الاشتراكية العاجزة..1-5


محمد دوير
2017 / 5 / 3 - 15:05     

بعد قرن كامل علي أول تجربة اشتراكية في روسيا، وبعد قرنين من ميلاد كارل ماركس، تتجاذبني قضايا شتي وموضوعات متفرقة حول ما قدمته الاشتراكية للإنسانية، وما مصيرها ومصير المؤمنين بها ؟
لا أستطيع أن أتحدث حديث الأمل في موضوع متعلق برؤية إنسانية حاولت أن تغير وجه التاريخ ، فالقضية أكبر وأعمق وأخطر من طرح خطاب دعائي ، والبحث عن نقاط الإيجاب في التجربة عموما بشقيها النظري والعملي، بممارستها سواء علي صعيد الدول التي انتهجت الاشتراكية أو الأحزاب ذات الطابع الاشتراكي والماركسي.ولسوف تدور موضوعات هذا البحث حول سؤال مركزي واحد: لماذا فشلت الاشتراكية في تغيير العالم ؟
سأطرح هنا خمس نقاط، هي في المقام الأول تساؤلات وتفكير بصوت عال، فأنا لا أملك إجابة علي كافة التساؤلات، ولا أملك حتي إجابات مقنعة للجميع علي أي من التساؤلات المطروحة علي الفكر الاشتراكي.ولكنها محاولة للبحث والفهم والتحليل، سأجتهد في أن تكون مركزة ومختصرة نظرا لطبيعة كتابة المقالات.والنقاط الخمسة هي ( حلم ماركس بالتغيير – ماركسية ما بعد ماركس – الحزب الروسي والثورة البلشفية والدولة السوفييتية – ما بعد الانهيار مستقبل الاشتراكية العلمية) مساهمة متواضعة مني في الاحتفال بمرور مائة عام علي أول ثورة اشتراكية عظمي في التاريخ.
السؤال الأول : هل كان ماركس يريد تغيير العالم حقا ؟
لقد بدأ المشروع النظري الماركسي منذ 1843 تقريبا وانتهي 1883 بوفاته ، أي ما يقرب من أربعين عاما ظل يبحث فيها عن أفق لمستقبل أفضل للبشرية، ونظرا لاعتبارات عديدة توصل إلي نتيجة مركزية : أن الطبقة العاملة هي الطرف المقابل للرأس مال، والتقابل هنا يعني التضاد ،والتضاد هنا يعني التناقض ،والتناقض يؤدي إلي حدوث أزمة ، والأزمة لا يمكن حلها سوي بانتصار الطبقة العاملة وتغيير شكل علاقات الإنتاج ومن ثم التشكيلة الاجتماعية/ الاقتصادية...وبناء علي هذه القضية المركزية تدور الفلسفة الماركسية كلها، وأيضا تمحورت معظم برامج الأحزاب الاشتراكية في العالم...وقد أسست هذه الرؤية لمجموعة من المفاهيم والنظريات المتعددة في مجالات علمية كثيرة كفلسفة التاريخ وتطور المجتمعات ، جدل الطبيعة والإنسان ، نظريات الواقعية الاشتراكية في الأدب والفن ، الاقتصاد السياسي المنشغل بالتوزيع وفائض القيمة، علم الاجتماع السياسي، الحداثة وشروطها ، التنوير وأبعاده الاجتماعية ، نظرية السلطة وقيم الحرية والمساواة والديمقراطية ...باختصار : لقد أدي ماركس ما عليه تجاه دوره التاريخي، وإن كان الرجل لم يكمل مشروعه النظري، حتى الاقتصاد السياسي نفسه وهو المجال الذي تخصص فيه بصورة كبيرة، ظل منقوصا إلي حد بعيد ورغم إشاراته إلي النزوع الرأسمالي للعولمة، واقتصاديات الاستعمار ؛ إلا أنه كان من الممكن أن يقدم فيها الكثير لولا وفاته وإن كان البعض يعتبرها احدي عبقريات الماركسية ، أعني أن تبقي نسقا مفتوحا هكذا...ناهيك عن قلة كتاباته في الديالكتيك والفعل الثوري والمحور الثقافي بشكل عام، وهذا ما دفع رفيقه انجلز في احدي المراسلات بأن يعترف بأنهما – هو وماركس - قصرا في تناول موضوعات كثيرة نظرا لضيق الوقت والعمر...
