طريق اليسار العدد 93 شباط/فبراير 2017


تجمع اليسار الماركسي في سورية
2017 / 2 / 28 - 08:34     

طريق اليســـــار
جريدة سياسية يصدرها تجمع اليسار الماركسي في سورية / تيم /
* العدد 93 شباط/فبراير 2017 - [email protected] E-M: *



* الافتتاحية *

مؤتمر جنيف4

1- مرجعية العملية التفاوضية السورية في مؤتمر جنيف...يحدد القرار2254الصادر عن مجلس الأمن الدولي يوم18كانون أول2015هذه المرجعية في بيان جنيف1 عبر "التطبيق الكامل" له بمافيه"تشكيل هيئة حكم انتقالية شاملة مع سلطات تنفيذية كاملة".وفق القرار2254يضاف كمرجعية ،مع بيان جنيف1،كلاً من بياني فيينا1و2الصادرين في 30تشرين أول و14تشرين ثاني2015.تعبير(شامل( INCLUSive )المقصود فيه ليس الصلاحيات الشاملة بل عدم اقصاء أواستثناء أحد عند تشكيل (هيئة الحكم الانتقالية).
2- مرجعية عملية الانتقال في سورية:تستند إلى بيان جنيف1"بكليته"كماتستند إلى المبادىء التوجيهية المتضمنة في بيان فيينا1الذي يؤكد على"هوية سورية العلمانية "وأن"حقوق كل السوريين يجب حمايتها بصرف النظر عن الإثنية أوالانتماء الديني" و"الطابع اللاطائفي للحكومة".
3- اشكالات ماقبل بدء العملية التفاوضية:من أجل تشكيل وفد المعارضة التفاوضي يلحظ القرار2254"لقاءات موسكو والقاهرة ومبادرات أخرى ويلحظ بوجه خاص جدوى لقاء الرياض"ثم يقول القرار2254بأن مجلس الأمن"يتطلع قدماً إلى جهود السيد ديمستورا لوضع اللمسات الأخيرة في سبيل تحقيق ذلك".
4- اشكالات بدء العملية التفاوضية:يلحظ القرار2254"بدء وقف اطلاق النار بالتوازي مع بدء العملية السياسية"من دون تحديد إن كانت العملية السياسية كمصطلح تشمل (المرحلة التفاوضية)مع(المرحلة الانتقالية)أم المقصود بذلك هو الأخيرة فقط:في بيان جنيف1هناك تبني للنقاط الست لكوفي عنان التي تقول في بندها الثاني ب"وقف جميع عمليات القتال"بعد البند الأول الذي ينص على"الالتزام بالعمل من أجل عملية سياسية شاملة يقودها السوريون"،وهو مايعني وفق بيان جنيف1،كمرجعية للقرار2254،أن وقف اطلاق النار الشامل ليس مع توقيع اتفاق المرحلة الانتقالية بل مع بدء العملية التفاوضية.
5- التباسات بيان جنيف1:في نص بيان جنيف1الصادر يوم30حزيران2012عن (مجموعة العمل من أجل سوريا)هناك اشكاليات عدة في المصطلحات ستخلق الكثير من مواضيع الصراع والتنازع بين المتفاوضين.أول هذه المصطلحات هو مصطلح:(هيئة الحكم الانتقالية) والذي يمكن تفسيره في أشكال عدة:حكومة ،مجلس رئاسي ،مجلس دولة،مجلس سيادة...إلخ تتبع له (أي الأشكال الثلاثة الأخيرة)الحكومة.يمكن هنا الاستناد إلى بيان فيينا1الذي يعرف (هيئة الحكم الانتقالية)ويحددها في شكل حكومة يعقب تشكيلها وضع دستور جديد تجري على أساسه الانتخابات.المصطلح الثاني الذي سيولد تنازعات تفاوضية هو مصطلح:(كامل السلطات التنفيذية)....في دستورعام2012السوري تقول مادته83بأن مجموع السلطات التنفيذية يعني سلطات مجلس الوزراء (زائد)أومع السلطات التنفيذية لرئيس الجمهورية.من ضمن هذه السلطات التنفيذية سلطة رئيس الجمهورية كقائد عام للقوات المسلحة والتي يقول بيان جنيف1 بأن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية تخضع لقيادة عليا هي (هيئة الحكم الانتقالية).