الفن والرأسمالية


راجي مهدي
2017 / 3 / 31 - 09:26     

يثير فيلم " Bridge Of Spies" للممثل توم هانكس والمخرج ستيفن سبيلبيرج عدة تساؤلات أردت مناقشتها. التساؤلات لا تخص قصة الفيلم في حد ذاته، لكنها تخص صناعة الفن في زمن الرأسمالية.
اعتادت السينما الأمريكية في تناولها للحرب الباردة والصراع السوفييتي الأمريكي، علي تقديم المواطنين والمسؤولين السوفييت في هيئة منفرة. كائنات جامدة، شاحبة اللون، قليلة الحيلة والذكاء بالمقارنة بالأمريكي الوسيم الذي ينضح وجهه بالحيوية ويتسم سلوكه بالذكاء والمقدرة الفائقة. كما يتم تصوير الحياة في الكتلة الشرقية باعتبار أنها بؤس أبدي، يقابله رخاء لا ينقطع في العالم الرأسمالي. تلك المفارقات المخلة بالمنطق غرضها واحد وهو ايصال رسالة لكل من يشاهدون هذا النوع من الأعمال: الرأسمالية جنة الشعوب.
تعاني صناعة السينما من الاحتكار، فرأسمالية المنافسة الحرة انتهت، وبالتالي فإن رأس المال العامل في حقل الصناعة يتسم بالتمركز الشديد. فمؤسسات "Time Warner" و "Universal" و"Walt Disney" تسيطر علي الغالبية العظمي من الميديا في الولايات المتحدة، و في العالم. تلك المؤسسات لا تدور في فلك يخصها، انها تمهد الأرض أمام الجيوش الرأسمالية، الجيوش العسكرية والمالية.
هنا يبرز التساؤل: الفن للفن أم الفن للناس؟ أليس الفن منتجا بشريا؟ أنت تشعر بشيء ما فتحوله إلي قصيدة مثلا أو مربع شعري .تفكر بقضية ما فتعرضها في صورة قصة قصيرة أو رواية. تلك هي نقطة البدء، لكن ما المغزى من تلك الطريقة من التعبير؟ هل هي الفن لذاته وفي ذاته؟ هذا ينقلنا الي قضية أخري: قضية الشكل والمضمون في العمل الفني. النظرية البرجوازية لا تهتم بالمضمون، هي ترفع لواء الفن لذاته. لا يهم ما الرسالة التي يقولها الفيلم، الأهم هو منطقية السيناريو، روعة التصوير، عبقرية المونتاج، الأداء الخرافي لهذا الممثل أو ذاك. وعلي نفس الطريق، ليس مهما ماذا تناقش القصيدة، الأهم هو بناء القصيدة نفسه، ثم يتحول الأمر الي أن معالم القصيدة، شكل القصيدة يضيع.
الأصل في الإبداع البشري، هو وجود موضوع، مضمون يتم التعبير عنه بالأشكال المختلفة للإبداع. هذا هو المعيار الأول للنظر في كل نشاط بشري، ما مضمونه؟ فالفيلم المشار اليه يقدم الرسالة التي أرادها مخرجه ستيفن سبيلبرج في شكل فني جذاب، جو من الدراما والإثارة الذي يخطف عقل المشاهد ويخدر احساسه، مع جودة ممثل ك توم هانكس، قد تجد نفسك مخدراً وأسيرا للرسالة التي تريد الاحتكارات الأمريكية دسها في عقلك ان لم تكن فطناً. فطناً للمضمون الذي يحتويه الفيلم.
ما ينطبق علي الفيلم ينطبق علي أبسط شكل من أشكال الإبداع، هم يقولون الفن للفن، لكنها كذبة، لأنهم ينتجون أفلاما بمليارات الدولارات لأجل تمديد سيطرتهم علي العالم. القصيدة تحمل الفكرة أسرع من المقال. الفيلم يحمل الفكرة بشكل اكثر فاعلية من الخطاب المباشر.
هنا تجد نفسك أسيرا لسؤال هم فقط يعلمون إجابته: لماذا لا يتم تدريس قصائد أمل دنقل و بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وغيرهم من رجالات الشعر الحر في مراحل التعليم المختلفة؟ لماذا أغرقونا في هجاء جرير للفرزدق، و رد الفرزدق علي جرير؟ لماذا قدموا لنا المتنبي، وأهملوا أمل دنقل؟ لماذا حضر أحمد شوقي و تم تغييب السياب؟. هي ليست صدفة. فبماذا ستنفعنا بلاغة المتنبي اذا لم ندرك ما نقوله في أسباب مآسينا الحاضرة.
