نسبيّة-حزب الله-وطريق التحول العراقي


خليل عيسى
2017 / 3 / 6 - 23:55     

هناك طريقتان لا ثالث لهما للتفكير في الجدل القائم في لبنان منذ اشهر حول قانون الانتخابات النسبي: امّا أن نعتبر انّ ما يحصل لا يعدو كونه بحثاً في حلّ تقني من قبل بعض اللاعبين السياسيين مثل "التيار العوني" و"حزب الله" الذي تتملّكهم ولاسباب غامضة، نوازع غيريّة قِوامها "صحّة تمثيل جميع الاطراف"، في نظام اجتماعي-سياسي يستبطِن الجميع فيه تعبير "صحّة التمثيل" للتدليل على رغبتهم في زيادة حصّتهم من السلطة والمكاسب. وإمّا ان نفكّر بشكل مغاير، وتحديدًا عبر ربط ما يحصل في الداخل بالتغيّرات الحاصلة في الاقليم من حولنا حيث يعتبر هؤلاء اللاعبون السياسيون ان من حقّهم تثمير مراهاناتهم حول ما يعتبرونه انتصارا ساحقا للمخططات الاستعمارية الايرانية في الوطن العربي. في هكذا حسابات يصبح مفهومًا ان يفتخر كاتب من اليسار الملتحق بإيران في لبنان عن كون "حزب الله هو "رافعة مطلب إقرار نظام النسبيّة". وفي حين انّ نقاشات جدّ تقنيّة تقف وراء قبول او رفض مقترحات القوانين الانتخابيّة من هذا او ذاك، لكن هذا لا يلغي المسألة الاهم الا وهي التفكير بالعواقب السياسية التي ستنتج عن اعتماد قانون بالشكل الذي يريده "حزب الله": اذا كانت حسابات "حزب الله" وحلفائه تقول بأنّه سينال أكثرية المجلس النيابي بهذه الطريقة عبر قانون "نسبي مع لبنان دائرة واحدة" وبالذات عبر رفع حصّة حلفائه من مختلف الطوائف، مما يفسّر إصراره العنيف عليه، حينذاك يصبح السؤال هو التالي: ما هي مصلحة كل اللبنانيين في ان ينتصر"حزب الله" وحلفاؤه في الانتخابات بقانون مفصّل على مقاسهم؟

النقاش في هذا الامر ليس أمراً بسيطاً وخصوصا مع لبنانيين متحمسين للقانون لاسباب لا علاقة مباشرة لها بحسابات "حزب الله" نفسه. فمشكلة الملتحقين "بحزب الله" وبالتحديد العونيين الذين يمثّلون الشريحة المسيحية الاكثر ثقلًا لا تكمن في قلّة العقلانية عند النقاش معهم بل في العكس تمامًا من ذلك: ثمة طغيان عند هؤلاء لصنف محدّد من العقلانية على سواه. وأقصد بذلك عقلانية قصيرة النظر تحسب المكاسب بشكل دكّاني فجّ وبشكل خاطىء بالمعنى الجوهري للكلمة، أي من دون إدخال الخسائر السياسية البعيدة المدى على المستوى الدستوري والثقافي والدولي التي ستمسّ لبنان باسره انّ ترسّخت السيطرة الايرانية على المركز التشريعي في البلاد. وهذا الثقب الاسود الفكريّ موجود عند بعض اليساريين الملتحقين بإيران كما هو موجود عند تيارات الجمعيات "الناشطة" ذات التمويل الدولي من مقاولي النضال، ذلك بينما يشكّل البورجوازي الصغير المسيحي، على المستوى البسيكولوجي اليومي، عماد الطبقة/الشريحة الاجتماعية الاوسع والاكثر كفاحًا من اجل قانون "النسبية بدائرة واحدة" خارج دائرة "حزب الله" الشيعية. يشمل الامر صغار الكسبة من الموظّفين والملاكين الصغار والمتوسّطين واصحاب الدكاكين والمؤسسات المتوسطة والصغيرة، ويشتدّ الحماس عند مسيحيي الاطراف من هؤلاء الذين يعتبرون أنهم يعيشون تهميشًا طبقيًّا بشكل مضاعف. لكن ما لا يجرؤ ان يعترف به عقل هذا البورجوازي الصغير المحشو بنتف من التبسيطات والتعميمات، هو انّه لا يرى في "نائب الامة" سوى موزّع خدمات ومكاسب وتوظيفات. في التحليل الاخير نحن هنا في حضرة عبد يبحث عن سيّد له ليدين له بالولاء فيأمل بأن يؤمن هذا الاخير الوظائف الرسمية لابنائه، او يفتتح زعيمه "المشاريع الخدماتية" ويقوم "بتنمية" القرية او المحلّة التي يسكن بها مما يعني توظيفات للمحيطين به او يستحصل له من البلدية على تسوية لمخالفة بناء غير شرعي. فما يسمّى بالانتخابات في لبنان لا يعدو كونه عمليّة اعادة توزيع جذرية وهائلة للموارد المالية تقوم كلّ اربع سنوات. في هذا المنطق الذي يحكم مسيحيي الاطراف يجلس هؤلاء في دكاكينهم الصغيرة ومكاتبهم وشققهم في البقاع والجنوب وعكّار وضواحي بيروت والمدن الساحلية في لحظة ثأر ويفكّرون غاضبين "الحريرية أكلت البلد". يقولونها ويصرّون على أسنانهم بينما لا يجرؤ هؤلاء التصريح لأنفسهم أنّ اكثر ما يرغبون به هو أن يكونوا هم أكلة البلد الجدد.

