(5-6) تطور حيازة الأراضي في مصر - النظام الاقتصادي في مصر الحديثة


محمد مدحت مصطفى
2017 / 4 / 23 - 00:22     


يُعَد القرن التاسع عشر بحق عصر التحولات الكبرى في التاريخ الاقتصادي المصري حيث شهد أسلوبين للإدارة الاقتصادية. استند الأسلوب الأول إلى التدخل المباشر للدولة في الحياة الاقتصادية بغرض تعبئة الفائض الاقتصادي وتوجيهه إلى المشروعات المستهدفة مستخدماً في ذلك أسلوب الاحتكار الاقتصادي للدولة بكل معانيه، وقد انتهى ذلك النظام على يد الدول الكبرى، ولكن بعد أن أرسى قواعد أساسية للنهضة المصرية. أما الأسلوب الثاني فجاء نقيضاً لأسلوب الاحتكار ويطلق عليه أحياناً أسلوب الحرية الاقتصادية، حيث تركت الحرية فيه للمواطنين في اختيار أنشطتهم الاقتصادية. وقد حرم النظام الجديد خزانة الدولة من العديد من الموارد المالية مما دفعها للاستدانة من الخارج والغرق في مشكلة الديون الكبرى التي أدت في النهاية احتلال البلاد.

نظام الاحتكار الاقتصادي
بعد أن استقر الحكم في يد محمد على عام 1805م سار على سياسة الوئام مع العلماء والأشراف حتى عام 1809م عندما تآمر مع غالبية المشايخ ضد نقيب الأشراف السيد عمر مكرم ليتم نفيه إلى دمياط في التاسع من أغسطس من نفس العام ليبدأ بعدها مباشرة في التخلص من باقي الزعماء. وبعد استقرار الأمور في يد محمد على بدأ نظام الاحتكار الحكومي للمحاصيل في صعيد مصر حيث طُبق على محصول القمح عام 1812م، وكان الكُشاف يستولون على المحصول لحساب الحكومة بما في ذلك الكمية التي يستبقيها الفلاحون لاستهلاكهم الخاص. وتُجمَع الحبوب في شوَن المناطق ثم تُشحن بقوارب يوفرها الباشا إلى الإسكندرية لتباع في أوربا، كما يعاد بيع باقي المحصول في الأسواق المحلية لتحصد الحكومة فروق الأسعار. وفى الوجه البحري طُبق النظام لأول مرة على محصول الأرز الذي أصبح يُصدٌر بالكامل إلى الخارج. ومع زيادة أرباح الحكومة من محصول الأرز قامت بتمويل الفلاحين بالبذور ومواشي العمل اللازمة لزراعته، وبعد الحصاد يقوم المباشرون بخصم التكاليف ودفع نصف المستحَق عن المحصول مع كتابة النصف الآخر على هيئة إشعارات تستحق الدفع في العام التالي أو تخصم من ضرائب العام التالي. وفى عام 1816م أدخلت محاصيل الكتان والسمسم والعُصفر والنيلة والقطن والفول والشعير ضمن نظام الاحتكار. وقد أدى هذا النظام إلى الإضرار بمصالح الفلاحين الذين أُجبروا على البيع بسعر منخفض ثم إعادة الشراء بالأسعار المرتفعة. كما تسبب في العديد من القلاقل التي قمعتها الحكومة بقسوة بالغة دفعت الفلاحين إلى الهرب من القرى.

ومع تزايد الأزمات الناتجة عن نظام الاحتكار الكامل لجأت الحكومة عام 1830م لنظام الاحتكار الجزئي حيث منحت الفلاحين حرية زراعة محاصيل القمح والذرة والفول والشعير على أن يوردوا للحكومة مقدار أربعة هكتولترات عن كل هكتار بالأسعار التي تحددها الحكومة، مع ترك الحرية لهم في بيع باقي المحصول للتجار المحليين فقط حيث يحظر تعاملهم مع التجار المُصدٌرين. وفى عام 1834م اتخذت خطوة جديدة تجاه التخفيف حيث أُلغيت ضريبة المكوس المفروضة على السلع المنقولة بين المدن والقرى. وتبين ميزانيات الدولة حجم الدخل الكبير الذي تحقق من نظام الاحتكار، والذي قدر بنحو 672 ألف جنيه عام 1833م بنسبة 26.6% من جملة الإيرادات، كما قدر بنحو 685.6 ألف جنيه من السلع المصدرة عام 1836م وبنسبة 22.4% من جملة الإيرادات. إلا أن ذلك النظام حرم الفلاح من أي حافز لتحسين أحواله مع حرمانه من الاتجار في محصوله وتحقيق قدر من الربح، وحلت البيروقراطية البشعة للدولة محل استغلال المماليك الذين كانوا في النهاية يستجيبون لتدخل المشايخ. هذا ويمكن اعتبار عام 1838م بداية النهاية لنظام الاحتكار حين ضغطت بريطانيا على الباب العالي لتوقيع اتفاقية بلطة ليمان على البوسفور في يوم 16 أغسطس، ومن أهم بنود هذه الاتفاقية:
- السماح لرعايا بريطانيا بالاتجار في المنتجات الزراعية والصناعية في جميع أنحاء الإمبراطورية بما في ذلك مصر دون قيد أو شرط.
- إلغاء الحظر المفروض على تصدير السلع بمقتضى نظام الاحتكار الحكومي.
- منح رعايا بريطانيا امتياز الدولة الأولى بالرعاية ، بحيث يسرى عليهم في الحال أية امتيازات تجارية أو جمركية تمنح لرعايا أية دولة أخرى.
- تحديد الضرائب على الواردات على أساس 3%، بالإضافة إلى ضريبة مقدارها 2% على تجارة التجزئة، مع إلغاء الضرائب الأخرى على الواردات.
- تحديد ضرائب الصادرات بمقدار 12% يدفع منها المصدرون الأجانب 3%.

