امراض اليسار العربي اصابت اليسار الفلسطيني !


حافظ عليوي
2017 / 3 / 24 - 22:36     

ان ماحدث مع اليسار الفلسطيني في اعقاب اتفاق اوسلو كان تعبيرا عن الخلل البرنامجي الوارد في وثائقه التحليلية التحذيرية . ففي المرحلة الاولى التي اعقبت اتفاق اوسلو ، شنت الاحزاب اليسارية حملة واسعة لمقاطعة اوسلو والسلطة الفلسطينية ، وكان هدفها انقاذ القيادة البرجوازية من شرك اوسلو واعادتها للخندق الوطني . ولكن بعد فشلها الذريع بتحقيق هذا الهدف ، قررت الاعتراف باوسلو امرا واقعا ، وبدأت تدعو للوحدة الوطنية ، ولكن هذه المرة على اساس " تجاوز اوسلو " . وبدل محاربة السلطة البرجوازية الساعية للانخراط في المخطط الاستعماري وعزلها عن الجماهير ، بذل اليسار الفلسطيني جهوده في البحث عن قواسم وطنية مشتركة معها . هذا مع ان البرجوازية لم تلتزم يوما بهذه القواسم ، بل كانت بالنسبة لها مجرد وسيلة للتغطية على استسلامها للعدو ، وبالتالي إحكام سيطرتها على الجماهير .
الوحدة الوطنية بين كافة طبقات الشعب خدمت مصالح البرجوازية ، وعرقلت امكانية اليسار تطبيق مهمته الاستراتيجية وطرح نفسه بديلا للبرجوازية الفاسدة .
ان النزعات اليمينية في اليسار العربي التي انتقدها اليسار بشدة في وثيقة الجبهة الديمقراطية التي وقع فيها خلل برنامجي جوهري في تشخيص طبيعة التحالف الوطني المطلوب ، فبدل ان تعتبر الوثيقة الطبقة العاملة والفلاحين عناصر التحالف الوطني العريض ، فقد حددت " ان البرجوازية يمكن وينبغي ان تبقى جزءا من التحالف الوطني، هنا قد اصابتها هي ايضا الآن .
تقول الجبهة في وثيقتها : " ان الافكار والنظريات اليمينية والسياسات الذليلة في العلاقة مع البرجوازية الوطنية واسس التحالف معها ، وفي فهم دورها في الثورة الوطنية الديمقراطية ، شكلت على امتداد الفترة الماضية احدى العقبات الرئيسية على طريق اضطلاع الطبقة العاملة بدورها القيادي في حركة التحرر الوطني العربية ، واضعفت جناحها اليساري . انها عطلت انخراط احزاب الطبقة العاملة في نضال منهجي ودؤوب من اجل كسب الالتفاف الجماهيري حول سياساتها وبرامجها ، كبديل للنهج المتذبذب الذي سلكته القيادة البرجوازية ، ومن اجل احداث تغيير تراكمي في نسبة القوى الطبقية داخل الحركة الوطنية ، بما يسمح بتصدي الطبقة العاملة ، واليسار عموما ، لمهمة قيادتها .
" والاكثر من ذلك ان هذه الافكار والنظريات قد قادت الى ضياع عدد من الفرص الثمينة التي توفرت فيها فعلا موازين قوى تسمح بتقدم الطبقة العاملة لاحتلال موقعها القيادي ، والى الإحجام بقرار ذاتي عن المبادرة لارتياد الآفاق التي فتحتها تلك الفرص " . ( التقرير النظري الذي صدر عن المؤتمر الوطني الثاني للجبهة الديمقراطية عام 1981 ، في كتاب بعنوان " حركة التحرر الوطني في مواجهة التحالف الامبريالي - الصهيوني الرجعي " . )

