طبيعة التناقض مع الكيان الصهيوني


علي عامر
2017 / 3 / 14 - 14:10     

(1)

يعرَّف الديالكتيك عادة بأنَّه علم التناقضات الداخليَّة، أي أنَّ الصيرورة تحمل إمكانيات تحركها وتطورها بداخلها من خلال تناقضاتها الذاتيَّة، وتعتبر عمليات الأيض (التناقض بين عمليات الهدم والبناء) في الأجسام البيولوجيَّة، والتناقض بين قوى الجذب والتنافر في الفيزياء، والتناقض بين الماضي والمستقبل في التاريخ، والتناقض بين الطبقات التقدميَّة والرجعيَّة في المجتمعات تمثُّلات لذلك المبدأ؛ مبدأ التناقض الداخليّ.

لكنَّ علم الديالكتيك هو علمٌ ماديٌّ في أساسه، أي أنَّ مسعاه الجوهريّ هو استنباط قوانين الواقع كما هو، وبالتالي فإنَّ أسوأ ما يمكن أن يحصل للديالكتيك هو تسمية ما هو ضدّ الديالكتيك باسم الديالكتيك.

إنَّ استخدام المقولات الديالكتيكيَّة في منهج هيجل، أو استخدام نقد الماركسيَّة لذلك المنهج في فهم الواقع ينطوي على خطر حقيقيّ وخفيّ وهو محاولة إسقاط تلك المقولات على الواقع (ميتافيزيقية بلبوس الديالكتيك) عوضاً عن استنباطها في حركتها وصيرورتها من الواقع (ديالكتيك ماديّ).

كلَّما كان الخطأ النظريّ جوهرياً (أي في صميم الفلسفة)، كان انتشاره كاملاً على صعيد التطبيقات النظريَّة في المجالات المختلفة، الأمر الذي ينتج عنه تطبيقاً عملياً خطيراً ومدمراً رغم انطواءه أحياناً على نوايا طيِّبة!

قام كثير من "الماركسيّين" بإسقاط مقولة التناقضات الداخلية على محاولاتهم لفهم وتحليل الواقع فخرجوا بخلاصات محرَّفة وكارثيَّة. وكانت أخطر تلك التطبيقات أو الخلاصات التي استخدمها بعض الماركسيِّون العرب في فهم علاقتنا بالاستعمار، وبالتحديد في فهم علاقة القوى النضاليَّة التقدميَّة مع الكيان الصهيونيّ.

ففي حال التطبيق الأعمى والأجوف لمقولة (التناقضات الداخليَّة) على موقف التيار النضاليّ من الاحتلال سينتج فهم مشوَّه يؤمن بضرورة النضال من الداخل (من داخل الكيان). تمثَّل هذا الخطأ النظريّ بشكل أساسيّ في الموقف النظريّ الذي يتبناه الحزب الشيوعيّ "الإسرائيليّ".

(2)

هناك فهمان لعلاقة الشعوب العربيَّة مع الكيان الصهيونيّ؛ الفهم الأول يؤمن بوجود إمكانيات وقوىً تقدميَّة داخل الكيان وبالتالي يفترض عن قصد أو عن جهل أنَّ وجود الكيان هو وجود طبيعيّ معقول بحاجة للنقد والتثوير، أما الفهم الثاني فهو يرفض وجود الكيان بالكامل.

(3)

لا شكَّ أنَّ مقولة التناقضات الداخليَّة كأساس جوهري للصيرورة والتطوُّر مقولة صحيحة ومثبتة في عدد كبير من التطبيقات في العلوم الطبيعيَّة والإنسانية، ولكنَّ أخذها بمعزل عن سياقها هو الخطأ الفتّاك. بل إنَّ أخذ الديالكتيك النظريّ كما هو بمعزل عن صيرورة الواقع الماديّ الحقيقيَّة لا يعدو عن كونه خطأ فتاكاً آخر.