في خطة ديمستورا ،والتي لم يلحظها أويعتمدها كمرجعية القرار2254،هناك كان سيشكل مجلس عسكري مشترك كان من الأرجح أنه كان سيكون بمعزل عن (هيئة الحكم)وخارج سلطتها،وربما كان سيتشارك معها في السلطة عليه رئيس الجمهورية ،وعلى الأرجح هذا تفكير عند النظام وعند الروس وربما كان ومازال عند ديمستورا،جعل (هيئة الحكم )ذات سلطات فقط على القطاع المدني بمافيه وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية التابعة لها فيمايكون المجلس العسكري هو السلطة العليا تحت قيادة رئيس الجمهورية للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية التابعة لها،على غرار ماكان الوضع في تركية بعد الانقلاب العسكري على عدنان مندريس عام1960وبحيث تكون السلطة الفعلية للعسكر من وراء الستارة المدنية وهو ماأنهاه أردوغان عام2002بعد وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة كازدواجية في السلطة.يبدو أن القرار2254قد أنهى خطة ديمستورا وإن كان هناك احتمال بأن يطرح النظام والروس هذا الطرح وأن تكون خطتهم التفاوضية مبنية كاستراتيجية من أجل الوصول بالمفاوضات إلى هذا الهدف.النقطة الثانية في المصطلحات الملتبسة لبيان جنيف1 هو ممصطلح:(الرضا المتبادل)أو(عدم الاعتراض المتبادل)عند إشارته إلى آلية أوعملية تشكيل (هيئة الحكم الانتقالية):هناك التباس آخر :إذا كان تشكيل (هيئة الحكم)على أساس التوافق فهل ستكون قراراتها أيضاً مبنية على التوافق أوعدم التصويت؟...هذا مايسكت عنه بيان جنيف1ولايوضحه.أيضاً عند تطرق بيان جنيف1 إلى مكونات (هيئة الحكم الانتقالية)يقول بأنها تتشكل من "الحكومة الحالية ومن المعارضة" ومن "مجموعات أخرى"من دون تحديد ماهية هذه الأخيرة،ومن دون تحديد الحصص بين هذه المكونات الثلاث ل(الهيئة).
6- المسكوت عنه في بيان جنيف1:يسكت عن مصائر (الدستور السوري الحالي)و(مجلس الشعب)في أثناء الفترة الانتقالية.كمايسكت بيان جنيف1 عن السلطات غير التنفيذية لرئيس الجمهورية مثل سلطته التي تعطيه الحق في اصدار مراسيم تشريعية في أثناء دورات مجلس الشعب وفي عطله وفي الفترات الفاصلة بين مجلسين للشعب بعد انتهاء مدة المجلس،وسلطات الرئيس في حل مجلس الشعب وحل مجلس الوزراء وإقالة الوزراء وسلطته في اعلان حال الطوارىء والأحكام العرفية.
7- سيناريوهات بيان جنيف1:بعد تشكيل (هيئة الحكم الانتقالية)تتم عملية المشاركة في(الحوار الوطني)من قبل كل مجموعات ومكونات المجتمع مع عدم اقصاء أواستثناء أحد.عبر هذا(الحوار الوطني)تتم المراجعة للنظامين الدستوري والتشريعي،وعلى أساس ذلك توضع مسودة دستورية يجب أن تخضع للاستفتاء الشعبي،وبعد تحولها عبر الاستفتاء إلى دستور تجري على أساسه(أكان نظاماً برلمانياً أم رئاسياً أم مختلطاً كما في فرنسة) الانتخابات.في هذا الصدد لايلحظ بيان جنيف1،ولابياني فيينا ولاالقرار2254،إن كان هذا يجب أن يجري تحت اشراف (هيئة الحكم الانتقالية)،مثلاً لجنة لصياغة مسودة الدستور تعينها (الهيئة)،أم يتم من خلال (مؤتمر وطني عام)،يتم اختياره بالتوافق من قبل الجميع ،وهو الذي يعين اللجنة المكلفة بصياغة مسودة الدستور الجديد.كل هذه التفاصيل غامضة وغير محددة.