فعلا ، كانت هناك فرص ثمينة ضاعت ، مثل الانتفاضة المجيدة (الانتفاضة الاولى) في المناطق المحتلة ، والتي كان للجبهة الديمقراطية الدور الريادي في تفجيرها من خلال اول بيان للقيادة الوطنية الموحدة . ولكنها بدل ان تستغل الفرصة التاريخية لشق طريقها المستقل في قيادة الشعب الفلسطيني وعزل البرجوازية الفلسطينية ، استمرت الجبهة بالتزامها المطلق بالوحدة الوطنية مع حركة فتح ، حتى بعد اعلان عرفات تنازله عن الميثاق الوطني وبدء الحوار مع امريكا .
وسرعان ما تحولت القيادة الموحدة للانتفاضة الى اداة بيد البرجوازية الفاسدة في تونس ، استخدمتها لتحدقيق اهدافها الطبقية الخاصة ، على حساب الطبقة العاملة الفلسطينية والجماهير اللاجئة .
ان البرهان على فشل السياسة التي اتبعتها اليسار الفلسطيني هو الانشقاق العميق الذي وقع في صفوف الجبهة الديمقراطية في اواخر عام 1988 . وكانت هذه عبارة عن الثمن الذي دفعته على تسليمها مقاليد الانتفاضة لعرفات بدل عزل نفوذه بين الجماهير ، فمكّنته بذلك من ضربها واحداث انشقاق عميق داخلها .
ان المفارقة التاريخية هي ان الانتفاضة التي تعتبر اكبر انفجار ثوري قام به الشعب الفلسطيني في تاريخه ، والتي كان المفروض ان تكون القاعدة لتنبؤ حزب الطبقة العاملة مركزه القيادي في حركة التحرر ، تحولت الى حافز للانشقاق الداخلي وبداية النهاية لنفوذ اليسار بين الجماهير .
فرصة اخرى انتفاضة الاقصى ، والتي كان لليسار الفلسطيني الدور الابرز في صياغتها ، ولكن سرعان ما فقد فرصته والتف حول شعار الوحدة الوطنية مع حركة فتح.
يعود السبب الرئيسي لهذا التراجع الى موقف اليسار المائع من البرجوازية ، والذي افسح المجال واسعا لتغلغل الموقف البرجوازي الاستسلامي حتى وصل الى اعلى هيئاته القيادية ، ودفع بالكثير من كوادره القيادية الى معسكر عرفات .
ولا يمكن بالطبع تجاهل الظروف الموضوعية التي ساعدت البرجوازية في نشر نفوذها بين الجماهير وفي صفوف اليسار .
ان النفوذ الكبير الذي كان لهذه العناصر داخل اليسار لم يكن وليد الصدفة ، ولا تشكل بين ليلة وضحاها ، بل جاء بفعل سنوات طويلة من تعاون اليسار المطلق مع البرجوازية الوطنية الفلسطينية في اطار منظمة التحرير الفلسطينية . وفي حين كان اليسار غارفا في اعتقاده الوهمي بان البرجوازية الفلسطينية لايمكن ان تخون برنامجها الوطني ، كانت البرجوازية منهمكة بالتخطيط لشق اليسار حفاظا على موقعها القيادي .
يمكن الاستنتاج بان مهمة اليسار الاستراتيجية التي تدعو الى تولي الطبقة العاملة قيادة حركة التحرر الوطني بالتعاون مع البرجوازية الوطنية ، كانت في الحقيقة محاولة للتهرب من مواجهة هذه البرجوازية . ان اغتيالات قادة بارزين في منظمة التحرير الفلسطينية اثناء الثورة ، والنظام القمعي الذي اسسته السلطة الفلسطينية لاحقا في المناطق المحتلة بالتعاون مع اسرائيل بعد اوسلو ، تبطل اية امكانية لبناء حركة تحرر مشتركة بين الطبقة العاملة والبرجوازية الخائنة التي لا تختلف بطبيعتها عن البرجوازية العربية .
والسؤال اليوم بعد ان انتقلت البرجوازية الفلسطينية الى خندق العدو كغيرها من الانظمة العربية ، اين يقف اليسار الفلسطيني وماهو برنامجه الاستراتيجي ؟
وهل مازال متمسكا بمهمته الرئيسية المتعلقة بقيادة حركة التحرر ؟
ويبدو ان هذه الاسئلة لا تستوقف اليسار اصلا ، وكل ما كان يفعله هو الانهماك في لقاءات الحوار الوطني مع السلطة لاقنعها بالتراجع عن التزامها باتفاقات اوسلو .!!! ولكن نجحت البرجوازية بجر اليسار الى معسكر اوسلو .
اما فيما يتعلق بعلاقة اليسار بالسلطة ، فيلخصها احد الرموز البارزة في الجبهة الديمقراطية بالقول التالي : " ليس ثمة في صفوف المعارضة من يطرح ، او ينوي ، او يدعو الى ، اقامة سلطة بديلة او سلطة موازية . وبهذا المعنى ، فان الاقرار بوحدانية السلطة قائم ومفروغ منه . اما ان تُطالب المعارضة ، اشتقاقا من ذلك ، باحترام الالتزامات المجحفة المُملاة على السلطة بموجب الاتفاقات ، فان هذا يعني افراغ المعارضة من مضمونها ".
هنا اذن بيت القصيد . فقد تنازل اليسار تماما عن طرحه ، او حتى نيته استبدال البرجوازية ، وينحصر كل مطلبه في الاعتراف بنشاطه كمعارضة سلمية تعبر عن رأيها دون ان تمسّ بشرعية السلطة .
والخلاصة انه مثلما حذت البرجوازية الفلسطينية حذو مثيلاتها في العالم العربي ، وتحولت الى نظام فاسد وقمعي كبقية الانظمة العربية ، دخل اليسار الفلسطيني ايضا في نفس المحنة التي حذر منها اليسار العربي سابقا ، وتحول بذلك الى جزء لا يتجزأ من ازمة اليسار المستفحلة .