الجد و الحفيد


نضال الصالح
2017 / 3 / 7 - 08:52     

جلست في مقعدي المعتاد وفتحت حاسوبي المحمول وتهيأت لكتابة رسالة لصديق. فجأة انفتح الباب على مصراعية بدون أن يطرق أحد الباب كما هي العادة استئذانا للدخول وظهر في الباب إنسان صغير لا يتعدى طوله التسعين سنتمترا، ولا يتعدى عمره الثلاث أعوام، أشقر الشعر مجعد كفرو خاروف بلدي، ملامحه خليط من الملامح العربية والغربية، تعطيه لمحة خاصة من الجمال والجاذبية. أصغر أحفادي، حفيدي نضال الثالث الذي أسمته والدته بهذا الاسم تيمنا بزوجها نضال الثاني والذي بدوره حصل على هذا الاسم من المرحومة زوجتي لأنها ولدته في فلسطين أيام الانتفاضة الأولى ورغما عن اعتراض العائلة. وهكذا أصبح لدينا في البيت ثلاث يلقبون بنفس الإسم، تختلط النداءات بها وتخلق في بعض الأحيان الارتباك والفوضى.
كانت نظراته ثاقبة وملامحه تدل على الجد وعدم الرضى. صاح مشيرا بإصبعه الصغير إلي قائلا: " سيدو! لابتوب نو، لابتوب نو". كان حاسوبي المحمول "اللابتوب عدوا له، وكان يرفض رفضا قاطعا أن يراني والحاسوب مفتوحا أمامي، أكتب أو أقرا شيئا فيه.
تقدم وقبض على الحاسوب بكلتا يديه وحاول إغلاقه بالقوة فشددت الحاسوب وحاولت حمايته من هذا المعتدي الصغير. قلت له: " يا حبيبي، يا روحي يا عيني، أرجوك إترك الحاسوب ستكسره كما كسرته سابقا وكلفني تصليحه مبلغا لا يستهان به من المال." ولكنه تابع القبض على دفة الحاسوب ليغلقه وهو يصيح:" سيدو ! لابتوب نو، لابتوب نو."
حاولت إقناعه بالكلام المعسول وبالرجاء حتى أنني حاولت أن أرشيه ببعض الحلوى ولكنه رفض رفضا قاطعا، وبقي قابضا على دفة الحاسوب يريد إغلاقه وهو يصيح " لابتوب نو".
صحت على والدته ورجوتها أن تأخذه وتلهيه لمدة ساعة من الزمان حتى أكتب رسالتي. ضحكت وقالت" " أنت تعرف يا عمو أن ذلك من المستحيلات، فهو يريدك أن تلعب معه وأن تحكي له حكاية أو تسمعه موسيقى عربية، وهو يغار من حاسوبك ولن يسمح لك بالعمل وسيجبرك على إغلاقه. نظرت إليها وقلت" يا بنيتي، الجماهير العربية ثائرة من الجزائر إلى الخليج العربي ضد الدكتاتورية، وأنا علي أن أستسلم لأوامر ورغبات هذا الكتاتور الصغير؟؟! ضحكت وقالت: " هو لديه سلاحا أقوى من أسلحة جميع الحكام العرب ومخابراتهم، وهو خبير في إستعمال هذا السلاح لنيل مطالبه." سألتها عن هذا السلاح الغريب الذي يملكه هذا الكتاتور الصغير فقالت" إنه سلاح حبك له، وهو يعرف ذلك، ويعرف ما لهذا السلاح من اهمية وتأثير فيك، وهو ويتقن إستعماله. لذا أنصحك بالإستماع إليه وإغلاق الحاسوب وأن تهب وقتك له وليس للحاسوب، فمهما حاولت فإنه سينتصر.
إعترفت بالهزيمة، فحبي لهذا الدكتاتور الصغير سلاح حاد وقاتل ولن أستطيع مقاومته. أغلقت الحاسوب، وضعته على الطاولة ونظرت إلى الدكتاتور الصغير وقلت: " ها أنا قد أغلقته فماذا تريد مني؟ مسح بيده على الحاسوب وقال: " الحاسوب سينام وأنت ستحكي لي حكاية.
أجلسته بجانبي، وضعت يدي خلف كتفه وضممته بلطف وبدأت أقص عليه حكاية قصصتها له عشرات المرات، وكان يسبقني بسرد الحوادث قبل أن أتفوه بها فلقد حفظها عن ظهر قلب. أثناء حديثي شعرت بوخز في جانبي فتأوهت. نظر حفيدي إلي بقلق وقال: " سيدو ! عندك واوا ؟ أجبته : " يا حبيبي، سيدو عنده واوا، يؤلمه جميع جسده من رأسه إلى قدميه، فجدك أصبح عجوزا يا حبيبي الصغير."
