهجاً ثابتاً لا بديل له، أي المنهج الفوضوي باعتباره منهجاً يائساً..
لكن أعمال القتل التي نفذتها الأجهزة القيصرية في سان بطرسبورغ، دفعت الكاتب العالمي الكبير دوستويفسكي إلى مغازلة الإرهاب الفوضوي، ذلك تحت تأثير الأحداث الرهيبة بفعل الانتقام القيصري..
وهاجم عملاق الروائيين الروس تولستوي (1828-1910) الواقع القائم، وهو الذي أصبح أحد أعمدة الابداع العالمي، ويعتبر داعية سلام ومصلحاً اجتماعياً ومفكراً أخلاقياً، على الرغم من كونه سليل الإقطاع لعائلة تولستوي، من أشهر أعماله «الحرب والسلام» و«آنا كارنينا»، اللتان عكستا واقع الحياة الروسية في تلك الفترة، واعتبرتا قمة الأدب الواقعي.
إن أي أعمال إبداعية تتناول الاستبداد، كانت مبعث سعادة للينين، لقد أعجب لينين بتولستوي، لكنه لاحظ أن أفكاره تجمع بين الصوفية وزهدها في الحياة والمسيحية، مما افتر حماسته له، وكان لينين يتساءل: كيف يمكن لهذا الكاتب الموهوب أن يكون ثورياً ورجعياً في ذات الوقت؟
ثم قام بدراسة أعماله، وحلل التناقضات العميقة ، وعلق عليها استطاع تولستوي أن يعرض تشخيصاً واضحاً لعلل روسيا، وكانت رواياته تصف الاستغلال الاقتصادي والغضب الجماعي للفلاحين، ولكن دون أن يقدم العلاج..
فبدلاً من استخلاصه وتخيله لمستقبل ثوري سليم، سعى تولستوي إلى الحصول على العزاء في صورة طوباوية لمسيحية بدائية للغاية..
تناول لينين في مؤلفه «ليو تولستوي كمرآة للثورة الروسية» وكتب: «التناقضات في آراء تولستوي ومذاهبها ليست من قبيل الصدفة، فهي تعبر عن الظروف المتناقضة للحياة الروسية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر»، وقد استفاد لينين في تحليله السياسي من هذه التناقضات.
هنا، نتوقف قليلاً عند استشراف ورؤية لينين وحساسيته الدقيقة، فقد كُتب كثيراً عن تولستوي، من قبل المهتمين والدارسين لهذا المبدع، وكشف البعض أنه على الرغم من واقعيته وإلهامه، فقد كانت أفكاره مزيج من المسيحية الإنسانية، والتاوية الشرقية التي تأثر بها، وشكل هذا المزيج صوفية تولستوي، دون إغفال أنه سليل عائلته كبيرة وإقطاعية، كان يجتمع مع الفلاحين في الصالة الارستقراطية الرئيسية الكبيرة في نزله، والأمر مدعاة لغضب زوجته بسبب جزماتهم الملوثة بالطين ورائحتها، وكتب البعض أن زوجته تغضب كثيراً بسبب أفكاره، وأن مبادئه أملت عليه إنصاف الفلاحين، خارج منظومة الإقطاع والاستبداد، وبالتأكيد فقد نغصت عليه..
أما على صعيد الروائي المبدع دوستويفسكي (1821 -1881)، الذي يُعد من أفضل الروائيين العالميين، وأحد أشهر المبدعين الروس، فأعماله تركت بصماتها على آدب القرن العشرين، وقد أعجب به لينين، لكنه انتقده بسبب من عدميته وفوضويته، وأطلق عليه لقب «عبادة المعاناة» لا العمل على إزالتها، دون أن نغفل تأييده للفوضية «الديسمبرية»، التي حفزت بإرهابها « الإرهاب للإرهاب»، ودفعت الأجهزة التنفيذية للقيصرية في أعمال القمع والقتل والاغتيال، بدلاً من استخلاص واقع الشعب والعمل على الخروج من المعاناة، بل تعميقها، باعتبار «عبادة المعاناة» وتخليدها، هي تخليداً لـِ «اليأس»..
وقدم لينين مفهوماً جديداً وفهماً عميقاً للنفس البشرية من خلال هذا الأدب، دفعته إلى رؤية ثاقبة للحالة السياسية والاجتماعية والروحية النفسية للحالة الروسية في هذه الحقبة..
