الياس نصرالله -الدالول- على القرن الفلسطيني الاول!


عصام مخول
2017 / 3 / 18 - 10:14     



في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2000 سافرت الى لندن لتقديم محاضرة حول سياسة اسرائيل النووية بدعوة من اللجنة البريطانية للتضامن مع أسير الضمير مردخاي فعنونو المناهض للتسلح النووي الاسرائيلي.
وكان من الطبيعي أن أدخل المدينة وأتعرف اليها من بوابة الياس نصر الله، الذي حضر المؤتمر مع زوجته العزيزة أمينة، ثم جاءني في صباح اليوم التالي لنجول في لندن يعرفني على المدينة، والأصح أن نقول:
ليكون "دالولي" فيها.
ويحدثنا الياس نصرالله، في شهاداته على القرن الفلسطيني الاول عن شخصية "الدالول"، ودوره التاريخي في حياة عائلات فلسطينية شردتها النكبة، فعاد بها عبر الحدود الى الوطن في مغامرة أودت غير مرة بحمير الدالول، وأودت أحيانا بحياة عائلات بأكملها، وهي تجازف في عبور الحدود لتعود الى وطنها الذي شردت منه..
فـ "الدالول"، في مؤلف الياس نصر الله، شكّل خيط الامل الرابط بين اللجوء والوطن، بين مأساة التشرد ومغامرة العودة، بعيدا عن عين الجيش الاسرائيلي وكمائنه ودوريات قنصه للعائدين التي تواصلت لسنوات تلت نكبة الشعب الفلسطيني.
كان يومي في لندن مكثفا.. وخرجت بانطباع قاطع من جولتي في لندن بأن أحدا لا يحسن أن يعرّفك على هذه المدينة بهذا العمق، كما يفعل الياس نصر الله.
فمعه أنت لا تجول في المدينة أفقيا فقط، وانما تتعرف عليها عموديا ايضا..

ولندن التي يعرِّفك عليها الياس، (والتي كان يفترض أن تكون مرابط خيلنا).. ما تلبث أن تصبح في متناول إدراكك – الجغرافيا والتاريخ والتقلبات السياسية والصراع الطبقي في المفاصل التاريخية الحاسمة وانعكاس ذلك على المعالم الحضارية والتراث الفني والثقافي، والمتاحف المتخمة بما هو مسروق من حضارات شعوبنا وبنية تحتية لاستعمار وإن شاخ الا انه ما زال حاضرا بقوة في جينات المدينة.
هي ضفاف نهر التيمز والمسارح التي عرض فيها شكسبير والبيوت التي عاش وكتب مسرحياته في جنباتها والمواقع التي نسج فيها تشارلز ديكنز رواياته والموانئ التي خرجت منها بعثات استكشاف العالم الجديد، وضريح كارل ماركس، ومكاتب صحفها التي رسمت مصائر الشعوب احيانا ونشرت نص وعد بلفور، وصك الانتداب ومواقع المعارك النقابية التاريخية فيها هذه هي المداخل والمسارب، التي يزج بك الياس فيها ليعرّفك على المدينة كما يقرأها هو، تفاصيل يركِّب منها صورة متكاملة للعمليات التاريخية الكبرى.
أقول هذا هنا لأنه هو الشعور ذاته الذي تملكني وطغى علي، وانا أقرأ "شهادات الياس نصر الله على القرن الفلسطيني الاول".
فالياس هو "الدالول" نفسه الذي يأخذك من يدك في كتابه يتنقل بك في مسارب السياسة والتاريخ الفلسطيني عبر قرن من الزمن، وعبر التواءات الحالة الفلسطينية المتحركة في المنعطفات التاريخية الكبرى، يعرف ان يرى التفاصيل المركزية والاحداث العينية والاعتيادية دون أن يغفل سياقها السياسي العام ودون أن يفوته موقعُها من العمليات التاريخية المفصلية التي واجهها الشعب الفلسطيني وما يزال.
وهو في تعامله مع التاريخ والسياسة أيضا يعرف ان يلملم قطع البازل ليركب منها صورة فلسطينية متكاملة، يلملمها من كل المواقع والتجارب النضالية المتميزة التي خاضها والتي تعرّض لها بدْءا من التفاصيل التي اختزنها في ديوان عائلته وقصص الفراريين، الهاربين من التجنيد القسري في الجيش العثماني في الحرب العالمية الاولى، وحكايات مساهمات شفاعمرو واهلِه منهم، في المعارك الوطنية للتحرر من الاستعمار البريطاني ومقاومة الاحتلال والكولونيالية الصهيونية. واستمرارا برصد التفاصيل اليومية للصدام الوجودي مع الحكم العسكري الذي فرضته اسرائيل منذ قيامها على الفلسطينيين الباقين في وطنهم.