-----------------------------------------------------------------------------------------------------
القرار2254
عقد مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة 18/12/2015 جلسة أقر فيها بالإجماع مشروع القرار الذي وافقت عليه الدول الخمس دائمة العضوية فيه، في أعقاب انتهاء اجتماع المجموعة الدولية لدعم سورية الذي جرى في أحد الفنادق القريبة في وقت سابق من اليوم ذاته. وفيما يلي ننشر الترجمة الكاملة لنص القرار المذكور.
ترجمة قاسيون
إن مجلس الأمن الدولي،
1- إذ يُذكّر بقراراته السابقة بخصوص الوضع في سورية، ذوات الأرقام...
2- وإذ يؤكد التزامه القوي بسيادة واستقلال ووحدة الجمهورية العربية السورية، ووحدتها الترابية، وانسجاماً مع أهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة،
3- وإذ يعبر عن قلقه البالغ إزاء المعاناة المستمرة للشعب السوري، والتردي المريع في وضعه الإنساني، وإزاء الصراع المستمر والعنف الوحشي المترتب عليه، وإزاء الأثر السلبي للإرهاب والفكر المتطرف العنيف الداعم للإرهاب، وإزاء الأثر الذي تحمله الأزمة تجاه زعزعة استقرار المنطقة ومحيطها، بما في ذلك الزيادة الناجمة في انجرار الإرهابيين للقتال في سورية، وإزاء الدمار المادي للبلد، والطائفية المتزايدة، ومع تأكيده بأن الوضع سيستمر بالتردي في ظل غياب حل سياسي،
4- وإذ يُذكّر بمطالبته الأطراف كافة باتخاذ الخطوات الملائمة لحماية المدنيين، بمن فيهم أبناء المجموعات القومية والدينية والمذهبية، وإذ يؤكد في هذا السياق على أن المسؤولية الأساسية تقع على كاهل السلطات السورية في حماية أبناء شعبها،
5- وإذ يؤكد على أن الحل المستدام الوحيد للأزمة الراهنة في سورية يقوم فقط من خلال عملية سياسية شاملة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، ضمن هدف التطبيق الكامل لبيان جنيف بتاريخ 30 حزيران 2012، كما صادق عليه القرار رقم 2118 لعام 2013، المتضمن قيام هيئة حكم انتقالي شاملة، بصلاحيات تنفيذية كاملة يجري تشكيلها على أساس التوافق المتبادل، بالتوازي مع ضمان استمرار عمل المؤسسات الحكومية،
6- وإذ يشجع في هذا السياق الجهود الدبلوماسية التي بذلتها المجموعة الدولية لدعم سورية لإنهاء الصراع في سورية،
7- وإذ يؤكد على التزام هذه المجموعة الوارد في البيان المشترك عن نتائج المحادثات متعددة الأطراف حول سورية في فيينا بتاريخ 30 تشرين الأول 2015، وبيان المجموعة الدولية لدعم سورية بتاريخ 14 تشرين الثاني 2015 (التي سيشار إليها لاحقاً ببيانات فيينا)، لضمان عملية انتقال سياسي بقيادة سورية ويملكها السوريون، استناداً إلى بيان جنيف بكليّته، وإذ يؤكد على ضرورة قيام كل الأطراف في سورية بالعمل على نحو جاد وبنّاء للوصول إلى هذا الهدف،
8- وإذ يحث كل الأطراف المنخرطة في العملية السياسية التي تيسرها الأمم المتحدة على الالتزام بالمبادئ التي حددتها المجموعة الدولية لدعم سورية، بما فيها الالتزام بوحدة سورية واستقلالها ووحدتها الترابية، وطابعها غير الطائفي، وضمان استمرار عمل المؤسسات الحكومية، وحماية حقوق السوريين جميعهم، بغض النظر عن العرق أو الانتماء الديني، وضمان وصول المساعدات الإنسانية على امتداد البلاد،
9- وإذ يشجع على قيام مشاركة ذات معنى للنساء في العملية السياسية التي تيسرها الأمم المتحدة في سورية،
