حوار حول مسألة “عمل الجبهات” وتوحيد اليسار


حمه الهمامي
2017 / 4 / 18 - 09:28     

حوار مع الرفيق حمة الهمامي الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية بتونس


نشرت جريدة النهج الديمقراطي في عددها 237 هذا الحوار الشامل والمتميز مع الرفيق حمة الهمامي الأمين العام لحزب العمال والناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية بتونس.



•بداية، ما المفهوم أو التعريف الذي يمكنكم اعتماده في مسألة “عمل الجبهات”؟


• العمل الجبهوي أو الجبهة هو/هي الإطار السياسي ـ التنظيمي الذي يمكن أن يجمع قوى طبقية مختلفة في لحظة معينة أو في مرحلة محددة حول برنامج أو حول مهام لهذه القوى مصلحة مشتركة في إنجازها. فالعمل الجبهوي إذن هو تجسيد لتحالف. ولكن هذا التحالف يمكن أن يكون ظرفيا أي تكتيكيا، ينتهي بانتهاء المهمة التي تمّ من أجلها، كما يمكن أن يشمل مرحلة كاملة، فيكون تحالفا استراتيجيا، لا ينتهي إلا بحل التناقض الرئيسي لتلك المرحلة وتحقيق المهام التي يفرضها من وجهة نظر مصلحة الطبقات والفئات الاجتماعية المتحالفة. وبعبارة أخرى فإن العمل الجبهوي ليس مجرد استجابة لرغبة أو نزوة ذاتية بل هو استجابة لضرورات موضوعية، من أجل تغيير موازين القوى بما يمكّن من فرض مطلب أو جملة من المطالب التكتيكية في لحظة محددة في مسار الصراع مع القوى الطبقية الرجعية، أو من أجل تحقيق انقلاب ثوري عام في الأوضاع لصالح الطبقات والفئات الكادحة والشعبية. ولا بد من الإقرار بأن العمل الجبهوي يمثل في عالمنا اليوم شرطا من شروط الانتصار على الهجوم الرأسمالي على قوت العمال والكادحين وعلى حرية الشعوب وأمنها سواء كان ذلك في البلدان الرأسمالية المتطورة أو الأقل تطورا أو في البلدان المهيمن عليها. والمسألة كلّها مرتبطة بقدرة الحزب الثوري على استيعاب الأوضاع في مختلف أبعادها المحلية والإقليمية والدولية لقراءة موازين القوى قراءة صحيحة وتحديد المهام المنجرة عن ذلك بكل دقة وموضوعية ولفّ أوسع القوى الاجتماعية والشعبية حولها. ومن هذا المنطلق يمكن الحديث عن جبهات تكتيكية كما يمكن الحديث عن جبهات استراتيجية.



•هل تشكل الايدولوجياب والبرامج السياسية والمشاريع المجتمعية، عائقا في عمليات بناء الجبهات من أجل تغيير الأوضاع القائمة؟


•الجبهات، سواء كانت، تكتيكية، ظرفية، أو مرحلية/استراتيجية، هي بطبيعتها تجمع بين طبقات أو فئات طبقية، تختلف بالضرورة في مصالحها ومن ثمة في مرجعياتها الأيديولوجية وفي تصوراتها المجتمعية، وبالتالي فإن المحدد في تحالفاتها هو أولا وقبل كل شيء الأهداف السياسية، المباشر منها أو الاستراتيجي، وذلك وفقا لنوعية التحالف الذي تقيمه بينها. وعلى هذا الأساس فإنّ من يحكّم العامل الأيديولوجي في رسم تحالفاته التكتيكية والمرحلية (مثلا أن تتطابق منطلقاتنا الأيديولوجية أو لا نتحالف)، فإنّه يحكم على نفسه بالانعزالية ولا يمكنه أن يحقّق الشعارات التي يتغنّى بها.