** القدس المحتلة وآثار القدم الهمجية !
تسوقه الاحداث والصدف وتعرجات الحالة الفلسطينية الى أحد أهم المفاصل الحاسمة في تبلور شخصيته ومستقبله من جهة، وفي تبلور القضية الفلسطينية من الجهة الأخرى، ليجد نفسه منذ حزيران 1967 في القدس، نقطة التماس الملتهبة بين المحتل وبين شعبه الواقع تحت الاحتلال.
وتشاء الظروف والصدف أن يكون الياس من أوائل الذين دخلوا الى القدس العربية المحتلة بحثًا عن أقارب له قبل أن يمضي شهر على احتلالها، ليرى آثار القدم الهمجية دون رتوش. ويكتشف خصوصية موقعه في القدس المحتلة.
وجد الياس نفسه بسرعة في احتكاك مع كوكبة من الفاعلين في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في القدس والمناطق المحتلة دون أن يخطط لذلك، وإزاء تعقيدات الوضع المركب الناشئ تتوثق علاقته بالقادة الشيوعيين إميل توما وتوفيق طوبي واميل حبيبي وتوفيق زياد وصليبا خميس، ويزامل يحيى يعيش، وبشير البرغوثي وعلي الخطيب في عمله الصحافي الذي اختار الياس قبل ان يقرر الياس أن يختاره ويواكب نشوء الصحافة الوطنية الفلسطينية في القدس العربية، ليتم استدعاؤه ليكون جزءا من تأسيس وإطلاق صحف الحركة الوطنية الفلسطينية من "الشعب" الى "الفجر" الى "الطليعة" ويتطوع لمساعدة المحامية الشيوعية فيليتسيا لانغر ويصبح سندا أساسيا لها في متابعتها قضايا الاسرى والتعذيب والقهر الاحتلالي في المناطق المحتلة ويقيم بموازاة ذلك مع كوكبة من أصدقائه لاحقا مؤسسة صلاح الدين لتصبح دار نشر فلسطينية رائدة ومؤسسة ثقافية وسياسية لامعة وتجربة وطنية متميزة في فضاء الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967 وفي داخل اسرائيل الى أن يغادر البلاد ويبدأ تغريبته مع رفيقة دربه أمينة ليبدأ فصلا متميزا آخر من عطائه.

* فهد بن عبد العزيز :"لماذا لا تحضرونهم للحج عندنا"!
ويتوقف الياس نصر الله عند المعلومات التي اختزنها من خلال تجربته واحتكاكه بالمناضلين والقادة السياسيين، والصحفيين والكتاب، والمثقفين الذين تعامل معهم في القدس ولندن وحيفا ومنها ما نقله له اميل حبيبي عما أسره له ياسر عرفات عن قمة الرياض العربية المصغرة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1976، التي بحثت وقررت الوسائل للتحريض على الشيوعيين وتحجيم تأثيرهم، وحضورهم القيادي على رأس النضال الشعبي على ساحة الاقلية القومية العربية في اسرائيل، وعلى رأس النضال في الضفة الغربية سواء بسواء وحجة قادة الانظمة العربية المؤتمرين في الرياض أن الشيوعيين الذين أوصلوا القائد الشيوعي توفيق زياد الى رئاسة بلدية الناصرة على رأس أكثرية جبهوية وقادوا معركة يوم الارض في تناقض مع مسيرة التاريخ الرجعية في العالم العربي، هم الذين وقفوا من وراء الجبهة الوطنية الفلسطينية التي انتصرت في الانتخابات البلدية التي فرضها الاحتلال عام 1976 على مدن وبلدات الضفة الغربية في حينه وبذلك أفشلوا مشروع الحكم الاداري الذاتي، الذي دفعت به كل من اسرائيل والاردن لإجهاض طموحات الشعب الفلسطيني ونضالاته من أجل التحرر والاستقلال.
وكان المؤتمرون قد كالوا لياسر عرفات التهم بتسليم الضفة الغربية للشيوعيين، بحجة انه كان وراء السماح للشيوعيين بأن يلعبوا دورا رئيسا في الضفة الغربية وتسليمهم جريدة "الفجر" التي رئس تحريرها القائد الشيوعي الفلسطيني بشير البرغوثي.
وانطلقت من المؤتمر حملة رجعية لتمزيق الجبهات الوطنية والتحالفات التقدمية المعادية للاستعمار التي شارك فيها الشيوعيون في المنطقة العربية وفي طليعتها الجبهة الوطنية اللبنانية، باعتبارهم حجر العثرة في تمرير المشاريع الاستعمارية والصهيونية والرجعية العربية في المنطقة.
ووفقًا لعرفات"سمع الامير فهد بن عبد العزيز من السادات شرحا عن الفلسطينيين داخل اسرائيل وانتشار الشيوعية بينهم، فقال فهد: "لماذا لا تحضرونهم للحج عندنا"؟.. وابتداء من بداية العام 1979 اكتملت كل الاجراءات، وسمح للفسطينيين داخل اسرائيل بأداء فريضة الحج لأول مرة منذ نكبة عام 1948.
إنها جبهة القوى الرجعية الاقليمية المتحالفة مع الصهيونية نفسها، في هجومها على الشيوعيين وعلى تاريخهم وتشويهه التي نشهدها اليوم ايضا، في ظل التحضير لمرحلة اعلى من مؤامرات التفكيك والتفتيت في المنطقة.