10- وإذ يضع نصب عينيه هدف جمع أوسع طيف ممكن من المعارضة، التي يختارها السوريون، والتي ستقرر ممثليها للتفاوض وتضع مواقفها التفاوضية بما يمكّن من إطلاق العملية السياسية، وإذ يأخذ علماً بالاجتماعات التي جرت في موسكو والقاهرة وغيرها من المبادرات بغاية الوصول إلى هذا الهدف وإذ يلحظ خصيصاً الفائدة الناجمة عن الاجتماع الذي جرى في الرياض في الفترة بين 9-11 كانون الأول 2015، التي تسهم نتائجها في التحضير للمفاوضات تحت إشراف الأمم المتحدة حول التسوية السياسية للصراع، طبقاً لبيان جنيف وبياني فيينا، وإذ يتطلع إلى الجهود النهائية التي سيبذلها المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية لهذه الغاية،
فإنه:
1- يؤكد مصادقته على بيان جنيف بتاريخ 30 حزيران 2012، ويصادق على بياني فيينا الهادفة إلى إحداث تطبيق كامل لبيان جنيف بوصفه الأساس للانتقال السياسي الذي يقوده ويملكه السوريون لوضع حد للصراع في سورية، ويؤكد أن الشعب السوري هو المعني بإقرار مستقبل سورية،
2- يطلب من الأمين العام عبر مساعيه الحميدة، ومن خلال الجهود التي يبذلها المبعوث الخاص إلى سورية، دعوة ممثلي الحكومة والمعارضة السورية للدخول في مفاوضات رسمية حول عملية انتقال سياسي على نحو عاجل بتاريخ مستهدف بحلول أوائل كانون الثاني 2016، بهدف إطلاق المباحثات طبقاً لبيان جنيف وانسجاماً مع بيان المجموعة الدولية لدعم سورية بتاريخ 14 تشرين الثاني 2015، بهدف قيام تسوية سياسية دائمة للأزمة،
3- يقر بدور المجموعة الدولية لدعم سورية بوصفها المنصة المركزية لتسهيل جهود الأمم المتحدة في تحقيق تسوية سياسية دائمة في سورية،
4- يعرب في هذا السياق عن دعمه لعملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة والتي تقوم في غضون ستة أشهر بتشكيل حكومة شاملة وغير طائفية وتتمتع بالمصداقية وتضع جدولاً وتعمل على وضع دستور جديد، كما يعرب عن دعمه لقيام انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة بموافقة الحكومة (الجديدة) وبما يتطابق مع أعلى معايير الشفافية والمصداقية الدولية بمشاركة السوريين كلهم، بمن فيهم الموجودون في الشتات، المؤهلون للمشاركة، كما نص عليه بيان المجموعة الدولية لدعم سورية بتاريخ 14 تشرين الثاني 2015،
5- يقر بالصلة الوثيقة بين وقف إطلاق النار وعملية سياسية موازية، طبقاً لبيان جنيف لعام 2012، وأنّ كلا المبادرتين ينبغي أن تسيرا قدماً على نحو فوري ويعرب في هذا السياق عن دعمه لقيام وقف شامل لإطلاق النار في سورية، الذي التزمت المجموعة الدولية لدعم سورية بدعمه وبالمساعدة في تطبيقه، بحيث يدخل حيز التنفيذ حالما يبدأ ممثلو الحكومة والمعارضة السورية بالخطوات الأولى باتجاه عملية الانتقال السياسي تحت إشراف الأمم المتحدة، على أساس بيان جنيف كما نص عليه بيان المجموعة الدولية لدعم سورية بتاريخ 14 تشرين الثاني 2015، على أن يتم ذلك على نحو عاجل،
6- يطلب من الأمين العام أن يتولى قيادة الجهد من خلال مكتب مبعوثه الخاص وبالتشاور مع الأطراف المعنية لتحديد سبل ومتطلبات وقف إطلاق النار بالإضافة إلى مواصلة وضع الخطط لدعم تطبيق وقف إطلاق النار، ويحث الدول الأعضاء، وتحديداً الأعضاء في المجموعة الدولية لدعم سورية، على دعم وتسريع كل الجهود للوصول إلى وقف لإطلاق النار، بما في ذلك ممارسة الضغط على الأطراف المعنية للموافقة على وقف إطلاق النار هذا والالتزام به،
7- يؤكد الحاجة لوجود آلية لمراقبة وقف إطلاق النار، والتحقق منه والإبلاغ عنه، ويطلب من الأمين العام أن يخبر مجلس الأمن حول خيارات هذه الآلية، التي يستطيع المجلس دعمها بأقرب وقت ممكن وبما لا يتجاوز مدة شهر واحد من تاريخ تبني هذا القرار، ويشجع الدول الأعضاء بما فيها أعضاء مجلس الأمن لتقديم المساعدة بما في ذلك الخبرة والإسهامات ذات الصلة لدعم هذه الآلية،