وفى نوفمبر من نفس العام وقعت فرنسا على اتفاقية مماثلة وتبعتها كل من بلجيكا وسردينيا والنمسا، وهى اتفاقية كما نرى تلغى احتكار محمد على لتجارة السلع، وحدد تاريخ 12 مارس 1839م لبداية النفاذ إلا أن الفرمان الخاص بذلك لم يصل القاهرة إلا في 14 يونيو 1839م. وعلى العموم فانه من المؤكد أن الباشا تحايل على التنفيذ مرة بتحريض أصحاب القوارب على عدم نقل المحاصيل للأجانب، ومرة أخرى بعدم السماح للفلاحين بالعمل على سفن الأجانب، ومرة ثالثة بالادعاء بأن محصول القطن هو من إنتاج مزارعه الخاصة وبالتالي يحق له وحده الاتجار فيه. وهكذا استمر الحال إلى أن تمكن إبراهيم باشا من تحطيم الجيش العثماني في معركة نصيبين في 24 يونيو 1839م، وما تبعه من وفاة السلطان محمود الثاني وتولى ابنه الطفل عبد المجيد أمور السلطنة ولم يبلغ بعد السادسة عشر. كذلك تولى خسرو باشا منصب الصدر الأعظم "رئيس الوزراء" وهو من ألد أعداء محمد على في الآستانة، إلا أنه في نفس الوقت قام أمير البحر التركي أحمد باشا فوزي بقيادة الأسطول العثماني إلى الإسكندرية حيث سلم الأسطول طائعا إلى محمد على. وقد أدت هذه التطورات إلى تدخل بريطانيا على الفور لعقد معاهدة لندن بين السلطنة العثمانية من جانب وبين كل من بريطانيا والنمسا وروسيا وبروسيا من جانب آخر وذلك في 15 يوليو 1840م، والتي كان من أهم بنودها:
- يمنح محمد على ولاية مصر وراثية وولاية عكا طوال حياته مع إخلاء ما عدا ذلك من أراضى، وإعادة الأسطول العثماني إلى الخليفة.
- إذا رفض محمد على هذه الشروط يكون من حق الدول الموقعة إرغامه على ذلك بالقوة.
- أن يكون لسفن بريطانيا وروسيا وبروسيا حق دخول البوسفور لحماية القسطنطينية في حال تقدم الجيوش والسفن المصرية إليها.
- حق كل من أراد من سكان الشام رفض طاعة المصريين والرجوع إلى الدولة العلية.
- أن يتم العمل بنصوص المعاهدة فورا دون انتظار تصديق الدول عليها نظرا لاقتضاء الظروف ذلك.
- تعرض شروط هذه المعاهدة على محمد على ويمنح عشرة أيام للموافقة عليها، فإذا رفض يمنح عشرة أيام أخرى لولاية مصر فقط، فإذا رفض نظر السلطان في أمر ولايته على مصر ذاتها.
أرسلت بنود هذه المعاهدة إلى محمد على الذي ماطل في التوقيع عليها، فقامت بريطانيا بحصار مواني مصر والشام إلى أن سقطت عكا في أيدي العثمانيين مرة أخرى بعد تخلى الفرنسيين عنه، وقام بالتوقيع على المعاهدة في 28 نوفمبر 1840م بعد أن وعدته الدول الأوربية بإقناع السلطان بمنحه مصر وراثية. حتى جاءت تسوية عام 1841م التي انتهت بصدور فرمان 13 فبراير الذي يحدد علاقة محمد على بالسلطان العثماني وتضمنت:
- منح محمد على ولاية مصر له ولذريته بطريق التوارث بعد موافقته على الالتزام بجميع المعاهدات الموقعة بين تركيا والدول الأوربية.
- خفض أعداد الجيش المصري إلى 18 ألف جندي في أوقات السلم مع منحه حق ترقية الضباط حتى رتبة صاغ فقط.
- أن يدفع ربع المُحصّل من الضرائب كجزية إلى الباب العالي وتصرف الثلاثة أرباع الباقية على شئون مصر.
تألم الباشا كثيرا لقسوة هذه الشروط ودخل في مرحلة جديدة من المفاوضات انتهت بصدور فرمان جديد في إبريل 1841م ليعدل من الفرمان السابق بحيث تصبح وراثة الولاية لأكبر الذكور سنا، ومنحة حق ترقية الضباط إلى رتبة أميرالاى، وتحديد قيمة الجزية بثمانين ألف كيس تعادل 320 ألف جنيه. وهكذا كانت النهاية الرسمية لنظام الاحتكار، أما النهاية الفعلية فكانت عام 1850م أي بعد عام كامل على وفاته حيث استمر في مراوغته للتجار الأجانب حتى الرمق الأخير من حياته. وترجع أهمية معاهدة لندن من ناحية أخرى إلى أنها الوثيقة السياسية التي قام عليها استقلال مصر حتى من سنة 1840م إلى سنة 1914م، وهو الاستقلال الجزئي المقيد ببقاء السيادة التركية. أما عن دوافع محمد على نحو نظام الاحتكار فقد تعددت الآراء بشأنها، فهناك الرأي القائل بأن الاحتكار كان المنفذ الوحيد للتخلص من حالة الفوضى الشديدة التي ظلت تعاني البلاد منها طوال فترة الحكم العثماني، الأمر الذي ترتب عليه عدم كفاية الموارد وانخفاض الطاقة الإنتاجية، ومن ثم عدم قدرة الحكومة على دفع رواتب العاملين بها. وهناك رأي آخر يفسر ذلك بأنه خطوة دفاعية اتخذها الباشا أمام الديكريتو العثماني الصادر عام 1820م والمتضمن فتح أسواق الدولة العثمانية أمام البضائع الأجنبية مقابل ضريبة جمركية قدرها 3% فقط مما يعني إفلاس كل محاولات البناء الاقتصادي، إلا أن ذلك الرأي مردود عليه بأن محمد على بدأ سياسته تلك من عام 1812م. وهناك رأي ثالث يقول بأن هدف الباشا كان واضحاً وهو الرغبة في بناء دولة قوية مستقلة مترامية الأطراف، وأن ذلك الهدف لا يُمكن أن يتحقق إلا من خلال تعبئة الفائض الاقتصادي بهذا الأسلوب الاحتكاري الذي وجد فيه الباشا أن يحقق أرباحاً خيالية بعد حساب الفارق بين أسعار الاستلام من الفلاحين وأسعار البيع في الخارج. هذا ومن الممكن البحث عن تفسيرات عديدة للأسباب التي دفعت محمد على لتبني نظام الاحتكار الاقتصادي في مصر رغم أنه لك يكن مُطبقاً في باقي الولايات العثمانية، إلا أن هذا لن يُغير من أمر دراسة الآثار الفعلية لهذا النظام.