*التاريخ وثنائية بطش الظالم ومقاومة المظلومين!
في "شهادات" الياس نصرالله "على القرن الفلسطيني الاول"، يرصد الاشياء الكبيرة والاحداث الصغيرة، الاعتيادية واليومية منها، لكن شيئا مما يرصده لا يحدث خارج مفهومه حول تلازم ثنائية بطش الظالم ومقاومة المظلومين، وتلازم ثنائية مؤامرات الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية للقضاء على طموحات الشعب الفلسطيني القومية والانسانية، وبين المقاومة الشعبية لهذه المؤامرات والصدام معها لاسقاطها.
ويشكل "شهادات على القرن الفلسطيني الاول" تمردا ثوريا على فكرة ان التاريخ يكتبه المنتصرون فقط.. الياس نصر الله الذي لم يكتب كتابا في التاريخ سجل في كتابه ملامح التاريخ الاجتماعي والسياسي لأهله ولشعبه ولوطنه في أكثر اللحظات تعقيدا مثبتا ان التاريخ يصح ان يرصده وأن يكتبه الرافضون للواقع أيضا الثائرون عليه والمقاومون له.
الياس الذي غرف من الحياة اليومية ومواجهاتها التي لا تتوقف منذ ان كان منذورا لمار الياس طفلا وكان هذا يعني أن ملابس كاهن كانت تلازمهبها يخرج للعب والركض والشقاوة في حواري شفاعمرو.. كان كبقية الاطفال الا في لباسه المتميز. وعندما ضبطت مجموعة من أطفال الحارة والاقارب وهم يغزون الرمانة في حاكورة جارتهم التي كمنت لهم وقامت بملاحقتهم الى بيوتهم وهي تنادي الاهل وتطالب بلجم "الغزاة".. خرجت الامهات ومن ضمنهن أم الياس تتساءلن ومن أين لك أن أولادنا هم الذين سرقوا رمانتكم ؟ وكيف لك ان تكيلي التهم لهم لمجرد اننا جيران.. وردت الجارة بثقة: لقد رأيت هذا الخوري معهم بأم عيني.. العمى... خوري ويسرق؟!!
لم يصبح الياس كاهنا لكنه عرف ان يفرد مكانا في كتابه للاعتزاز بعلاقته وتقديره الكبير لرجال الدين بمدى تفاعلهم والتزامهم بقضايا شعبهم وإخلاصهم لقضاياه الوطنية العادلة وبقدر ما كانوا على استعداد لحمل هموم الناس الكادحين في عالمنا الواقعي هذا، وليس في عالم آخر متخيل.
ولذلك أفرد مكانا خاصا في كتابه للمطران يوسف ريا الذي قاد معركة العودة الى اقرث وبرعم وللمطران ايلاريون كبوتشي ابن حلب
نصير القضية الفلسطينية ونصير نضالها التحرري وصديق العائلة ولنائبه – الخوري حنا خال الياس الذي خاض معركة الدفاع عن المطران كبوتشي في سجنه.
تقرأ شهادات الياس نصر الله على القرن الفلسطيني الاول فيخيل اليك أن التاريخ يسيل بين أصابعه وبين يديه.. وتنتظر المزيد!








(كلمة الكاتب في أمسية إطلاق كتاب "شهادات على القرن الفلسطيني الاول")