ففي حالة، كالحالة الفلسطينية مثلا، حيث المسألة الوطنية هي المهمة الرئيسية المطروحة للحسم، بل حيث التناقض الرئيسي يقابل بين الشعب الفلسطيني من جهة والعدو الصهيوني وزمرة العملاء المتواطئين معه من جهة أخرى، فإن المحدد في التحالف هو في المقام الأول الموقف من المهمة الوطنية التي يمكن أن تعني قوى مختلفة في منطلقاتها الفكرية وفي برامجها السياسية وتصوراتها المجتمعية، لكن تجمعها، بهذه الدرجة أو تلك، وإلى هذا الحدّ أو ذاك، مصلحة في التحرر من الاستعمار الصهيوني. وبالطبع فإن الالتقاء حول هذه المهمة الرئيسية لا يعني طمس الخلافات الأخرى التي تبقى قائمة ومحل صراع لكن دون أن تتحول إلى معرقل للتحالف حول المسألة الوطنية التي يبقى الموقف منها هو العامل الحاسم في استمرار التحالف أو انقطاعه.
أما في القضايا الظرفية، التكتيكية التي تفرضها موازين القوى، بل التي يفرضها الواقع على الحزب الثوري، والتي تكون فيها مصلحة، حتّى لو كانت جزئية، في لحظة محدّدة، لتقدّم قضية الطبقة العاملة والشعب، في هذا البلد أو ذاك، فإنّ المحدّد هو بالطبع الموقف من القضية موضوع الصراع، كالموقف من الحريات، أو من العفو العام، مثلا في نظام استبدادي. إن اشتراط الاتفاق، في مثل هذه الحالات، حول قضايا عامة، ذات طابع استراتيجي، أو مجتمعي، يعني في الواقع الخلط بين نوعين مختلفين من التحالفات، بل يعني أن الحزب المعني لا يرغب في تحقيق تقدّم تفرضه موازين القوى، وفيه مصلحة للطبقة العاملة وباقي الطبقات والفئات الشعبية.
ومن نافل القول إن الحزب الثوري الذي يعقد اتفاقات أو تحالفات تكتيكية مع قوى اجتماعية/سياسية تختلف معه في الفكر وفي البرامج السياسية العامة والتصورات المجتمعية، لا يتخلّى لا عن استقلاليته الفكرية ولا عن استقلاليته السياسية، كما أنه ليس مطالبا بالتوقف عن نقد تلك القوى. فقد يغيّر، خلال فترة التحالف أو الاتفاق، في شكل الصراع معها، كأن يخفّض من منسوب التشهير بها، أو يتعامل معها، حسب الأوضاع بأسلوب غير حدّي (non antagonique)، ولكنه لا يطمس أو يذوّب التناقضات بينه وبينها، حتّى لا يغالط الطبقة العاملة والطبقات والفئات الكادحة والشعبية فيذهب في ظنها أن الخلافات الجوهرية قد امّحت.
ولكن ثمة من يعترض على مثل هذه التحالفات التكتيكية أو الظرفية بذريعة أن الخصم سيستفيد منها بل ربما تكون استفادته منها أكبر من استفادة الحزب الثوري. وهذه الحجة/ الذريعة لا تستقيم، لأن ما من طرف يشارك في عمل جبهوي دون أن تكون له فيه مصلحة وإلاّ لكان استغنى عنه. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن موازين القوى هي التي تحكم حجم الاستفادة من أي عمل جبهوي. وحين يكون الحزب الثوري ضعيف الحجم، فإن ضعفه هذا لا يمكن أن يكون عائقا أمام انخراطه في العمل الجبهوي، لأن ذلك سيعزله ويضعفه أكثر، ولكن عليه أن يكون يقظا، وأن يحافظ على استقلاليته الفكرية والسياسية والتنظيمية وأن يعمل على الاستفادة أكثر ما يمكن من ذلك العمل، ويستغلّ نقاط قوته الفكرية والسياسية وتماسك مناضليه وحزمهم كي يحقق تلك الاستفادة ويؤهّل ذاته ليصبح قادرا على قيادة العمل الجبهوي بنفسه. كما عليه أن يراقب حليفه أو حلفاءه أثناء العمل المشترك، حتّى لا يقودوه إلى مآزق لا مصلحة له فيها، وهو ما يتطلّب منه في مثل هذه الحالة وضع حدّ للتحالف المعني.
أما حين يكون الحزب الثوري هو الطرف القوي في التحالف التكتيكي فإن واجبه هو أن يتحلّى بأكبر درجة من النضج وأن يبتعد عن كل نزعة سكتارية وعن كل غرور حتى لا ينفرط ذلك التحالف. وبشكل عام فإن من يدخل في تحالف تكتيكي، ظرفي، يفرضه عليه واقع موازين القوى، فإن عليه أن يعمل بجد لإنجاح ذلك التحالف، وإن لم ينجح في استغلاله على الوجه المطلوب لتقوية ذاته، فعليه أن يلوم نفسه لا الآخرين.