الفن لا يمكنه أن يكون لذاته وفي ذاته؟ ففي هذا الكون، لا يوجد شئ خارج دائرة التأثير والتأثر. والفن كأحد أوجه النشاط البشري، يتأثر بموقف هذا الإنسان أو ذاك كما أنه يؤثر فيه. ألم تكن الأغنية الثورية علي سبيل المثال طوال تاريخها أحد أشكال النشاط التحريضي. لكن المطلوب هو ألا توجد أغنية ثورية من الأساس. المطلوب أن تنتهي مشاريع فنية عظيمة ك "علي الحجار" حتي قبل أن تري النور. المطلوب هو أن يسود كل ما هو هابط ويطلق عليه فناً. أليس الفن للفن؟ المطلوب أن تجد البرجوازية عقول ضحاياها ممهدة للتخريب، وحياتهم ممهدة للإفساد. المطلوب ألا تسمع جيوش الفقراء أحد الشعراء المارقين وهو يكتب ومن ورائه مطرب ضرير يغني " الكلمة الصادقة بتتحول وبتنزل ع الظالم دانة ". هذا النوع من الفن التحريضي يؤرق البرجوازيون، البرجوازية تروج لنمط " السح الدح إمبو " و "أركب الحنطور " كتعبير عن تشكيلة اجتماعية في طور التعفن. كما كان من المنطقي تماما أن تظهر أفلام المقاولات في مصر بالتوازي مع الإنفتاح. والجدير بالذكر أن هذا النوع من الأعمال يتم نعتها بالأعمال الفنية. لأنه من وجهة النظر البرجوازية، هناك لحن ومطرب وكلمات مقفاة للأغنية، اكتملت العناصر الواجب توافرها في الأغنية. الفن للفن حتي لو كتب أحدهم قصيدة لا يستطع خالد الذكر " شامبليون " فك طلاسمها. و علي الأرجح لا يستطيع أحد فك طلاسمها سوي كاتبها، هذا إن استطاع.
في المرحلة الأخيرة من حياته، توجه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش نحو نوع من القصائد، مغرق في الترميز، كانت تكليلا منطقيا لمسيرة وطنية بدأت بالمجد أنتج خلالها أفضل أعماله قبل أن تبتلعه أروقة منظمة التحرير بعد الخروج الشهير من بيروت. هناك حقيقة لا يمكن إنكارها: محمود درويش امتلك أدوات الشعر حقا. كان قادرا علي التعبير عن أعقد المضامين من خلال القصيدة. وكانت قصيدته خطابا مفتوحا الي الشعب الفلسطيني المنكوب بكل فئاته، المثقفين والمقاتلين والشغيلة. هذا قبل أن يغويه شعار الفن للفن، ويتجه لتسويد مئات الأوراق بطلاسم لا تخص قضية شعبه.
القضية؟ هي كلمة ضخمة؟ يمكنك استبدالها بالرسالة، القيمة، الفكرة، الأساس الموضوعي للعمل الفني. وليست الرسالة أو الفكرة سياسية بالضرورة، قد تكون عاطفية، اجتماعية. تكون ما تكون، لكنها يجب أن تخص قطاعا ما من البشر. يجب أن تكون هناك فكرة. ويجب أن لا تكون تلك الفكرة شخصية تخص فقط الحياة الذاتية لصاحبها. العمل الفني الذي لا يحتوي علي فكرة جدير بالإزدراء. لأن من يقدم لك عملا فنيا دون أن يضمنه موضوعا، يقصد تمييع الوعي الجمعي وتزييفه وتشويهه. يقصد الانحطاط بالذوق العام.
إذن في العمل الفني فتش عن الفكرة، هل هي ذاتية بمعني أن الموضوع لا يقتصر علي صاحبه فحسب، والا فلا موضوع من الأساس. ثم قيم الفكرة من حيث منطقها، ومنطقية الأفكار تنبع من كونها تعبر عني وعن موقعي في الحياة. والموقع اجتماعي أساسا. فالفقير الذي يكتب عن معاناته العاطفية مع حبيبته، ليس كالبرجوازي حين يكتب عن نفس الموضوع.
هنا نعود الي رسالة الفيلم المذكور في أول المقال كمثال فقط : الرأسمالية جنة الشعوب. الرأسمالي يدعم تلك الرسالة، لأنها تدعم وجوده. أما ضحية الرأسمالية فسوف يجد أن هذا الفيلم موجه ضده بالذات، وغرضه تدليس وعي كل من تخرب الرأسمالية حياتهم وتستعبدهم وتنهبهم. الفن جزء لا يتجزأ من الصراع الاجتماعي.