افول الماركسية - الايديولوجيات : من 1968 حتى اليوم (8)


موسى راكان موسى
2017 / 4 / 21 - 02:10     



المجتمع الصناعي في قفص الاتهام (ص 44ـ48) :


لقد كان كل ذلك استباقا و خلاصة لعدد من الحجج التي ستصبح في السنوات التالية مسيطرة في صفوف اليسار الجديد ، و ستتوصل رويدا رويدا إلى التأثير (في ظل أجواء الهيمنة الثقافية للماركسية و التي تسم تلك المرحلة) ليس فقط على حقل أو وسط اليسار التاريخي و إنما أيضا على مختلف العقليات . إن الاتهام الموجه إلى النظام الصناعي من قبل ماركوز ، بأنه (( مغارة علي بابا )) كل الأمراض كان يتوافق مع التحليل الذي كان قد ظهر خلال نفس تلك الفترة حول أسباب الردة في الاتحاد السوفياتي . إن نقطة انطلاق هذه الردة لم تكن في ديكتاتورية الحزب الواحد أو في غياب ديمقراطية حقيقية مرتكزة على التعددية الحزبية الخ ... إن انتقادات من هذا النوع لم يكن ممكنا إلا أن تكون مستوحاة من الحنين إلى (( الحريات الشكلية )) (( للديمقراطية البورجوازية )) . و على العكس من ذلك فإن منشأ الردة كان يتحدد أساسا في (( الأنموذج الغربي )) الذي كانت له الغلبة أخيرا في الاتحاد السوفياتي . إن اختيار التصنيع عام 1928 قد كبح (( الممارسة الثورية )) . فلقد تم فرض نفس القوانين (في البداية قوانين (( الانتاجوية )) ثم (( الاستهلاكوية ))) التي كانت سائدة يومذاك في الغرب ، مما عني بهذا الشكل إيقافا لنمو (( العلاقات الاجتماعية الجديدة )) . إن الجوع الذي لا يشبع للحديد و الصلب من ناحية أولى ، و الرغبة في اقتناء ماكينات غسيل و برادات و سيارات من ناحية أخرى قد أديا إلى التملص من ، و تشويه الغايات الأساسية لثورة أكتوبر . إن عملية تنظيم المجتمع و التي كانت قد تطورت على هذه القواعد ، قد اكتسحتها بالكامل (( النزعة الاقتصادية )) السائدة في الغرب .. و نفس الأمر كان ينطبق على (( تنظيم العمل )) و على النظام داخل المصنع .