•لعب حزب العمال إبان انطلاق السيرورة الثورية من تونس ثم امتدادها إلى بلدان أخرى بالمنطقة، دورا كبيرا في لم مجموعة من القوى في “جبهة 14يناير” وبعدها الجبهةالشعبية. ماهي الدوافع الرئيسية لهذا المشروع السياسي؟ وما آفاق هذه التجربة المتميزة في المنطقة؟


•لقد واجهت القوى اليسارية والتقدمية في تونس الدكتاتورية في أيامها الأخيرة مشتتة الصفوف، مع علم أنّ معظمها، إذا استثنينا حزب العمال (حزب العمال الشيوعي التونسي سابقا) لم يكن مشكّلا في أحزاب سياسية بل كان أقرب إلى التيارات منه إلى التنظيمات المهيكلة والممركزة. وبعد الثورة تغيّر الوضع وسارعت تلك التيارات إلى التشكّل في أحزاب، وانطلقت بينها نقاشات من أجل توحيد صفوفها في جبهة واحد فنشأت “جبهة 14 جانفي/يناير”. ولكن الطابع المتسرّع لتكوين هذه الجبهة حكم عليها بالفشل في أول امتحان. فالنقاشات السياسية المتعلقة بتقييم الثورة التونسية وأهدافها ونتائجها الأولوية والقوى الطبقية الفاعلة فيها واتجاهات تطورها، كانت سطحية. لذلك فعندما ناورت القوى الليبرالية والإصلاحية و”الإخوانية” (حركة النهضة) لعرقلة المسار الثوري وأحدثت لذلك الغرض “هيئة وطنية” (الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة…) لإسناد حكومة اليمين القائمة والإعداد لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، انفرط العقد الذي يجمع “جبهة 14 جانفي/يناير”، فعارض بعضها تلك الهيئة، وانخرط فيها البعض الآخر. وكانت النتيجة أن تقدّمت القوى التقدمية إلى انتخابات 2011 مشتّتة، فكانت النتيجة سلبية للغاية إذ لم تحصل هذه القوى على غير 5 أو 6 مقاعد في المجلس الوطني التأسيسي.

إن هذه النتائج السلبية، التي كانت مرفقة بصعود اليمين “الإخواني” (حركة النهضة)، مثلت المنعرج في مسيرة القوى الماركسية والقومية، الثورية والتقدمية، التي فهمت أن لا بديل لها عن توحيد صفوفها لمواجهة قوى اليمين المضاد للثورة بجناحيه “الليبرالي الحداثوي” (حزب نداء تونس)، و”الإخواني” المحافظ (حركة النهضة) الماسك بالسلطة، وللحفاظ على المسار الثوري وتطويره من أجل تحقيق أهداف الثورة. فكان ميلاد “الجبهة الشعبية” في 7 أكتوبر2012. وإذا كانت الجبهة الشعبية قد حافظت على وجودها وحققت نتائج إيجابية، نسبيا، في الانتخابات التشريعية والرئاسية لعام 2014 (15 مقعدا في البرلمان والمرتبة الثالثة في الرئاسية)، رغم المصاعب الجمّة ورغم اغتيال مؤسسين بارزين من جملة مؤسسيها (الشهيدان شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي)، فإن ذلك يعود إلى نضج قيادات مكوناتها (8 أحزاب ومستقلون) التي بلورت أرضية سياسية مشتركة، وإلى قدرتها على معالجة الخلافات، وعلى التدعيم الدائم للمشترك والابتعاد عن المماحكات الأيدولوجية الفارغة. فالجبهات تبنى على البرامج السياسية ولا تحتكم إلى الأيديولوجي.
لقد خطت الجبهة الشعبية خطوات مهمة اليوم وهي تبذل جهدا كبيرا لبناء جبهات نقابية وشبابية ونسائية وثقافية، متحدّية النزعات السكتارية التي ما تزال موجودة لدى قواعد مختلف مكوّنات الجبهة الشعبية. وإنّه لتوجد اليوم فرصة كبيرة أمام الجبهة الشعبية، والحال أنّ ائتلاف “نداء تونس ـ حركة النهضة” أغرق البلاد في أزمة عامة وشاملة، لكي توسّع تأثيرها وتكسب ثقة الشعب وتلفّه حول برنامجها وتصل معه إلى الحكم لتنفيذ هذا البرنامج.