لكن حتى هذا كلّه لا ينتقص من جوهر فكرة النسبية في ما يطرح من قوانين، اي من المنطق الذي يقول بعكس التمثيل السياسي على قدر الحجم الشعبي. المشكلة تكمن في فكرة "الدائرة الواحدة": اي أن ينتخب الشخص لائحة واحدة من 128 نائبا دفعة واحدة. في قانون "حزب الله" سيقوم ناخبنا البورجوازي الصغير الذي لا يعرف أكثر من بضعة اسماء من نواب منطقته بوضع اكثر من مئة اسم لنواب لا يعرف عنهم شيئا، ممّا سيعيد إنتاج الكتل النيابية المذهبية بشكل متبادل. ولمن يريد فعلا انّ يجعل التمثيل النيابي اكثر ديموقراطية –وهذا الكلام موجّه خصوصا لممثلي اليسار الملتحق بإيران بشعبويته الفارغة- هناك قاعدتان لفعل ذلك: اولا التخفيف من تأثير المال الانتخابي وثانيا جعل النائب يخاف محاسبة الناس له. وهذا لا يتحقّق الا بقانون نسبي لكن في أصغر دائرة صغيرة ممكنة. نعني بذلك قانونًا نسبيًّا مع 64 دائرة مثلًا، مقسّمة بشكل متساوٍ في الوزن الديموغرافي. الا انّ هذا لن يحصل للسبب الاكثر جوهرية الكامن خلف طرح "حزب الله"، فالانتخابات بالنسبة لحزب الله والبوجوازية الشيعية في لبنان والخارج التي يمثّلها، هي الفرصة الذهبيّة لاقتناص الاكثرية النيابية والامساك بالقرار التشريعي في البلاد وبشكل كامل. بعدها سيبدأ العمل على تغيير وجه المستعمرة اللبنانية بطريقة لا رجعة عنها: إنّها "طريق التحول العراقي"، قياسًا على ما كان يسمّى "طريق التحول الاشتراكي". فبعد آخر انتخابات في العراق رسخت ايران سيطرتها الكاملة على المستعمرة العراقية عبر "حزب الدعوة" وملحقاته وبالنتيجة تحوّلت البلاد هناك تدريجيًّا الى مزرعة ميليشيات طائفيّة تحوم حاليا في بغداد لتحتل وتنهب بيوت الناس تحت شعار "التمويل الذاتي للحرب على داعش". والآن يتكلّمون في العراق عن "ضرورة دمج ميليشيات "الحشد الشعبي" المذهبي والمجرم في الجيش العراقي. نسمع الكلام نفسه في اليمن حيث المطلب الحوثي-الايراني الاساسي هو دمجهم في الجيش اليمني. لذا التساؤل الحقيقي الذي يقع فوق الحسابات الدكّانية الضيقة للبورجوازية الصغيرة لمسيحيي الاطراف هو: في حال ربح "حزب الله" وحلفاؤه وحصل على اكثريّة نيابية ستمكّنه حتما من تطبيق المرحلة اللاحقة من البرنامج الايراني الذي يحضّره لنا، ما هي الضمانات بألا نصبح في لبنان نناقش مستقبلًا مسائل تبدو اليوم سورياليّة بمجرّد حتى التفكير بها، مما نسمعه كلّ يوم في العراق مثل دمج ميليشيات مذهبية في القوى الامنية أو حتى مسخ طبيعة الدستور والقانون اللبناني الى غير رجعة؟ وما هي الضمانة ألا يكون قانون "نسبيّة" حزب الله "بدائرة واحدة" الخطوة الاولى باتجاه عرقنة كاملة للمستعمرة اللبنانية؟