لم ينمُ الكيان الصهيوني نموّاً طبيعياً عبر صيرورة تاريخيَّة تطوريَّة لمجتمعات المنطقة، وبالتالي لا يمكن فهمه بمعزل عن هذه الحقيقة الراسخة، حيث خلقت القوى الاستعماريَّة الكيانَ الصهيوني وذلك لتحقيق شبكة مشتركة من مصالح القوى الاستعمارية، والطبقات المتنفِّذة في الكيان، والرجعيَّة العربيَّة الخائنة. فدُفع عدد هائل من المهاجرين اليهود إلى الأرض الفلسطينيَّة ونُفي عدد هائل من الفلسطينيين إلى مناطق فلسطينيَّة أخرى، أو إلى دول عربيَّة وأجنبيَّة أخرى في حدث تاريخيّ مصطنع يحقق أهداف القوى الاستعماريَّة المتوافقة مع مصالح أطراف أخرى.

تبنَّى الكيان الصهيوني تاريخيَّاً على الصعيد الجوهريّ سياسة مزدوجة، ففي حين حاول خلق جذور وهميَّة ورمزيَّة وأسطوريَّة له في أرض فلسطين، عمل على قلع الفلسطينيِّين جذرياً من أرضهم بشكل مباشر عبر النفي والتهجير والقتل، وبشكل غير مباشر من خلال التلاعب النظريّ والزيف الإديولوجيّ. ومن هنا يكمن مدخل الفهم الصحيح لمحاولة الكيان تطبيع علاقاته مع دول الجوار.

وبالتالي فإنَّ التناقض الجوهري بين الكيان الصهيونيّ والقوى النضاليَّة التقدميَّة (ليس أبداً من داخل الكيان بل من خارجه) هو تناقض بين الشعوب العربيَّة (المحيط العربيّ) المتطلِّعة للاستقلال والسيادة والحريَّة وبين هذا الجسم الغريب، فالموقف النضاليّ هنا ليس موقفاً تقدميَّاً إصلاحياً بمعنى السعي نحو تطوير وتثوير العلاقات الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة للطبقات المقهورة في المنطقة، بل السعي الحثيث لتلك الطبقات المقهورة لإزالة الكيان الصهيونيّ بالكامل، فلا تطوُّر ولا تقدُّم ولا حريَّة ولا استقلال بوجود هذه الكتلة التاريخيَّة رابضة على النزعات التقدميَّة التاريخية لشعوب المنطقة.

إنَّ أيَّ تعويل هنا على بروليتاريا الكيان، أو قواه اليساريَّة المزعومة أو النضال من داخل الكنيست، أو مؤسساته الديمقراطيَّة الزائفة يحيلنا من جديد إلى مربَّع الفهم النظريّ الأجوف للعلاقة مع الاحتلال وبالتالي القبول به. فالتقدميّ هنا هو من يرفض وجود الاحتلال، وبالتالي فالمطبِّع أو الرجعيّ هنا هو من (يرفض) الإطاحة الكاملة والشاملة بالكيان. هذا هو سقف مفهوم التطبيع وما دونه خيانة، والخيانة تشمل هنا أبسط العلاقات مع فنانين أو مؤسَّسات أو قوى من داخل الكيان.

هل نعني بهذا أنَّ صراعنا مع الكيان هو قوميّ وليس اشتراكيّ؟

لا, فتاريخ الكيان الصهيونيّ وعلاقته بطبقات المنطقة ينحكم أيضاً بتاريخ الرأسماليَّة المركزيَّة وعلاقتها الإمبرياليَّة مع دول المحيط، ففي كلا الحالتين تمَّ اصطفاء طبقة رجعيَّة خائنة من دول المحيط التحقت مصالحها الطبقيَّة المباشرة في وجود الإمبرياليَّة أو الكيان ومصالحهما.

فبعد التوكيد على الضرورة التاريخيَّة لرفض الكيان، يجب علينا الإجابة على سؤال: من هي الطبقات المعنيَّة بهذه الإطاحة؟ ومن هي الطبقات التي ستعمل لصالح الكيان وضدّ الإطاحة به؟

فقط بعد الإجابة على هذا السؤال، يمكننا رسم خط نظريّ نضاليّ حقيقيّ.