الملاحظة التي أود الخروج بها من هنا : هي أن ماركس كتب نفسه ،فهو ابن المركزية الأوربية التي لم تر سوي التطور الحضاري الغربي ، وهو في ذلك يتفق مع هيجل . وهو ابن القرن التاسع عشر الذي ظل قرن الهويات القومية الفتية، والنهوض الرأسمالي الباعث علي الأمل في تطهير العالم من بقايا الإقطاع- رغم تأثيره اللاحق ، إلا أن خطابه النقدي كان منصبا علي ظاهرة رأسمالية القرن التاسع عشر.وهو ابن الحركة الثورية الأوربية التي كانت مندفعة نحو ضرورة التغيير ، ولذلك أصابه كثير من الإحباط وخاصة بعد أزمة الرأسمالية عام 1857، فقد كان ينتظر نهاية مبكرة للرأسمالية.ولكنه ظلت باقية حتي اليوم.هو لم يكتب فقط ، بل شارك أيضا في الحركة الثورية "العصبة الشيوعية 1847،والأممية الأولي 1864 "
كان ماركس يحلم بتغيير العالم ،فكتب صاغ رؤي شكلت أسس سياسية مهمة وحددت مسارات فكرية شديدة الوضوح ، وكان شريكا رئيسيا في صناعة القرن العشرين، ويذكر أنه يتقدم بنفس المكانة في القرن الحادي والعشرين أيضا.فهل كانت قيمة ماركس الفكرية أنه مجرد حالم بالتغيير ؟ هناك الكثيرون الذين شاركوا ماركس هذا الحلم ، فمنذ فجر التاريخ والحالمون بالتغيير كثر، وربما حتي اليوم. ولكن حلم ماركس بالتغيير لم يكن حلما رومانسيا، سلبيا، مشحونا بالأماني أو النبوءات ، ولكنه كان أقرب إلي القياس المنطقي ،فبما أن الرأسمالية ليست ظاهرة أبدية الوجود، وأنها حدث عارض في التاريخ الكلي للبشرية وأحد محطات التغيير الاجتماعي ، فلابد وأن نهايتها ستكون يوما ما.. هذا هو المنطق البسيط للغاية الذي يخلع عن الرأسمالية قداستها التاريخية وأبديتها المزعومة.وإذا ما اعتبرنا أن هذه القضية البديهية هي مقدمة أولي، فالمقدمة التالية ستكون:بما أن التناقض قائم بين الرأسمال وقوة العمل، فمن الضروري أن يمر هذا التناقض بمراحل صراع وحالات صدام ،تكشف عن نفسها في صور شتي سواء في صورة صراعات فكرية أو سياسية.
وبناء علي هاتين المقدمتين يستنتج ماركس فرضيته العلمية التي تشير الي أن مجتمعا ما سيحل محل هذا المجتمع الرأسمالي، مجتمع لابد وأن يتلاشي – بالضرورة – عيوب المجتمع السابق ، كما تلاشت الرأسمالية عيوب النظام السابق عليها ، ولكنها ظلت محملة هي الأخرى بتناقضاتها الذاتية. وماركس يري المجتمع الأخر هذا ، هو الشيوعية ،التي وضع مواصفاتها العامة وترك للمستقبل الحق الأصيل في التحقق من عناصرها وآليات عملها.ومن ثم لم يكن حلم ماركس بتغيير العالم سوي استجابة لمقدمات رأي أن طرحها علي العقل الإنساني ضرورة،وأن تجاهلها لا يعني سوي تجاهل سؤال الوجود ذاته،لذلك قد يصح القول بأن أهم ما في ماركسية ماركس أنه طرح السؤال ؟ سؤال ما مصير مستقبل البشرية؟ طالما بقي التناقض قائما فهناك ضرورة للبحث عن حل..كان الحل في تكيف الرأسمالية، وكثيرون لا يرون هذا حلا بقدر ما هو تأجيل للتغير، فهل معني التكيف الرأسمالي هو إنكار التناقضات؟ ..لا ..طبعا ، معناه فقط أن الرأسمالية قادر علي مقاومة التناقضات بالتكيف، وهذا التكيف ليس سوي قدرتها علي تقديم تنازلات بدءا من الانسحاب من المستعمرات، وحتى إعادة جدولة فائض القيمة في صورة تنازلات للطبقة العاملة ولكل الشغيلة.
أخيرا..لا ينبغي تحميل ماركس بمفرده مهمة تغيير العالم ، فالنص الماركسي ليس سوي لغة- رهينة واقع- استطاعت أن تصف العالم في لحظة تاريخية انقضي أمرها وبقي قانونها فقط ،فليست رأسمالية ماركس التي عايشها هي رأسمالية اليوم التي نعايشها،والخيط الغليظ بين الرأسماليتين هو قانون حركة رأس المال، ولكنه ليس كافيا في التغيير، ربما كان كافيا في التفسير، إذ توقف تفسيرنا عند مرحلة النشوء الرأسمالي، أما الارتقاء فيحتاج منا إلي إبداع تصورات جديدة تتناسب مع مراحل تطور الرأسمالية.وهذا ما حدث بالفعل ما بعد ماركس، أي فيما أطلق عليه أنا" الماركسية" تلك التي تشكلت بذورها مع كميونة باريس وتضخمت علي يد انجلزوآخرين بعد وفاة ماركس.. وهذا هو حديثنا القادم.