إمتدح لينين هذا الإبداع، مطالباً بتوظيفه في التحليل والتشخيص لهذه الحال، وهي تعتبر مصدر إلهام للفكر والأدب الروسي والعالمي، فبعد عام من انتصار ثورة أكتوبر، وفي 2 أغسطس1988 نشرت صحيفة ازفستيا قائمة من الأشخاص الذين اختارهم القراء لتقام لهم نُصب تذكارية، جاء في المركز الأول تولستوي، كما تحول منزله إلى متحف، وجاء في المركز الثاني دوستويفسكي، وأزيح الستار عن النصب التذكاري في موسكو في نوفمبر من ذلك العام، من قبل مجلس سوفييت موسكو، وألقى الشاعر فياتشيسلاف إيفانوف قصيدة تكريم لذكرى دوستويفسكي، وهو من شعراء المدرسة الرمزية.
إن الرواية التي شغف بها لينين، فقد كانت من إنسان ثوري روسي عادي، هو نيكولاي تشيرنيفيشسكي، وهو ابن لكاهن، وكان فيلسوفاً مادياً واشتراكياً، وقد ألف نيكولاي «حكايته» ابان اعتقاله في سجن قلعة بيتر وبول في سان بطرسبورغ، حيث سجن بسبب معتقداته السياسية، وحملت الرواية عنوان: «ما العمل؟»، التي تحولت إلى «انجيل» لجيل جديد من الثوريين الروس، ثم جاءت عملية تهريبه من هذا السجن المنيع، لتضفي هالة كبيرة من البطولة على شخصه، وتحول إلى شخصية جماهيرية وشعبية، وكان تشيرنيفيشسكي يطلع على أفكار ماركس، ويتبادل معه الرسائل، واحتفى لينين بشخصه، وتكريماً له أطلق لينين على مؤلفه السياسي الأول عنوان: « ما العمل؟»، الذي كتبه في عام1903، وهو معبر عن نظرته للأدب والإبداع والفكر، ومنظوره الخاص لمهمة الأدب في تلك الحقبة بعدم الاستسلام الاجتماعي للأوضاع الحياتية المتردية، وبابتكار أوجه المواجهة في الزمن العصيب، فلا جديد يمكن اكتشافه بانسحاق الفقراء، القطاع الاجتماعي المتسع، وبدلاً منه هو اكتشاف مكامن الوعي الطبقي وتعميقها، كما بدلاً من سلخ الشواهد عن سياقاتها الذاتية، فإن المطلوب الكشف، والعمل على تمركز وتنامي الإحساس الطبقي المتواشج والمتكافل في أجواء متنامية، وتحويلها إلى دينامية شعبية جماهيرية.
كما ينطلق لينين من فهمه لتاريخ الأدب ووظيفته في المراحل التاريخية، وكيفية نشوء الأفكار الواعية للواقع، وإنتاج الطبقية فكراً وأدباً.
أثار تكريم لينين لتشيرنيفيشسكي غضب وسخرية الروائيين الكبار، وشنت حملة شعواء من قبل نقاد معروفين أَنذاك، وحين التقاه تورغنييف في أحد الأمكنة العامة، صاح في وجهه بصلف وعجرفة، لأنه شخص عادي لا دراية له بأساليب الإبداع، بالقول: «أنت ثعبان ودوبروليوبوف (ناقد) أفعى»، ولاحقاً قام تولستوي وتورغنييف بوصفه: «مثل عثه نتنه، ملتصقة برجل نظيف»، والتشبية بين العثة والرجل النظيف معروفة من حيث الترميز، أما الدوافع فهي الغيرة الشديدة، من الرجل الذي يريد أن تحدث ثورة تنتزع الآراضي من النبلاء الملاكين، يجري توزيعها على الفلاحين..
بين عاميّ 2005و1917 الأعوام الثورية، كان لينين في المنفى، وحين كان يزوره الشباب من البلاشفة، يغضب حين يخبره أحدهم بأن «حكاية تشيرنيفيشسكي لا تستحق القراءة»، وكان يرد عليهم، بأنهم أصغر من يقدّروا عمق رؤيته، لأن فلسفة تشيرنيفيشسكي مبنية على حقيقة بسيطة هي: أن الحياة قصيرة، ويتحتم تحقيق السعادة لكل فرد، وهذا غير ممكن في عالم يهيمن عليه الجشع والكراهية والحرب والأنانية والصراع الطبقي..