•سبق لكم في حزب العمال الشيوعي التونس (حزب العمال حاليا)، أن أسستم تجربة تنسيق أو عمل مشترك مع “حركة النهضة” الإسلامية في المجال الحقوقي، لمواجهة قمع واستبداد نظام بن علي، ما تقييمكم لهذه التجربة؟ خاصة أن حزب النهضة اليوم في الضفة الأخرى في صف القوى المضادة للثورة؟


•كان ذلك في عام 2005 وفي ظرف وصل فيه الاستبداد إلى أشدّه. فقد أحكم بن علي السيطرة على المجتمع بجهازه البوليسي وأخضع البيروقراطية النقابية واستمال المعارضة الليبرالية وحولها إلى مجرد ديكور، وكرّس جهده لمواجهة المعارضة الثورية والتقدمية وعلى رأسها حزب العمال الشيوعي التونسي، من جهة، والمعارضة “الإسلامية” وأساسا “حركة النهضة” من جهة أخرى، وكذلك الحركة الاجتماعية. وقد وصل القمع السياسي إلى درجة أصبح معها تنظيم اجتماع أو تجمّع صغير بالشارع أو حتى التقاء بمقهى أو التنقل من مدينة إلى مدينة (بالنسبة إلى المناضلين) أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا. وكانت الدكتاتورية تستغل في مثل هذا الوضع التنافر الأيديولوجي والسياسي القائم بين قوى اليسار بمعناه العام والحركة “الإسلامية” لتحكم سيطرتها على المشهد السياسي.