8- يؤكد دعوته الواردة في القرار رقم 2249 لعام 2015 للدول الأعضاء لمنع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها كل من الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروفة أيضاً باسم داعش)، وجبهة النصرة، وكل الأفراد والمجموعات والكيانات الأخرى المرتبطة بالقاعدة أو بتنظيم الدولة الإسلامية وغيرهما من الجماعات الإرهابية حسب توصيف مجلس الأمن أو حسب ما قد يتفق عليه لاحقاً من قبل المجموعة الدولية لدعم سورية بإقرار من مجلس الأمن، وذلك طبقاً لبيان المجموعة الدولية لدعم سورية بتاريخ 14 تشرين الثاني 2015، وأن تزيل الملاذ الآمن الذي أٌقامته هذه المجموعات فوق أجزاء هامة من سورية، ويلحظ أن وقف إطلاق النار المذكور آنفاً لن ينطبق على الأعمال الهجومية أو الدفاعية بحق هؤلاء الأفراد والجماعات والكيانات كما نص عليه بيان المجموعة الدولية لدعم سورية بتاريخ 14 تشرين الثاني 2015،
9- يرحب بالجهد الذي بذلته حكومة الأردن للمساعدة في وضع فهم مشترك ضمن المجموعة الدولية لدعم سورية حول الأفراد والمجموعات التي يمكن تحديدها بأنها إرهابية وسيأخذ في الحسبان فوراً توصية المجموعة الدولية لدعم سورية الهادفة إلى تحديد المجموعات الإرهابية،
10-يؤكد حاجة كل الأطراف في سورية لاتخاذ إجراءات لبناء الثقة تسهم في استمرارية كل من العملية السياسية ووقف دائم لإطلاق النار، ويدعو الدول كلها لاستخدام نفوذها مع الحكومة السورية والمعارضة السورية للمضي قدماً في عملية السلام، وإجراءات بناء الثقة، والخطوات المتخذة للوصول إلى وقف لإطلاق النار،
11-يطلب من الأمين العام أن يبلغ المجلس بأسرع وقت ممكن وبما لا يتجاوز مدة شهر من تاريخ تبني هذا القرار حول خيارات إضافية لإجراءات بناء الثقة،
12- يدعو الأطراف لأن تسمح فوراً بدخول الوكالات الإنسانية السريع والآمن ودون عراقيل، على امتداد سورية من خلال أكثر المسارات مباشرة، والسماح بالمساعدات الإنسانية الفورية للوصول إلى كل الأشخاص المحتاجين إليها، ولا سيما في كل المناطق المحاصرة والتي يصعب الوصول إليها، وبالإفراج عن كل الأشخاص المحتجزين اعتباطياً ولا سيما النساء والأطفال، ويدعو الدول الأعضاء في المجموعة الدولية لدعم سورية لاستخدام نفوذها فوراً لتحقيق هذه الأهداف، ويطالب بالتطبيق الكامل للقرارات 2139 لعام 2014، 2165 لعام 2014، 2191 لعام 2014، وكل القرارات المعتمدة الأخرى،
13- يطالب الأطراف كلها بالتوقف الفوري عن شن أية هجمات بحق المدنيين والأهداف المدنية بما في ذلك الهجمات على المنشآت الطبية والكادر الطبي وبالتوقف عن أي استخدام عشوائي للأسلحة بما في ذلك القصف والقصف الجوي، ويرحب بالتزام المجموعة الدولية لدعم سورية بالضغط على الأطراف بهذا الصدد، كما يطالب بأن تلتزم الأطراف كلها وعلى نحو فوري بالتزاماتها طبقاً للقانون الدولي بما في ذلك القانون الإنساني الدولي، وقانون حقوق الإنسان الدولي المعتمد،
14-يؤكد الأهمية البالغة للحاجة الماسة لإيجاد شروط العودة الآمنة والطوعية للاجئين، والنازحين داخلياً لمناطق سكنهم الأصلية، وإعادة تأهيل المناطق المتضررة طبقاً للقانون الدولي بما في ذلك الشروط المعمول بها الواردة في «الاتفاقية والبروتوكول المتعلق بوضع اللاجئين»، والأخذ بعين الاعتبار مصالح البلدان المضيفة للاجئين، ويحث الدول الأعضاء على تقديم المساعدة بهذا الصدد، ويتطلع قدماً إلى مؤتمر لندن حول سورية في شباط 2016 الذي تستضيفه المملكة المتحدة وألمانيا والكويت والنرويج والأمم المتحدة كإسهام هام في هذا المسعى، ويعرب أيضاً عن دعمه لعملية إعادة إعمار وتأهيل سورية ما بعد الصراع،
15-يطلب من الأمين العام أن يبلغ مجلس الأمن حول سير تطبيق هذا القرار بما في ذلك التقدم الحاصل في العملية السياسية التي تيسرها الأمم المتحدة، وذلك في غضون ستين يوماً،
16- يقرر أن تبقى القضية قيد متابعته النشطة.