نظام الحرية الاقتصادية
تبين مما سبق أن نظام الاحتكار أخذ في الاحتضار منذ أواخر عهد محمد على، ثم كانت النهاية الرسمية على يد تحالف الدول الكبرى. ولكن يمكن القول أيضاً أن النهاية الفعلية له كانت عام 1849م بوفاة محمد على الذي ظل حتى النفس الأخير يقاوم ويتهرب من تنفيذ شروط الدول الكبرى. وينسب بعض المؤرخين القضاء على الاحتكار إلى عباس الأول، فإذا كان ذلك صحيحاً فإن إغلاق المصانع والتوقف عن تنفيذ أعمال الري وتطهير الترع وإقامة الجسور يكون من نتائج النظام الجديد. وجاء سعيد باشا بذهن متفتح ليرسى تدريجياً دعائم النظام الجديد، والذي بدأ بخطوات تأكيد الملكية الفردية للأرض الزراعية والتي تأكدت بنهاية القرن التاسع عشر. ومما لاشك فيه أن الاهتمام بتطوير شبكة النقل والمواصلات أدى لانتعاش التجارة والتي ترافقت مع منح الفلاح حرية بيعه للمحاصيل. ومن الناحية الموضوعية فإنه لا يمكن الحديث عن الحرية الاقتصادية بدون الحديث عن بداية الغزو المالي الأجنبي للبلاد الذي ترافق معها. وقد خرجت مصر من عصر محمد على خالية من الديون، ولكنها في نفس الوقت فقدت بالسياسة الجديدة سيطرتها على معظم موارد البلاد ولم يتبقى أمام خلفاء محمد على سوى الاقتراض لتنفيذ مشروعاتهم ، ذلك الذي بدأ بعهد سعيد ليتضاعف في عهد إسماعيل ولينتهي بالتدخل الأجنبي المباشر في عهد توفيق.