لذلك وانطلاقا من هذا الوضع الخانق تم الاتجاه، بعد الإضراب عن الطعام الشهير في أكتوبر 2005 بمناسبة قمة المعلومات الدولية، نحو تكوين “ائتلاف 18 أكتوبر
للحقوق والحريات” الذي ضم أحزابا يسارية وتقدمية وقومية و”إسلامية” (حركة النهضة). وقد تم تكوين هذا الائتلاف على قاعدة حقوقية وهي العمل من أجل فرض العفو التشريعي العام وحرية التعبير والصحافة وحرية التنظم، وهي مطالب تلتقي حولها كل القوى المشاركة في الائتلاف ولها وللشعب التونسي فيها مصلحة. وإلى جانب هذا الائتلاف تم بعث “منتدى 18 أكتوبر” بهدف الخوض في القضايا الجوهرية التي تمثل محاور اختلاف بين القوى الديمقراطية والتقدمية وبين “حركة النهضة”، مثل قضية المرأة وحرية المعتقد الخ…
لقد كان لهذه التجربة التي امتدت على خمس سنوات أثرا مهما في الساحة السياسية وفي مسار تطور الصراع الطبقي في تونس الذي سيفضي إلى ثورة 17 ديسمبر 2010 ـ 14 جانفي 2011. فقد “حرم” هذا الائتلاف بن علي من ورقة ظل يستفيد منها لمدة طويلة. كما أن هذا الائتلاف الذي انبنى على مطالب واضحة التزم “الإسلاميون” وقتها بالدفاع عنها، ساعد على تجاوز الانقسام الأيديولوجي الحاد (clivage idéologique) “يساريون ـ إسلاميون”، وبروز المحاور الأساسية للصراع مع الدكتاتورية ومن بينها محور الحريات والمحور الاجتماعي، مما ساعد على تطوّر الحركة الديمقراطية والاجتماعية بعيدا عن التجاذب الأيديولوجي التقليدي (يسار/إسلاميون) الذي قسّم الحركة في أكثر من مستوى، وعلى تهيئة الأرضية الملائمة لاندلاع “ثورة الكرامة”. ولا بدّ من ملاحظة أنّ قيادات “حركة النهضة” لئن قبلت بشروط العمل المشترك فلأنها كانت مضطرة إلى ذلك. ولكن القوى اليسارية والتقدمية لم تكن بدورها أقل اضطرارا إلى قبول هذا الائتلاف، وإن كانت في وضع سمح لها بفرض رؤيتها لذلك العمل المشترك (أو التقاطع كان يسمّى آنذاك) ولم تقدّم أي تنازل يمسّ الحريات الدنيا التي شكلت أساسا لهذا العمل.
وأخيرا وليس آخرا فقد ساهم “منتدى 188 أكتوبر” في بلورة حدّ أدنى ديمقراطي للتعاطي مع المسألة النسائية والمسألة الدينية وغيرهما من القضايا الديمقراطية العامة. وقد ساهم ذلك كله في تعبيد الطريق نحو الثورة التي ستنطلق شرارتها في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 والتي ستؤدّي إلى سقوط الدكتاتورية يوم 14 جانفي 2011 وتفتح مسارا ما يزال متواصلا حتى اليوم. وبسقوط الدكتاتورية سينشأ بالطبع وضع مختلف عن الوضع السابق. فقد تحقّق مطلب الحريات والعفو لتشريعي العام وظهر على السطح مشهد سياسي جديد، مختلف عن المشهد الذي كان سائدا قبل الثورة، مشهد تغيّرت فيه مواقع القوى السياسية كما تغيّرت التحالفات.إن ثلاثة أحزاب من أحزاب “ائتلاف 18 أكتوبر” وهي “حركة النهضة” و”حزب المؤتمر” والتكتل الديمقراطي” أصبحت في الحكم، وأدارت ظهرها لثورة الشعب وأصبحت تضطهده. وبالمقابل فإن حزب العمال وغيره من القوى الديمقراطية والتقدمية التي ناضلت جنبا إلى جنب في “هيئة 18 أكتوبر” ظلّا متمسّكين بالثورة وبمطالبها وتموقعا في معارضة “الترويكا” وأصبحا في صراع واضح معها، ولم تعد تربطهما أية علاقة.
ولكن هل أنّ الحالة الحاصلة بعد الثورة يمكن اعتمادها لاعتبار “ائتلاف 188 أكتوبر” خاطئا كما يذهب إلى ذلك البعض؟ بالطبع لا، فوضع ما قبل الثورة شيء وما بعدها شيء آخر، وكلاهما يقتضي تكتيكا خاصا. إنّ ما كان صالحا أيام بن علي لم يعد صالحا بعد الثورة التي تحقّقت فيها الحرية السياسية وتغيّرت فيها مواقع الأحزاب وتحالفاتها. إن التحالفات التكتيكية التي يفرضها وضع معيّن لتحقيق هدف محدّد فيه مصلحة للحركة تنتهي بتحقيق ذلك الهدف، مع علم أن الصراع مع “حركة النهضة” حول القضايا الأساسية الخلافية لم يتوقف وهي في “ائتلاف 18 أكتوبر”، بل استمرّ داخل الائتلاف (منتدى 18 أكتوبر) وخارجه. إن الشيء الوحيد الذي تغيّر هو في مستوى الشكل. لقد تمّ الاتفاق على مواصلة الصراع بشكل “عميق” و”واضح” و”صريح”، ولكن بـ «هدوء” ودون تشهير.



•بعد الثورة وفي لحظة ما في عام 2013 دعت الجبهة الشعبية في ندوتها الوطنية الثانية إلى بعث “جبهة إنقاذ” لموجهة ما أسميتموه وقتها بـ “الفاشية الزاحفة” زمن حكم الترويكا بقيادة “حركة النهضة” الإخوانية. وقد ضمّت هذه الجبهة من بينها قوى ليبرالية وتحديدا حزب “نداء تونس”. فهل لكم أن تسلّطوا الضوء على هذه التجربة؟ وكيف تقيّمونها اليوم؟


•لقد مرّت تونس في سنوات حكم الترويكا بقيادة “حركة النهضة” (2011 ـ 2013) بظروف صعبة للغاية. لقد حاول “الإخوان” الالتفاف على المسار الثوري عبر فرض نمط مجتمعي رجعي، استبدادي، بغلاف ديني، مستغلّين فوزهم في انتخابات 2011 وفوز بعض فروع “الإخوان” في بلدان عربية أخرى وسعوا إلى تكريس ذلك عبر انتهاج العنف والقمع ضد الأحزاب الثورية والديمقراطية وحتى ضد الأحزاب الليبرالية، وكذلك ضد الحركة النقابية والإعلاميين والمثقفين والنساء والشباب وضد الحركات الاجتماعية. وقد استعمل لهذا الغرض جهاز البوليس الرسمي. كما استعملت ميليشيات (رابطات حماية الثورة الإجرامية) مرتبطة بحركة النهضة وحليفها في الحكم، حزب المؤتمر (حزب الرئيس المرزوقي). وقد أدى تواطؤ “الإخوان” مع القوى السلفية الوهابية وغضّ الطرف عن أنشطتها واستعداداتها الإرهابية، إلى اغتيال زعيمين مؤسسين للجبهة الشعبية، شكري بلعيد والحاج البراهمي، وإلى سحل أحد مسئولي حزب نداء تونس في الجنوب وقتله علاوة على اغتيال العشرات من الجنود وأعوان الأمن. وقد عملت “حركة النهضة ” الحاكمة على التستّر في أكثر من مستوى على هذه الجرائم.