في هذه الفترة بلغ عمر لينين الأربعين عاماً.
بعد أن وقعت الثورة بالفعل على أرض الواقع، جرت دراسات عميقة لمراحل تطور الفكر لدى لينين، يتبين من خلاصاتها تأثره بالأدب الكلاسيكي المتجذر بعمق في ذاته، بمثابة حصن يحميه من الموديلات الجديدة في الفن والأدب وموديلاتها (موضاتها) وصرعاتها..
لكن المتابع يستطيع أن يدرك أن الطابع المعياري للإبداع لدى لينين، هو في مجتمع يواجه صعوبة في هضم مفاهيم الحداثة، قبل الثورة، ينبغي أن تبدأ من عالم المحسوس نحو العالم الذهني، ويرتبط بالتفسير العقلاني في إعلاء قيمة الإنسان في مجمل التاريخ الإنساني، وهذا ليس له قانون، ومعيار (فيزيائي) أو في سياق الوسائل القادرة عن التعبير عنه، كي لا يكونوا مغردين خارج السرب..
وانطلاقا من نظرته إلى نسبية التاريخ، فإن كل حقبة زمنية تحوز على قيمة مهيمنة من نوع ما، تلقي بظلالها على كل القيّم الأخرى، على سبيل المثال، فإن الجماعات البشرية المسكونة بفكرة «الخلود الأبدي»، ترى أن عظمة رمسيس الثاني الواردة في المخطوطات الهيروغليفية، تنطوي على (الحقيقة) المتمثلة في الخلود، هي أكبر من أي نصب أقيم له، هكذا يرينا التاريخ الجمال و(الحقيقة) الممثلة في الخلود، انهما قيمتان يعتريهما التغيير باستمرار، بين حقبة وأخرى، وذلك بسبب اختلاف المعايير المرجعية التي تقوم عليها كل ثقافة، وحساسيات الإبداع والفن الذي يدفع باتجاه الرؤية الصريحة في حقبة ما.. أو ثقافية ما..
اليوم هل يمكن لفنان ما بعد الحداثة أن يقدم وبجهد يدوي، ما قدمه النحات المصري الفرعوني القديم.. وعلى ذات المنوال أن تطلب من بيتهوفن التوقف لتفسير كل حركة موسيقية.. لتفسيرها في سمفونياته على أساس عقلاني؟!
بعد ثورة أكتوبر فإن المقاربة الاشتقاقية من جانب العلم ووظيفة التربية والتعليم، ينبغي أن ترتقي إلى مدّيات عالية، إن منهج لينين في التعليم والمعرفة يبدأ من التدريب والتشجيع على التفكير والبحث الذاتي، وليس عملية تلقين ببغائي، اطلاقاً من الراهن ثم الى التاريخ والماضي، والدفع إلى الكشف الخاص عن النشاط الذهني والتفكير الذاتي، وإن وقعوا بأخطاء فهم يصوبونها بأنفسهم على نحوٍ جماعي، بدلاً من حشو أدمغتهم بالتلقين الذي يتحول إلى معضلة أمام التفكير والتفكر..
جرى هذا في سياق المعايير لإدخال الحداثة إلى روسيا وقد كانت مهمة شاقة، رأى لينين أن المطلوب هو خلق روح الإبتكار، ديناميكية العلم والثقافة، والتبادل المعرفي التلقائي والمباشر، بدلاً من «اليقينيات» الراسخة، والإجابات الجاهزة والمريحة، الذي يُنتج أدمغة محنطة، وببغاوات تثاقفية، وعدم الكف عن طرح الأسئلة..
هنا انتقل لينين إلى «الواقعية الاشتراكية» في الأدب والإبداع بعد انتصار الثورة، وأدرك العديد من رفاق لينين البلاشفة، بأن الثورة فتحت لهم آفاقاً جديدة، منهم أناتولي لوناتشارسكي، رئيس المفوضية الشعبية للتعليم، حيث كانت تعمل ناديجدا كروبسكايا زوجة لينين أيضاً، وبفترة الحرب الأهلية افتقدت المطابع للأوراق، وكانت المفوضية الشعبية للتعليم تنشر قصائد ماياكوفسكي على حساب أنه أولوية، بدلاً من بيانات الحزب، والسبب أنها تحشد أكثر على المستوى الشعبي من البيان الخاص للحزب...