الإدارة المركزية في مصر الحديثة
عانت الإدارة المحلية في بداية عهد محمد على من قدر كبير من الاضطراب ، ولم تستقر تقريبا إلا بعد صدور "لائحة زراعة الفلاح وتدبير إحكام السياسة بقصد النجاح" والتي نشرت في رجب 1245هـ/ ديسمبر 1829م. وتعد هذه اللائحة بمثابة قانون رسمي لضمان سير الإدارة المحلية بكفاءة، وبدون ظلم حيث تضمنت عقوبات لمخالفات كل من الفلاحين والموظفين. كانت أعمال الإدارة المركزية في عهد محمد على تتم على مستويين هما "مجالس المشورة"، "مجالس الدواوين". وكانت المسائل العامة تناقش في مجالس المشورة وتأخذ بقاعدة الأغلبية وفقا للمرسوم الصادر في ربيع الثاني 1233هـ/ مارس 1818م، إلا أن هذه المجالس كانت تعقد بدعوة من الباشا، حيث ظلت السلطة النهائية في يده باستمرار. وفى عام 1240هـ/ 1825م تم تشكيل المجلس العالي للشئون المدنية، ومجلس الجهادية. وفى عام 1837م أعيد تشكيل المجلس الأول تحت اسم "المجلس الكبير"، أما الدواوين الأخرى فكان يجرى حلها وإعادة تشكيلها كلما دعت الحاجة لذلك، إلا أنه باستمرار كانت هناك ستة دواوين رئيسية هي "الداخلية، الخزانة، الحربية، البحرية، التعليم والأشغال العامة، الشئون الخارجية والتجارة". وفى عهد عباس الأول أهْمِلت الدواوين، كما أهْمِل مجلس المشورة، إلا أنه أبقى على المجلس الخصوصي بعد أن أعاد تشكيله. وفى عام 1849م أنشئ "مجلس الأحكام" وهو مجلس يتكون من تسعة أعضاء ويشارك المجلس الخصوصي في السلطة التشريعية، كما يتولى سلطة الإشراف على القضاء(6). وفى عهد سعيد باشا أعيد تنظيم الدواوين وأطلق عليها اسم نظارات ابتداء من عام 1857م، وكانت أربع نظارات هي "الداخلية، الخارجية، الحربية، المالية". وعندما حصل الباشا على حق تعييـن القضـاة أصبـح هنـاك نـوع من الاستقلال القضائـي، وتـم إنشـاء "مجالس الأقاليم" وهى محاكم تقوم بالفصل في المسائل المدنية والتجارية، أما المسائل الخاصة بالأحوال الشخصية ونقل الملكية فقد ظلت في قبضة القضاء الشرعي. وفى عام 1861م أنشئ مجلس "قومسيون مصر" ويختص بالنظر في القضايا التي يرفعها الأجانب على المواطنين المصريين.
وفى عهد الخديوي إسماعيل حل "مجلس النظار" محل المجلس الخصوصي ، وأنشأ "مجلس شورى النواب" عام 1866م، وكان يتكون من خمسة وسبعون عضوا. أما مجلس النظار فقد تعددت نظاراته، وتولت نظارة الزراعة العناية بالشئون الزراعية العامة من خلال خمسة مجالس تسمى "مجالس تفاتيش الزراعة" اثنتان منها في الوجه البحري وثلاثة في الوجه القبلي. والغرض منها البحث في وسائل تحسين الزراعة، وتنمية الثروة الزراعية وتوزيع مياه الري. وفى عهد الخديوي توفيـق تـم إلغـاء مجلـس شـورى النواب ليحـل محلـه مجلسيـن هما "مجلس شورى القوانين" ويتكون من 26 عضوا، ويقوم بالنظر في القوانين التي تسنها الحكومة. والآخر هو "الجمعية العمومية" التي تتكون من النظار وأعضاء مجلس شورى القوانين، بالإضافة إلى 46 عضوا يختارون من الأعيان، وتجتمع مرة كل سنتين للنظر في المسائل الهامة وخاصة تغيير الضرائب. أما "مجالس المديريات" فتتكون من أعيان المديريات، وتهتم بالشئون الخاصة بالمديرية كأعمال الري، وتنظيم الأسواق.