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------








في ذكرى رحيل جوزف سماحة العاشرة




«الحوار الوصيّة»: اليسار العربي محكوم بأولوية المقاومة

أجري هذا الحديث مع جوزيف سماحة يوم 17 شباط عام 2006 في مقر يومية «السفير». ونفذ في إطار رسالة الدكتوراه التي صاغها نيكولا دوت ـ بويار بين عامي 2005 و2009. وحديث سماحة يدور حول العلاقات بين الحركات اليسارية والإسلامية في لبنان وفلسطين. كان سماحة يعمل في جريدة «السفير» ولم يكن بعد أسس جريدة «الأخبار». يعود سماحة في الحديث على مسيرته السياسية ويعرج على علاقته الخاصة بالقومية العربية وبالإسلام السياسي. (عرّب المقابلة الزميل بول أشقر)
نيكولا دوت ــ بويار باحث مشارك في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى (إيفبو) وباحث مشارك مع برنامج البحث الأوروبي (إي أَر سي)
ياسين الحافظ والياس مرقص
بداية تأثرت كثيرا بالتيار الناصري، وما زلت حتى اليوم. ولكني عرفت فترة فراغ بين عامي 1968 و1969 بسبب الهزيمة العربية في حرب حزيران. كنا جميعنا تحت الصدمة، وهي حقبة أفضّل نسيانها.
كنت شاباً في العشرينات، وبدءاً من عام 1969، إتصلت بتيار فكري لم يؤثر كثيراً للأسف في صفوف اليسار العربي، وهو تيار ياسين الحافظ والياس مرقص. حاول هذان المفكران بلورة قراءة ماركسية لعبد الناصر او لنقل قراءة متمركسة للقومية العربية. وكان هذا الجهد يندرج في نقاش اوسع جار وقتها مع ثلاثة تيارات كبيرة.
أولا تيار الأحزاب الشيوعية التقليدية في العالم العربي المؤيدين للسوفيات، ثانياً مع البعث، وثالثاً مع مجموعات اليسار الراديكالي أو اليسار الجديد خصوصاً تلك التي كانت تعتمد على المقاومة الفلسطينية إثر التغييرات التي حصلت في حركة القوميين العرب من تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية ولكن أيضاً منظمة العمل الشيوعي في لبنان.
ياسين حافظ والياس مرقص كانا مفكرين سوريين. هما أكثر من أثّر فيي ولعبا دوراً في تكويني. حولهما، تشكلت مجموعات صغيرة في لبنان والعراق وسوريا صارت حزب العمال العربي الثوري. ولكنه للأسف لم ينجح في التوسع. كنت في هذا الجو حتى عام 1972. وكانت البيئة مؤاتية: كنا شباباً، ولبنان كان في غليان، حركة عمالية حركة فلاحية حركة طلابية. التحركات كانت مستمرة في الجامعات، كانت حقبة اليسار الجديد.
كعادتي
عام 1972 إنتسبت الى منظمة العمل الشيوعي في لبنان التي كانت، لنقل، على تقاطع بين تشكيلات اليسار الراديكالي وبين القومية العربية. وشاركت في قيادة هذه المنظمة كعضو في مكتبها السياسي حتى عام 1980. وكعادتي كنت في منظمة العمل الشيوعي وكنت احافظ على موقف نقدي: كان لدي إنتقادات على الاستراتيجية والتكتيك وعلى آليات القيادة. وعدة مرات هددتني القيادة بطردي حتى تحقق ذلك عام 1980 عندما طردت بالفعل وجعلوني أترك التنظيم، تحديداً بعد سلسلة من المقالات حيث إنتقدت ليس فقط المنظمة، بل أيضاً وليد جنبلاط والاستراتيجية العامة للحركة الوطنية. كنت ما زلت أشعر انني يساري، ولكني حاولت أن أبلور مقاربة نقدية لممارسة اليسار اللبناني.