أمام الخطر الفاشستي الزاحف الذي أصبح يهدد الأخضر واليابس ويستهدف كل القوى المدنية والديمقراطية، بيسارييها وقومييها وليبرالييها، بأحزابها ومنظماتها المدنية، بشبابها ونسائها ومثقفيها ومبدعيها، دعت الجبهة الشعبية انطلاقا من شهر ماي 2013 إلى بعث “جبهة إنقاذ” يكون هدفها التصدي لهذا الخطر وإيقافه وبشكل ملموس إسقاط الدستور الجديد الذي أعدته الأغلبية بالمجلس الوطني التأسيسي والذي تضمن بنودا تمهّد لإقامة استبداد بغطاء ديني وإسقاط حكومة الترويكا وتعويضها بحكومة انتقالية جديدة تعدّ للانتخابات التشريعية والرئاسية، علاوة على كشف الحقيقة في الاغتيالات السياسية ومحاسبة المجرمين.
لقد كانت هذه المطالب تعني فئات واسعة من المجتمع بما فيها قطاعات من البورجوازية. كما كانت تعني غالبية القوى السياسية والمدنية بما فيها القوى الليبرالية التي أصبحت عاجزة، نتيجة هجمات الميليشيات، حتى عن عقد اجتماعاتها. وقد تشكلت “جبهة الإنقاذ” وأصبحت واقعا بعد اغتيال الشهيد الحاج محمد البراهمي في شهر جويلية 2013، وأطلقت حركة واسعة في كافة أنحاء البلاد جسّدها اعتصام الرحيل الذي ضم مئات الآلاف من النساء والرجال. وكانت النتيجة أن رضخت الترويكا للتفاوض في إطار ما سمي “الحوار الوطني” وتمت مراجعة الدستور وإكسابه طابعا ديمقراطيا تقدميا كما تم إسقاط الحكومة وتعويضها بأخرى، مكونة من شخصيات غير حزبية ولا يمكنها الترشح في الانتخابات.
لقد كانت تجربة “جبهة الإنقاذ” التي انتهت بتحقيق المهمات التي تأسّست من أجلها، تجربة في غاية الأهمية، جمّعت غالبية القوى السياسية والمدنية التي يهدّدها الزحف الفاشستي، ومكّنتها من تحقيق انتصار مهمّ ومن تجنيب تونس انقلابا “إخوانيا” يجهض المسار الثوري ويلتف على أهم مكسب تحقق خلاله وهو الحرية السياسية. وبطبيعة الحال فقد تغيّرت الأمور بعد ذلك. جاءت انتخابات 2014 وحصل “حزب نداء تونس” على المرتبة الأولى و”حركة النهضة” على المرتبة الثانية وأبرما، تحت ضغط صندوق النقد الدولي وبعض البلدان الغربية، تحالفا عمّق أزمة الحكم وبيّن عجز مكوناته عن حلّ مشاكل تونس وشعبها.
ولكن هذا الوضع لا يجعلنا بأي شكل من الأشكال نراجع موقفنا من “جبهة الإنقاذ”، فقد مثلت في ظرفيتها تكتيكا صحيحا، استفادت منه الحركة الشعبية والقوى الثورية والديمقراطية التي كانت مهددة في وجودها كما استفادت منه الحريات التي كانت مهددة بالتصفية. لقد كانت جبهة الإنقاذ استجابة لوضع ملموس محدد وانتهت بتجاوز ذلك الوضع. أما ما حصل بعد ذلك فهو يقتضي سلوكا تكتيكيا جديدا. فالجبهة الشعبية تواجه اليوم الائتلاف اليميني بشقيه وهي تعبّئ الطبقات والفئات الكادحة من أجل هزمه.