و في الحقيقة فإن أنجلز كان قد أشار في زمانه إلى أنه يتفهم الضرورات القاسية للصناعة الحديثة . و في مجادلته مع الفوضويين الذين كانوا يطالبون بنهاية كل سلطة ، شرح أنجلز كيف أنه حتى في مصانع المجتمع الاشتراكي المقبل ، ينبغي أن تحل المشكلات بطريقة (( سلطوية )) . (( إن الانسان الآلي الميكانيكي في مصنع كبير أكثر تسلطا و استبدادا مما كانه صغار الرأسماليين الذين يشغلون العمال . فعلى الأقل فيما يخص ساعات العمل بإمكاننا أن نكتب على أبواب المصانع : أنتم يا من تدخلون أتركوا كل حرية و استقلالية عند الباب ! و إذا كان الانسان يُخضع بالعلم و بعقله المبدع ، قوى الطبيعة فإن هذه الأخيرة تنتقم منه بإخضاعه بدورها ، في الوقت الذي يكون فيه هو يستعملها ، تخضعه لاستبداد حقيقي مستقل عن أي تنظيم اجتماعي )) . و يختتم أنجلز قائلا بأن (( إرادة إلغاء السلطة في الصناعة الكبيرة تساوي إرادة إلغاء الصناعة نفسها ، تدمير مصانع الغزل البخارية للعودة إلى المغزل البسيط )) . و لكن و بغض النظر عن واقعة أن الكتابات ضد الفوضوية كانت أقل ما يكون قراءة في تلك الأيام ، فإن كل استراتيجية ماو و ممارسة (( الثورة الثقافية )) كانت تبدو و كأنها تؤكد مصداقية التخمينات الجديدة . لقد كان نمط التطور الصيني مختلفا عن النمط السوفياتي . لم يراهن ماو على التنمية المتزايدة للصناعة الثقيلة ، و لم يتم استنفاذ الزراعة كما حصل أيام ستالين . لقد كانت التنمية على العكس من ذلك تسير بطريقة متوازنة . ليس فقط نظام الكومونات الشعبية ، و إنما أيضا لا مركزية الصناعة في الأرياف ، و التركيز على الوحدات الانتاجية الصغيرة . كان كل شيء يشير إلى أن القادة الصينيين كانوا واعين تماما للمضامين الاستبدادية و السلطوية التي كانت تحملها التكنولوجيا الصناعية الحديثة . إنهم لم يكونوا يعتبرونها (( مجرد وسيلة )) و لم يكونوا موهومين حول (( حيادها )) المزعوم . كتب كارول في مقال صدر في جريدة المانفيستو (نسيت اليوم تاريخه و لكنه يعود إلى 1975 على الأقل) بأن (( التصنيع ليس وسيلة محايدة يمكن أن يخدم البورجوازية كما البروليتاريا للوصول إلى الرأسمالية كما إلى الاشتراكية . إن التصنيع يستجيب لعقلانية باطنة أصلية مستمدة من طبيعته الذاتية الخاصة به ، و صعبة التحوير ، و هي تتحول إلى غاية في ذاتها . و الوحيدين من بين الشيوعيين في السلطة الذين فهموا هذه الحقيقة كانوا بالضبط الشيوعيين الصينيين )) .


إن الفكرة التي أطلقها ماركوز و التي ظلت ضبابية حول (( تكنولوجيا جديدة )) ، قد وجدت في تلك الفترة صدى إيجابيا ، في 1972 ـ 1973 قامت فدرالية عمال الصناعات الميكانيكية (FLM) (و هي الأكثر حساسية دائما لهذه الموضوعات) بفتح مناقشة حول (( الطريقة الجديدة لصنع السيارات )) . لم يؤد النقاش (على حد ما نذكر) إلى شيء ملموس . إلا أنه كان على الرغم من ذلك حدثا و لحظة ذات دلالة عن إحدى الاتجاهات الايديولوجية الأكثر أهمية التي برزت في هذا القطاع خلال السبعينات : فكرة تحويل علاقات الانتاج في المصنع . لقد كان هذا الموضوع مطروحا في كل لحظة . و كان الأمر يتعلق بتثوير العلاقة بين الرجل و الآلة . ضمن شروط الرأسمالية كان العامل مضافا إلى نظام الآلات كمجرد ملحق : لم تكن الآلة هي من يخدم الانسان و إنما العكس . كان ينبغي من الآن فصاعدا تغيير هذا الوضع . و لكن الخطاب حول هذه القضية أيضا لم يتخذ أبدا لا في حينه و لا بعد ذلك شكلا محددا ملموسا . غير أن شيئا ما كان يخرج بوضوح من كل ذلك : إنها الصعوبة التي واجهها و يواجهها الكثيرون في القبول و التسليم (بطريقة لا يمكن تجنبها بسهولة) بـ(( موضوعية )) سلسلة التركيب و القوانين القاسية التي تفرضها تكنولوجيتها ، و هي قوانين (( مستقلة عن أي تنظيم اجتماعي )) (و قد سبق لأنجلز قول ذلك و لكن يبدو أن الجميع نسي هذا الأمر) . (المقصود بسلسلة التركيب نوع العمل الجماعي الذي يقوم به عشرات و مئات العمال بشكل روتيني يومي و هم يقفون في سلسلة طويلة و كل واحد منهم ينفذ عملا محددا أي يركب قطعة محددة من الآلة أو الشيء المطلوب صناعته ـ أما موضوعية سلسلة التركيب فالمقصود فيها حيادها أي عدم تأثيرها الذاتي على عقل و حياة العمال (...) ـ المترجم) .