الجماهير العربية
قالت إنها تريد سياسة تشكل جواباً على الهيمنة الأميركية

بعد هذه الفترة، إقترح ذات مرة وليد جنبلاط أن نصيغ برنامجاً لحزب إشتراكي يساري، حزب مغاير عن الحزب التقدمي الإشتراكي، حزب يكون شيئاً أوسع، ولكن هذه التجربة منيت بالفشل.
إلا أن خلافاتي السياسية مع هؤلاء أو مع الآخرين لم تفسد يوماً العلاقات الخاصة. وهكذا بقيت أعمل مع فواز طرابلسي وأتناقش مع وليد جنبلاط
والدتي
ثم حصل الإجتياح الإسرائيلي لعام 1982 وبقيت بعده خلال سنتين في بيروت قبل أن أغادر البلد متوجهاً إلى فرنسا. إقامتي هناك كانت تجربة عميقة إن على المستوى الفكري أو السياسي. أسست مع آخرين أسبوعية كانت بمعنى قريبة من منظمة التحرير الفلسطينية وقد أسميناها «اليوم السابع». كانت حقبة أواسط الثمانينات صعبة: من جهة الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان ومن جهة حرب المخيمات. وفي الواقع كانت لهجة المجلة عالية إزاء السياسة السورية في لبنان، ولذلك لم أكن قادراً على العودة إلى بيروت فبقيت 11 سنة في باريس، ولم أعد إلا عام 1995. خلال هذه الفترة، سمح لي السوريون بالعودة مرة واحدة ولفترة وجيزة جداً لزيارة والدتي التي كانت مريضة. فقط ذلك.
بواسطة الصحافة
إذا إستطعت أن أعود وأمكث عام 1995 بعد مغادرة باريس، فهذا كان يعني أنه لم يعد للسوريين من «فيتو» على شخصي. كنا دخلنا في مرحلة جديدة: إتفاقية أوسلو. كنت نقدياً جداً إزاء الإتفاقية، وهذا الواقع سهّل التبديل. من ناحيتي، كنت قد كتبت عدة مقالات نقدية حول إتفاقية أوسلو وحول الحريرية وحول إعادة الإعمار التي تلت الطائف، وكانت لدي مواقف نقدية ثابتة إزاء هذه المواضيع.
لم أعد عضواً في أي حزب سياسي، والموقف الذي إعتمدته هو موقف رجل يساري مستقل يحاول بواسطة الصحافة والإفتتاحية والموقف العلني أن يبلور أفكاراً ودروباً هي في رأيي يسارية، وفي الوقت ذاته وطيدة الإرتباط بالقضية الوطنية. والمقصود بالقضية الوطنية شيء أكبر من مجرد الموقف اليساري، والمقصود أن على اليسار أن يعتبر أن الأولوية في هذه المنطقة تدور حول التدخل الخارجي وضرورة التصدي له. لذلك، كلما يغادر اليسار ساحة المعركة هذه، يتخلى عن المسألة الوطنية وآخرون – تحديداً الإسلاميون ــــ يحتلون هذا الملعب وسيزداد نفوذهم.
الإتجاه الصحيح
لنأخذ تنظيمين إسلاميين أصبحا على مرور السنين رمزيين، ليس فقط للإسلام السياسي بل أيضاً لمقاومة إسرائيل. كرجل يساري متمسك بالقضية الوطنية أرى أنهما سياسياً في الإتجاه الصحيح للتاريخ... حزب الله أكثر من حماس، ولكن لنقل كلاهما... هما في الإتجاه الصحيح للتاريخ... نستطيع أن نخالف إيديولوجيتهما الدينية، نستطيع أن ننتقد بعض الجوانب في إستراتيجيتهما او تكتيكهما أو الشعارات التي يرفعانها. ولكن إذا نظرنا بصدق للواقع، للمرحلة التي نعيشها، إذا قمنا بجردة لواقع العالم العربي، نجد أن للعرب اليوم طلباً عميقاً لوجود تيار وطني او قومي.
بعد هزيمة التيار القومي العربي، كنا كثيرين من الذين إعتقدوا في لحظة ما ان اليسار قادر على ملء هذا الفراغ. ولكنه لم يقم بهذه المهمة. والإسلاميون ملأوا هذا الفراغ تدريجاً بعد التغييرات التي عرفوها في التسعينات، وذلك في ظرف عرف تغييرات كبيرة مثل نهاية الإتحاد السوفياتي ونهاية حرب أفغانستان وسياسة أميركية ظافرة. وورث الإسلاميون احياناً كوادر قديمة متأتية من اليسار أو من الحركة القومية العربية.
أحياناً أفكر مثلاً بمنير شفيق وأتساءل: هل يتابع سياسة «تسلل» ام هو مقتنع بما يقوله؟ للحقيقة لا فرق لانه نجح مع آخرين في تأمين استمرارية. يبدو لي أن في فلسطين مع كل التغييرات التي عرفتها حماس في التسعينات وفي لبنان مع حزب الله، أن هذا التيار ــــ التيار الاسلامي ــــ هو الذي استعاد خطاب التحرر الوطني، الخطاب الوحيد القادر على تحريك الجماهير العربية.
حتى هذه اللحظة، لم ينجح أي تيار سياسي آخر بالقيام بذلك، لا اليسار ولا الديموقراطيون ولا الليبراليون للأسف. وقد توفر للإسلاميين في لبنان وفلسطين إطار ديموقراطي إلى حد، وقد عرفوا التفاوض مع قوى سياسية أخرى. وأعتقد أن ذلك أفادهم وساهم في تطوراتهم اللاحقة. والديموقراطية وجدت لتستفيد منها هذه الإتجاهات. فكلما توفرت فرصة للجماهير العربية ــــ من عبد الناصر وصولا إلى طاغية مثل صدام حسين ــــ قال العرب، قالت الجماهير العربية، ما الذي تريد حقيقة. إنها تريد سياسة تشكل جواباً على التهديدات التي تشعر بها، جواباً على الهيمنة الأميركية وعلى نتائج هذه السياسة التي تزداد توسعا كل يوم.

