وداعاً حسين علي كزار أبو حازم...


أحمد الناصري
2017 / 5 / 8 - 04:42     

(سيرمي قدميه المقطعة وعكازيه بوجه الرب، يعاتبه، لماذا فعلت بي كل هذا؟
سيعتذر الرب ويعانقه وهو يردد ثمة خطأ ما ثمة خطأ ما...)
....

كيف تنظر لسيرة إنسان تعرفه منذ عقود طويلة؟ وماذا تكتب عن سيرة حافلة، مليئة بالألم والمخاطر والصعوبات الخارقة، التي لا تخطر على بال ولا تتجمع في سيرة واحدة وحياة واحدة لشخص واحد؟
كان شاباً واعداً وذكياً، أصبح كادراً متقدماً في الحزب، قاد تنظيم العمالية، وهو من أكبر التنظيمات بعد الطلاب. درّس الاقتصاد في المدرسة (الصف الحزبي) في مقر الناصرية، وكان ذلك يتطلب الحد الضروري والأساس في فهم علم الاقتصاد وقوانينه، وإمكانية الجدل والاجابة والرد على كل سؤال يأتي من الحضور. وكان أساساً لتطوير قابلياته النظرية عبر القراءة والدراسة والتخصص.
في مدينة الناصرية اليسارية (عددياً ونوعياً) والاستثنائية بكل شيء، مثل بعض المدن وخصوصياتها، حيث كان تنظيم الطلاب الشيوعي أكبر من عدد طلاب السلطة، وكانت الخلايا والحلقات الحزبية في كل بيت وشارع وقرية (كانت هناك شوارع ومدارس وصفوف مغلقة لنا)، وصولاً إلى أعماق وأطراف الريف البعيدة والمجهولة. في تلك اللحظة المبكرة، أدركت السلطة بحسها البوليسي الفاشي وهي تدرس وتتابع تجارب اليسار وأساليبه المحلية والعالمية، لابد من مواجهة وقمع وسحق وإسقاط تلك التجربة. وبدأت تجرب خطط وأساليب همجية مبتكرة تدريجية، يقود ويشرف على كل شيء الأمن العام والوحشي بإشراف صدام حسين شخصياً وعتاة المجرمين من أبناء القاع والشوارع الخلفية... بدأت فرق دوريات فاشية مشتركة (طلاب سفلة وعمال خونة وجلاوزة الأمن) تجوب الشوارع الرئيسية وسوق المدينة والمقاهي وشارع النهر وسينما البهو وطريق المتنزه وحي الاسكان وشارع عشرين (بعضهم يدعي الآن أنه من ضحايا الفاشية، أو صار طائفياً يقف ضد الوطن من مواقع جديدة)...
في أحد الأيام، من عام 76 المبكر من القرن الماضي، طوقت الرفيق (أبو حازم) واحدة من هذه الدوريات الفاشية القذرة، وحالوا الاعتداء عليه وضربه. أتصل بالمقر وطلب مساعدة وتدخل من الرفاق لمعالجة الموقف والتصدي لهذه العصابة، هرع له اثنان من الرفاق (محسن خزعل وطه سلمان) وقد ردوا بقساوة على المجموعة وضربوهم ضرباً مبرحاً وأنقذوا أبو حازم وعادوا به إلى المقر. اعتقلتهم دائرة أمن الناصرية الرهيبة. وكان خيار الأمن واحداً التنازل والتسقيط ومنع تكرار ظاهرة الرد على دورياتهم. تعرضت المجموعة لتعذيب وحشي رهيب، لكن الرفاق صمدوا وتجاوزوا المحنة وفشلت خطة الأمن العام. لكن ذلك كان مؤشراً على طبيعة النظام ونواياه الأكيدة القادمة.
ظل أبو حازم مستهدفاً لأنه كادر متقدم (عضو محلية الناصرية)، يتعرض للضغط والاستفزاز والتهديد والتفكير بتصفيته (جرى اختطاف الرفيق الشهيد أبو كريم وأخذه إلى أطراف المدينة، في منطقة نائية، ودفنه حياً وإطلاق النار الوهمي عليه ومساومته للتعاون مع أجهزتهم). وسيعيش أبو حازم تحت التهديد اليومي الاختطاف أو الاعتقال والاعتداء أو تدبير حادث مفتعل لقتله.