فجأة قفز من جانبي وانفجر في البكاء راكضا إلى والدته في الغرفة الثانية. جاءت به تسألني ما الذي حدث وما الذي أغضبه ودفعه للبكاء؟ لم أدر ما أقول لها، فلم أكن أعرف سبب بكائه وما الذي أغضبه. كان يبكي ودموعه تنهمر من عينيه ومخاطه يسيل من أنفه يمسحه بكم قميصه، وكان يقول كلاما متقطعا غير مفهوم. حاولت والدته تهدئته فلم تستطع، وفجأة نظرت إلي وقالت متعجبة: " إنه يقول إنك ستموت، من أين له هذا الكلام، فهل قلت له أنت شيئا من هذا القبيل؟ قلت لها طبعا لا وتذكرت أنني قلت له أن عندي واوا في جميع أنحاء جسدي فظن أنني سأموت. جلست بجانبة وقلت له: " جدو لن يموت، عنده شوية واوا ولكنه لن يموت." قال وما زال يبك: " أنا لا أريدك أن تموت." أعدت عليه القول بأنني لن أموت حتى هدأ، فأجلسته على حجري وأخذت أقبل رأسه وفجأة نظر إلي وقال: " عندما يموت الإنسان يذهب للسماء، أليس كذلك سيدو؟" أجبته بالإيجاب، فسألني: وهل جدتي في السماء؟ فأجبته بنعم، فعاد وسألني: إذا أنت مت فستلتقي بجدتي في السماء؟ قلت له نعم. صمت فترة ثم قال: إذا أنت مت يا جدي وصعدت إلى السماء عند جدتي فهل يمكنني أن أذهب معك لكي أتعرف على جدتي ثم أعود إلى أبي وأمي فأنا لم ألتق بها؟ قلت له لا، لا يمكن، لأن الصغار الحلوين مثلك ممنوعون من الدخول إلى هناك قطعيا، وعليهم أن يبقوا مع أمهاتهم وآبائهم، حتى يكبروا ويتجوزا ويخلفوا أحفادا جميلين مثلك." همهم بكلام غير مفهوم ثم قال لي: " سيدو، هل تراني جدتي من السماء؟ قلت له طبعا. صمت لحظة وقال ضع لي موسيقى عربية، لا أريد بعد أي حدوته.
كان منذ صغره يعشق الموسيقى العربية وخاصة الصوفية، وكان والديه يحضرانه لي عندما يعجزا عن تنويمه فأجلسه في حضني وأضع له الموسيقى الصوفية وكان سرعان ما يغمض عينيه وينام ويأتي والدية لأخذه إلى السرير. لقد بقيت هذه العادة لديه إلى اليوم، وهو لا ينام إلا إذا سمع الموسيقى الصوفية، وتظل الموسيقى تصدع حتى الصباح.
وضعته في حجري ملقيا رأسه على يدي وأخذنا نسمع الموسيقى سويا. بدأت عيناه تثقل ثم أغمضها. جاءت والدته وحملته إلى سريره وقبل أن تخرج به من الغرفة فتح عينيه وأشار بإصبعه إلي وقال:" سيدو ! نو نو لابتوب." فأجبته: " نعم حبيبي، نونو لابتوب."
لاحقته عيوني حتى خرجت به والدته من الغرفة وأغلقت خلفها الباب. عم الصمت على الغرفة إلا من صوت خافت لموسيقى صوفية حزينة.
كانت المرحومة والدتي ترد علي حين كنت أعاتبها بأنها تغالي بتدليع أولادي قائلة: مهمتكم أن تقوموا بتربية أولادكم ومهمتنا أن نقوم بتدليعهم، وكانت تردد أنه ما أعز من الولد إلا ولد الولد. ولم أعرف حينها عمق هذا القول حتى أصبحت بدوري جدا، مهمته تدليع أحفاده.
مرت الأيام وكبر حفيدي حتى تخطى السابعة من عمره، وأنا بدوري زدت شيخوخة وتخطيت الثمانين من عمري، وظل حفيدي مزمنا على سماع قصصي التي كنت أقصها عليه من وحي تجاربي وتجارب والدي وعائلتي في فلسطين وغيرها. وكان هو بدوره يقصها في المدرسة على زملائه وأصدقائه، على أنها من تجاربه الخاصة، وكانت معلمته تقول لي: حفيدك واسع الخيال.
ظل هاجس موتي يقلقه وكان يسألني عن ذلك بين الحين والآخر وكنت أتهرب من إجابته بالحديث عن مواضيع أخرى. جاءني أمس الأحد إلى غرفتي وكنت أتناول أدويتي المعتادة، فجلس على سريري صامتا وأخذ يراقبني وأنا أبتلع الحبوب المختلفة وبعد مهلة قال وعلامة الجد على وجهه: جدو، أريدك أن تعيش حتى تحضر تخرجي من الجامعة وتحضر كذلك حفلة زواجي وتلتقي بأولادي تماما كما حصل مع حفيدك آدم, وآدم هو حفيدي الأول، الذي تخرج من الجامعة وتزوج وله طفلة جميلة. حاولت أن ألهيه بالحديث عن مواضيع أخرى ولكنه كان يعود لنفس الموضوع فقلت له سأحاول، سأحاول. وكأنما الجواب لم يعجبه فأعاد طلبه قائلا، عدني بذلك. شعرت بألم يعصر قلبي ثم قلت له: يا حبيبي، كل المخلوقات تشيخ وتموت ولا تخف فإذا انا مت فسأكون في السماء مع جدتك وسنراقبك من أعلى.
نزل عن السرير وخاطبني غاضبا: لا يهمني أن تراقبني من السماء، أنا أريدك هنا على الأرض، ثم تركني وخرج من غرفتي قائلا، أنا ذاهب إلى غرفتي، وأغلق الباب خلفه. شعرت بالألم يطبق على جسدي ويعصر قلبي وتساءلت „ ماذا سيفعل عندما سيبحث عني فلا يجدني، فغمرني الحزن الشديد وبكيت طويلا.