المسيحيون مجددًا


فريدة النقاش
2017 / 3 / 4 - 18:42     

قضية للمناقشة: المسيحيون مجددًا


بات من الصعب، بل لعله المستحيل أن نواجه عمليات الإرهاب المنظم ضد المسيحيين المصريين بنفس الطريقة القديمة، أي أمنيا. ولن يجدى كثيرًا ذلك النقاش الدائر فى الأوساط الدينية إسلامية ومسيحية حول تجديد الفكر الديني أو ماسماه الرئيس « السيسي» الثورة الدينية المطلوبة، ليصبح التعايش بين المسلمين والمسيحيين حقيقة وجودية قبل أن تكون مجتمعية، ذلك أن الحزازات وثقافة التمييز التحتية التي تضرب المجتمع المصري منذ عقود طويلة كانت قد حفرت لنفسها مسارات عميقة داخل الوجدان الوطني قبل حتى أن تضرب الثقافة السائدة بصورة همجية، وتشكل سياجاً صلبًا غير معلن بين المسلمين والمسيحيين، منذ أن ارتفعت أسعار النفط، وحقق الجيش الجيش المصري انتصارًا محدودًا على العدو الإسرائيلي فى حرب 1973، التي انطلقت بعدها سياسة الانفتاح الاقتصادي وشكلت نتائجها الكارثية على اقتصاد البلاد وطاقاتها المنتجة أرضًا خصبة للمشروع الوهابي المدعوم أمريكيًا لتحويل الصراع فى المجتمع المصري من صراع اجتماعي إلى صراع ديني، وتوافق هذا الطابع الجديد للصراع مع الاستراتيجية التي أطلقتها مخابرات الدول الاستعمارية الكبرى بالتوافق مع المشروع الصهيوني لإغراق المنطقة كلها فى الدين، وتشويه الصراع الاجتماعي وتطلع الشعوب لتغيير حياتها إلى الأفضل مع مقاومة مشروع الليبرالية الجديدة والرأسمالية الوحشية فى بيئة صحية وعبر الطرق السلمية.
وأخذ الاستبداد الذي تزاوج مع الفساد الشامل يغلق الباب تلو الآخر فى وجه التطور السلمي مستعينًا بما وصفناه مرارًا وتكرارًا بترسانة القوانين المقيدة للحريات، وبالحل الأمني للقضايا السياسية كبيرها وصغيرها.
وجاءت السنة الكابوسية التي حكم فيها « الإخوان المسلمون « مصر، فظهرت إلى العلن كل أشكال التمييز التي كانت مخفية ضد المسيحيين، وحدث ذلك حتى قبل أن يجرى انتخاب « محمد مرسي « رئيسًا للجمهورية حين جرى حصار القرى ذات الأغلبية المسيحية ومنعها من التصويت، وذلك بعد أن قامت ميليشيات الجماعة بحرق عدد من الكنائس خاصة فى الصعيد، استمرارًا للتاريخ الدموي للجماعة منذ نشأتها فى الثلث الأول من القرن العشرين،وهي النشأة التي نعرف جيدًا أن كلا من الاحتلال الإنجليزي والقصر الملكي احتضنها وقدم لها الدعم فى مواجهة الحركة الديمقراطية الوطنية فى البلاد، وهي الحركة التي قاومت الاحتلال ووقفت حائلا بين نزوع القصر للاستبداد والانفراد بحكم البلاد، ولو بالتحالف مع الاحتلال.
وبرعت المؤسسات الدينية إسلامية ومسيحية فى التلاعب بقضية التمييز على أساس الدين، وهي تستخدم خطابا مزدوجا له ظاهر وباطن، له داخل وخارج، فأطلقت للخارج وللاستهلاك الإعلامي خطاب التسامح والتعايش والاحترام المتبادل، وتأكيد النسيج الواحد، والتلاحم بين الهلال والصليب. وفى داخل المؤسسات الدينية نفسها يحفر خطاب الكراهية للآخر دروباً تحتية عميقة يعرفها جيدًا كل من تعامل مع هذه المؤسسات من الداخل سواء فى مناهجها أو فى سلوك أفرادها.
ولم تأت الجماعات الإرهابية المسلحة- التي انتشرت فى سيناء بعد أن أسقط الشعب المصري حكم الإخوان- من الفراغ، بل كانت ولا تزال نبتاً طبيعيًا للبيئة الفكرية الدينية التي تعتمد حرفية النصوص، والتي أسستها جماعة الإخوان، وقد توالدت منها كل هذه الجماعات المسلحة التي قامت مؤخرًا بطرد المسيحيين من مدينة « العريش « بعد قتل سبعة منهم لا لشيء إلا لأنهم مسيحيون، ونتذكر جيدًا أن « محمد مرسي « حين وصل إلى الرئاسة أطلق سراح المئات من المحكوم عليهم فى قضايا عمليات إرهابية.
وعلينا أن نقرأ مجدداً الأسس الفكرية التي قامت عليها الجماعة منذ نشأتها لنعرف جيداً من أين يأتي هؤلاء المجرمون بأفكارهم ضد المسيحيين أو « الذميين « كما يسمونهم أو ضد النساء.
ويظل السؤال معلقا كيف سيكون بوسعنا أن نصل إلى حل جذري لمسألة التمييز ضد المسيحيين المصريين الذين يتطلع الكثيرون منهم إلى الهجرة بعد أن « حاصرهم « الإرهاب والعنف.
وينتظرنا الفشل الذريع إذا ما وصلنا ما نقوم به الآن فى هذا الصدد، أي بث الخطاب المنمق الذي يمجد الوحدة الوطنية والنسيج الواحد دون رؤية شاملة تتجاوز الحل الأمني الذي لم ينجح وحده أبداً فى مواجهة مثل هذه القضايا الشائكة.
نحتاج الآن إلى منظومة متعددة الجوانب ومتكاملة، طويلة المدى وشاملة، تنهض على الإصلاح الجذري لمؤسسات التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية، تشارك فى وضعها كل القوى الإجتماعية مع دور أساسي للطلائع الفكرية المتقدمة ذات التوجهات الديموقراطية والعقلانية سواء فى قراءتها للنصوص أو فى رؤيتها للعالم، ومشروعها لتغيير الواقع.
وسيكون الطريق طويلا ومتعرجا ومليئا بالأشواك ولكن هذا هو طابع المعارك الكبرى، ولابد لنا أن نكسب هذه المعركة مهما كانت الخسائر، فبهذا المكسب وحده تنفلت مصر من أسر المشروع الإمبريالي الصهيوني المُعد لمنطقتنا والذي يجرى تنفيذه على قدم وساق، إذ يحل الصراع الديني محل الصراع الاجتماعي.