إن الكلام عن (( التكنولوجيا الجديدة )) كان يعيدنا لاحقا إلى الكلام عن (( النمط الجديد للتنمية )) في الاقتصاد (و هو أيضا موضوع عقدت له عدة مؤتمرات و ندوات دون أية نتيجة محددة) . و مثلما يلتقي نهران ثائران ، فإن الخطابين و قد أغنتهما الكثير من الروافد ، كانا يفيضان أخيرا إلى البحر الكبير لما يسمونه (( المستوى الجديد )) أو (( النوعية الجديدة للحياة )) .


و في سياق هذا النقد الذي لا يرحم (( المجتمع الصناعي )) ، كان يتطور في نفس الوقت الشعور بالاحتقار تجاه ما يسمى (( بالمركزية الأوروبية )) . و هو احتقار سار جنبا إلى جنب مع إدعاء ليس فقط كرامة و اعتزاز ماو و إنما أيضا (( و أحيانا )) حتى تفوق ثقافات أخرى مختلفة لم نكن في الحقيقة نعرف عنها شيئا يذكر (باستثناء بعض الاختصاصيين) بخلاف (و هذا أكثر من كاف) إنها كانت على عكس وضعنا ، عارية في الشؤون العلمية و التكنولوجية و الصناعية . و في ظل هكذا ظروف فإنه لم يكن هناك من قيمة للقول بأنه إذا كان على شعوب العالم الثالث أن تستحوذ يوما ما على التكنولوجيا الغربية فإنه من الخير إذن أن تنتفع أيضا و لو قليلا بما كان يكمن خلف هذه الثقافة : أي العقلية النقدية و التجريبية التي صاغها الفكر الحديث منذ غاليليه مرورا بنيوتن ، فولتير ، هيوم ، كانط ، الخ ... إن هذا الاعتراض لم يكن له أي قيمة إذ أن سبب كل العلل مصدره هؤلاء الأشخاص المذكورين ، و المقصود علل (( العقلانية العلمية )) التي كانت تعني (( القمع و التراتبية )) . (و هذا ما أوضحه هوركهايمر و أدورنو في (( جدلية الأوفكلارونغ ))) . إن (( المجتمع الصناعي )) الذي ظل و لفترة طويلة من القرن التاسع عشر عرضة للانتقادات العميقة و الأساسية بسبب ظروف البؤس و التوحش التي فرضها على الجماهير العمالية المتمركزة في المدن الكبرى ، إن هذا المجتمع قد أصبح الآن عرضة لهجمات لا تقل ضراوة و لكن للأسباب المعاكسة : أي لقيامه بانتاج مجتمع الاستهلاك ، و من خلال العدد الواسع من الخيرات و وسائل اللهو و الراحة ، لأنه استعبد و استلب الأشخاص ، و قتل الخيال و الابداع و الشعور لأنه جعلهم مجبرين مكيفين في خياراتهم ...


إن (( قلق )) (( المجتمع الصناعي المتقدم )) قد كان بالطبع حقيقيا و صحيحا . كما أن المشكلات الضخمة التي كانت تواجه هذا المجتمع في المدى القصير و المتوسط هي الأخرى كانت حقيقية أكان ذلك في علاقاتها الداخلية أم في علاقاتها مع مناطق التخلف و المجاعة . غير أن الطريقة التي عالجت بها الايديولوجية هذه القضايا (( و الشكل )) الذي أعطته لها ، و الوعي الذي نشرته عنها ، كانت أحيانا تبدو و كأنها تدفعنا إلى التساؤل إن كان في اللائحة الطويلة للأمراض التي يجب إيجاد علاج لها لا ينبغي أيضا وضع ذلك (( الوعي الايديولوجي )) (و هو تعريف (( خاطئ ))) غير القادر على أن يكون ملموسا محددا و المستعد دوما للرفض الكبير .