وبدأت عملية التربية والتعليم، بدءاً من الحق في التفكير والاكتشاف والاختراع المبدعين، والحق في تشكيل الرأي والآراء الخاصة من خلال الابتكار والاختصاص وكشف الإمكانيات والرغبات، والكشف العلمي، وإن وقعت أخطاء تصحح تلقائياً من خلال التجربة التعليمية العملية وتراكمها، والعودة إلى مسارات جديدة، وتجريب طرائق غير مطروقة، هو ما ينتج نظاماً تعليمياً، وأجيالاً من صنوف العلماء تُفكر وتعلل وتبتكر، وتحصد ثمار الإيجابيات المجتمعة كلها.
في هذه الإطلالة الموجزة، على قطب عظيم الإضاءة في الفكر والسياسة، وفي تاريخ الحركة العمالية كما في تاريخ الفلاحين في روسيا (العمال والفلاحين)، والتي أضيفت إلى الدراسات الماركسية، يتوضح تفاصيل مفاهيم الدولة في المدينة والريف، العمال وفقراء المدينة وعذابات العيش، والفلاحين الأقنان، والعوز، والاستغلال المدمر، والأوبئة والبؤس المهلك، التي أمامها الغنى المفرط، والقيصر السلطان وحواشيه من النبلاء، وكيف يتكامل الفكر والسياسة والأدب والإبداع، في حقل متكامل، هو الفكر والأدب والواقع الاجتماعي، إحدى المميزات الجوهرية للينين، وكيف يتصاعد الأدب في كشوفات الوعي الطبقي في حقب الاحترامات الكبرى والمنعطفات الحادة..
عزاؤنا أن هذا المجتمع الموصوف بكل ما ورد، وبكل ما مرّ من حروب (أهلية بين الأخوة)، وتدخل خارجي للضواري المتوحشة وامبريالياتها، والحرب العالمية الثانية، فقد صعد بزمن قياسي قصير إلى الثنائية القطبية، الإضاءة الكاشفة المدهشة، والأجيال التي مرت بهذا التراث الاجتماعي بكل ما لها وما عليها، صنعت تنامي الدينامية اللازمة للنهوض، ميزة الأجيال الروسية، والذهنية الوقادة في العقل الاجتماعي الروسي، في دراساتها المتكاملة والتفصيلية للاتجاه المطلوب، لفهم المراحل التاريخية، كما لفهم تاريخ الأدب ودوره، ولفهم تطور الأفكار والفلسفة في التاريخ الروسي، وبناء الذهنية الجماعية مع أجيالها المتعاقبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هامش:ــــ «غوته الإصلاحي.. وبيتهوفن الثوري»:
حول بيتهوفن (لودفيج فان بيتهوفن 1770 ــــــ 1827) الموسيقي الألماني الكبير والعبقري الذي أثرى الموسيقا الكلاسيكية بأعماله، انطلاقا من عالم الصمت والصمم، تشير بعض ما نشر عنه، أنه ارتبط بصداقة مع الشاعر الألماني الكبير غوته.
ويروى بأنه في أحد الأيام، كانا يسيران معاً بطريق فرعي بالأرياف، ثم على ذات الطريق حاولت أن تقطع مجموعة من العربات الملكية التي تجرها الخيول الطريق الفرعي الضيق، نظر بيتهوفن خلفه فعرف أنها عربات ملكية، فطالب غوته بأن يسير معه حتى نهاية الطريق، أي لم يشأ التنحي جانباً لتمرَّ العربات، وقام بشد قبعته حتى أطراف عينيه، لكن غوته تنحى جانباً، وبقي بيتهوفن لوحده يسير في منتصف الطريق الضيق.
فتحت امرأة النافذة، وهي الدوقة، ونظرت إلى انحناءة غوته ورفعه القبعة عن رأسه بالتحية، وسألته:ـــــ أليس هذا بيتهوفن؟ فأجابها.. وابتسمت..
وبقيت عرباتها تسير خلفه وقد عقد يديه خلف ظهره، والقبعة مغموسة فوق رأسه حتى عينيه، إلى أن انتهى الطريق إلى منعطف واسع..، وعندما لحق به غوته، كان بيتهوفن غاضباً جداً من سلوكه..
أما التعليقات في ذلك الزمن، فكانت «غوته الإصلاحي.. وبيتهوفن الثوري»..