•تفضلتم بالحضور في المؤتمر الرابع للنهج الديمقراطي، وتتبعتم النقاش الحار حول إمكانات التنسيق الميداني مع القوى المناهضة للمخزن بما في ذلك تنظيمات من الحركة الإسلامية. وقد خلص المؤتمر إلى اعتماد العمل بالجبهات من أجل التغيير من خلال جبهة ديمقراطية تضم قوى اليسار ومنظمات مدنية ديمقراطية ومن خلال أيضا جبهة ميدانية للنضال ضد المخزن ومن أجل بناء الدولة الديمقراطية. كيف تنظرون إلى هذه العملية؟


•لقد حضرت المؤتمر الرابع للنهج الديمقراطي الذي طرح عدة مسائل تكتيكية، منها العمل على تكوين جبهة ديمقراطية تضم قوى اليسار ومنظمات مدنية ديمقراطية، ومنها العمل على بعث جبهة ميدانية للنضال ضد المخزن الخ… وقد توفّرت لي فرصة الكلام مع المؤتمرين لكي أدعم هذا التوجه الذي يعبّر عن نضج سياسي. فالوضع في المغرب صعب ومعقّد ولا يوجد أيّ مبرّر لتواصل تشتّت القوى الديمقراطية والتقدمية التي من شأن تشكّلها في جبهة أن يساعد على توحيد قطاعات واسعة من الشعب. ولا يمكن تشكيل مثل هذه الجبهة دون التخلّص من النزعات السكتارية التي رافقت تاريخ اليسار المغربي (والتونسي أيضا قبل تأسيس الجبهة) ودون التركيز على ما يوحّد قبل التركيز على ما يفرّق. إن العمل الجبهوي لا غنى عنه في أوضاع النضال ضد الاستبداد والاستغلال والفساد

أمّا في خصوص العمل الميداني مع قوى غير يسارية، ليبرالية أو “إسلامية”، متضرّرة من الاستبداد ولها مصلحة في الحرية السياسية، فلا بدّ من إخضاعه لمتطلّبات الوضع، فكلّما اقتضى الوضع مثل هذا العمل وكانت فيه فائدة لتطوير النضال الشعبي من أجل تحقيق الديمقراطية، لا ينبغي، في رأيي التردّد، في القيام به. وهو أحببنا أم كرهنا يكرّس صيغة من صيغ التحالف أو العمل المشترك حتى وإن كان ظرفيا بل حتى وإن كان “ميدانيا”. إن الثوريين لا ينبغي أن يخافوا أو يتحرّجوا من أي موقف يتخذونه إذا كان يستجيب لحالة محدّدة، بل على العكس من ذلك، فإن الوضوح هو الذي يساعد على تطوير وعي الطبقة العاملة والكادحين ويجنّبهم الاضطراب والغموض والخلط.



•من تجارب عالمية لاحظنا رغم النضالات الكبيرة وحضور اليسار القوي في عمقها وتأطيرها، وبالرغم من تقدمها لا تخلص إلى الأهداف التي انطلقت من أجلها (اليونان، اسبانيا، بلدان من أمريكا اللاتينية…) هل يمكن أن يكون غياب الحزب السياسي المعبر عن الطبقة العاملة وعموم الكادحين أحد أسباب ذلك؟


•فعلا غياب الحزب السياسي الثوري المعبّر عن الطبقة العاملة وعموم الكادحين، والمسلح ببرنامج واستراتيجيا وتكتيك ثوريين، هو الغائب عن كل تلك التجارب.