بعد الحملة الفاشية التي اشتدت عام 79 بإشراف صدام والأمن العام، اضطر أبو حازم للاحتفاء والهرب وترك الوطن نحو رحلة شاقة ومخاطر جديدة. ترك عائلته وأطفاله وبيته وقريته ومدينته وعمله وكل ما يملك في الوطن. وهذه قضية شاقة لا يمكن تصورها او تحملها. مر باليمن الديمقراطي (القديم) ولبنان سوريا، ثم تسلل إلى كردستان في شتاء قاتل. حيث حاصره الثلج وأصيب بالغرغرينا، اضطر الدكتور الشهيد أبو ظفر لقطع قدمه بالمنشار وبدون تخدير، في عملية نادرة وشبه مستحيلة، لكن لابد منها لإنقاذه من موت محقق وأكيد...
تحمل وتجاوز المحنة الجديدة بطريقة عجيبة. ظل صامتاً وصامداً بوجه ظروف غير طبيعية لا تصدق ولا تحتمل. بعد أحداث بتشاشان جرت محاولة صعبة لكنها جريئة لنقله مع مجموعة من المرضى. تطوع عدد من الرفاق الاقوياء لتنفيذ المهمة المستحيلة وقد نجحوا بعد قصص ومآثر وصعوبات عجيبة...
في المنفى، الذي هو منفى مهما كان ملوناً، كان أبو حازم بعيد عن عائلته وأطفاله ووطنه. في هذا المنفى داهمته الأمراض المتلاحقة في رحلة عذاب وجسد معطوب ومقطع وصحة عامة ضعيفة. خلل القلب وانسداد الشرايين وعملية كبرى لاستئصال ورم غامض في الرئة، ومحاولة العودة الى الوضع الصحي الطبيعي والحياة الطبيعية، لكن هذه المرة ومن دون فاصلة او استراحة أكتشف الدكتور أصابته بالمرض الخبيث وهو يدمر البنكرياس وينتقل لباقي الجسم. أخبره الدكتور بأنها مجرد ستة أشهر وتنتهي وتتوقف الرحلة. عندها ستتوقف عذاباته وآلامه!
جمع أبو حازم ذكرياته وتجاربه وأحزانه في المنفى وعاد إلى الوطن كي يموت فيه فقط، تعبير عن تحول الوطن على مقبرة كبيرة بلا حدود. أو هكذا يريده البعض...
كنت اراقب قدرة وطاقة الاستمرار عند (أبو حازم). كيف تحمل ما تحمل بصمت دون جزع؟ كيف كان طبيعياً وكأن ما حصل له لم يحصل؟ كيف يستمر الإنسان كما يريد رغم وضد الظروف؟ كيف يستطيع الإنسان أن يظل متطوران في ظروف وتحولات وتبدلات وخسائر قاهرة وسريعة ومتلاحقة؟ هل هي قدرة العقل وطريقة عمل الإرادة وعلاقتهما؟ في الأخير والخلاصة، كيف حافظ وتمسك بحلمه الإنساني الجميل وهو يراه مكلل بالرماد؟
كان أبو حازم، طيبا وواضحا ومتواضعاً، وهو يرى ويراقب ويسمع ويعرف كل شيء، وله طريقته في العمل.
كانت علاقتنا قوية وجميلة وطويلة، تنطوي على ود واحترام كبيرين، وهي مستمرة، لم تنقطع تحت كل الظروف او بسببها. مرة عاتبني بحرص كبير، وقال لي لماذا لا تحضر النشاطات وتأخذ دورك ومكانك؟ قلت له يا عزيزي المشكلة بالنسبة لي هي مشكلة وطن مدمر ومهدد، وليست قضية حركة أو حزب أو فكرة. قال لي حقك في ذلك.
توقفت آلام الوجع والمرض والمخاطر، بنهاية الموت المأساوية...
وجهت له رسالة قبل موته، هي تحية وتلويحه ود... كان الرد من أجمل ما يكون، وقد أربكني، حيث اختلطت مشاعر الود والحزن والفرح...
* أجمل وأثمن ما يمكن ان يصلني من إنسان يقف على مشارف الموت، وقد زاره الذئب. وجهت له تحية وهو حي، وهي أهم من رثاء الميت، فيها تقليد ضروري ودفاع عن الحياة....
... قلت له لقد ذكرك أحد أصدقائك،
لم يهتم فهم كثر من حوله.. قلت هو من المغتربين القدامى، نظر في وجهي، ذكرت اسمك فجأة أشرق وجهه بابتسامة وهز راسه برضا ثم تمتم بكلمات رغم وجعه (شلونه) قلت له زين ..
ماجد حسين علي كزار...
وداعاً الرفيق والصديق حسين علي كزار (أبو حازم)، بن الناصرية صديق الناس...