لا ففي أمريكا اللاتينية وصلت إلى الحكم، عن طريق الانتخاب، قوى وطنية، معادية للامبريالية، وقد حاولت ما في وسعها القيام بإصلاحات لفائدة الشعب. لكن هذه الإصلاحات ظلّت محدودة ولم تحدث تغييرا في العمق، في مستوى الدولة والاقتصاد والاجتماع. لقد ظلّت سلطة البورجوازية الكبيرة العميلة قوية في كافة المستويات وهي مسنودة من الامبريالية الأمريكية. وعملت بكل ما في وسعها لتخريب تلك الإصلاحات، وتمكّنت، بمساعدة الرأسمال الاحتكاري الأمريكي من القيام بانقلابات “دستورية”، في بعض البلدان مثل البرازيل وفنزويلا الخ…
تلك هي حدود ما يمكن أن نسميه “الإصلاحية الوطنية” التي قادتها قوى بورجوازية وبورجوازية صغيرة تقدمية في أمريكا اللاتينية.
نفس الشيء يمكن قوله بصدد التجربة اليونانية، فقد أظهرت حدود الإصلاحية البورجوازية الصغيرة، فـ”سيريزا” التي كسبت الانتخابات لئن تمكنت من الحكومة فإن الحكم الفعلي الاقتصادي والمالي والسياسي ظلّ بيد البورجوازية الكبيرة المسنودة من البورجوازية الاحتكارية الأوربية التي استغلت تردد حكومة “سيريزا” وعدم استعدادها للقطع مع “اتحاد” الاحتكارات الكبرى ومؤسساتها المالية النهابة للضغط عليها وإخضاعها لنيرها وحرمان الشعب اليوناني وطبقاته الكادحة والفقيرة من فرصة للخلاص.
وفي كلمة فإن ما جرى في أمريكا اللاتينية وفي اليونان (وما يمكن أن يجرى في إسبانيا مع بوديموس) يؤكّد مرة أخرى حدود النهج الإصلاحي مهما كان متجذّرا كما يؤكّد أن لا بديل للنهج الثوري. ولكن هل أن ذلك يعني أن الحزب الثوري لا يشارك في الانتخابات أو أنه يرفض استلام الحكم إذا فاز فيها بدعوى أنه يريد الثورة لا الإصلاح؟ بالطبع لا. فإذا حصل الحزب أو الجبهة على أغلبية برلمانية تمكّنه من تشكيل الحكومة فعليه ألاّ يتردّد. ولكن المشكلة كلها هي ما سيفعله بالحكومة. هل أنه سيحصر نفسه في الإطار الإصلاحي الضيق ويتحول إلى مجرد أداة لتصريف أعمال كبار البورجوازيين، أم أنه سيستغل الحكم لتعميق المسار الثوري واتخاذ الإجراءات الضرورية لذلك وتعبئة الطبقة العاملة والطبقات والفئات الكادحة والشعبية والفئات الوسطى المفقرة باستمرار لوضع حدّ لسيطرة كبار البورجوازيين العملاء والمعادين للشعب وإحداث انقلاب في العلاقات الاجتماعية السائدة؟
هذا هو السؤال الحقيقي. إن الحزب الثوري لا يخشى المشاركة في الانتخابات إذا توفرت شروط المشاركة وهو لا يخشى أخذ مقاليد الحكومة إذا فاز فيها ولكنه سيستغل هذا الفوز للسير بالعمال والكادحين نحو تحقيق طموحاتهم.



•من خلال تجربتكم النضالية ومن خلال معرفتكم بالوضع العام في المغرب وشعوب المنطقة، ودور اليسار في المرحلة، هل لكم أن تتقدموا بنداء إلى هذا اليسار؟ا


•اتّحدوا، اتّحدوا، اتّحدوا، وكفّوا عن الصراعات الهامشية التي لا تنفع وسخّروا وقتكم للانغراس وللنشاط صلب الجماهير للارتقاء بوعيها وتنظيم صفوفها وتوحيدها في جبهة صمّاء والسير بها نحو تغيير واقعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.

إن القوى الرجعية أوعى منّا، أحيانا، بالمصالح التي تدافع عنها لذلك فهي تتنازل، بعضها لبعض، وتقدّم الأهم على المهمّ وتتّحد في مواجهة الشعب والقوى السياسية والاجتماعية التي تعارضها. أما نحن فإننا كثيرا ما نجعل من “الحبّة والقبّة”، ونخلط بين التناقضات ونبحث عن الخلاف أكثر مما نبحث عن الوحدة ولا نقرأ موازين القوى القراءة الصحيحة ولا نغوص في الحالة الذهنية للجماهير ولا نقدّر استعداداتها التقدير الصحيح ولا نبذل الجهد المطلوب للالتحام بها.
إن خلاصنا يكمن في الالتحام بالعمال والكادحين وفي إقناعهم بأننا لسنا مجرّد “فرقة عقائدية” منغلقة على نفسها ومعزولة، بل قوة سياسية قادرة على إعادة تنظيم مجتمعاتنا وبلداننا على أسس جديدة ديمقراطية واجتماعية تضع حدّا لقرون من المهانة والغبن والقهر.