المادة الأولية
في فلسطين مثلا، عندما فازت حماس بالإنتخابات التشريعية في فلسطين في كانون الثاني/ يناير 2006 ، كانت لدي مشاعر متناقضة.
شعرت بشيء من الخوف ولكن في العمق كنت راضياً عن فوز حماس. يكفي تأمل ما فعلته قيادة فتح مع محمود عباس من الحركة الوطنية ومن فتح ومن السلطة الوطنية الفلسطينية. تاريخياً، هي كارثة. من منظار القضية الوطنية، ما حدث هو تاريخي، أن تنجح حماس في التغلب على فتح، وأن تحمل خطاباً قومياً ضد تخلّيات السلطة.
في لبنان، الوضع مختلف: تمّت إزالة مجمل الخطاب اليساري نتيجة هيمنة حزب الله. ولكن حزب الله نجح أيضاً تاريخياً على الإنفتاح وعلى إستيعاب أفكار آتية من تيارات أخرى. إنها نقطة قوته الأولى. أعرف جيداً حزب الله، أعرف قياداته وكوادره وكلما أتناقش معهم أشعر أنني مع قوميين حقيقيين. وهذه مفارقة، كلما أقارن مع الماضي أصارح نفسي أحياناً وأعتبر أن المادة الأولية المكونة لهذه الحركة، المادة الأولية لهذه الكوادر ولهذه القيادة كان من الممكن أن تكون في حقبة أخرى المادة الأولية لحركة وطنية وتقدمية كبيرة.
وعليك أن تنظر أيضاً للتشققات داخل الحركة الإسلامية. الأخوان المسلمون في الكويت لا يمتون بصلة لإخوان العراق، أو اخوان مصر، أو السودان، أو الجزائر. لا يوجد اليوم إسلام سياسي واحد. إلا أن الإسلام السياسي الذي يهمني هو الذي يحمل الرسالة القومية التي حملها من قبل القوميون العرب واليسار. في العمق، هي القومية العربية التي يعبّرعنها بواسطة إيديولوجيا غالبة، وقد صارت مهيمنة، وهي الإسلام. عليك أن تنظر إلى التناقضات: قد تحمل خطاباً متخلفاً ومن الممكن إعتباره حتى رجعياً. ولكنها في العمق حاملة مضمون تقدمي. إنه مضمون يذهب في إتجاه لا أستطيع أن اشجبه.
هم مزدوج
بعد أن قلت ذلك أضيف لك أنني لا أحبّ التسويات العقائدية. إفهمني جيدا: أعتبر أن بعض التيارات السياسية الإسلامية تحمل خطاب التحرر الوطني، وهذا شيء. ولكن في الوقت ذاته لا أعتقد أنه من الممكن صنع او إعداد خلطة تجمع بين القومية العربية واليسار والاسلام السياسي. أنا لا أحبّ التسويات العقائدية. كشخص، أستطيع ان اكون قومياً عربياً يسارياً وأن أعلق على حزب سياسي مثل حماس، وفي هذه الحالة عما أراه إيجابيا او سلبيا في تجربته. ولكني لا اصل الى حد تبجيل خلطة عقائدية لن تؤدي إلى أي مكان.

ما زلنا بعيدين
وبعيدين جداً من ان نحقق ولو ثورة صغيرة في الفكر الإسلامي

همّي مزدوج: عربي ومعاد للإمبريالية. وفي هذا الإطار، لدي دائماً مخاوف من المرجعية الإسلامية المحض التي لا تؤدي إلى أي مكان. ماذا يعني التضامن الإسلامي؟ خذ حقبة عبدالناصر مثلاً: مقياس التحالف كان معاداة الإمبريالية، لا ثقافي ولا ديني. كنّا مع الهند ضد باكستان، كنّا مع اليونان ضد تركيا. ببساطة لأن باكستان وتركيا كانتا في المعسكر الإمبريالي. إنها مسألة مقاربة: إن كانت مقاربتك نحن العرب ما هي مصالحنا الوطنية، هذا يقودك إلى مكان ما. أما إذا كانت مقاربتك نحن المسلمين فهذا قد يوصلك إلى مكان مختلف تماماً.
تحالفت عدة دول عربية مع الإتحاد السوفياتي كـ»عرب» بغض النظر عن طبيعة المجتمع الذي كان سائداً فيه. فهو كان حليفاً، كان حليف العرب في ميزان قوى دولي ما. ولا أفهم هؤلاء العرب الذين ذهبوا ليحاربوا ضد السوفيات في أفغانستان. لا شأن لهم هناك. الشيخ عبدالله عزام كان على خطوتين من إسرائيل وذهب إلى باكستان وأفغانستان. ربما لم يكن يريد أن يغضب ملك الأردن لا أدري. ما أدريه أن هناك فرقا في أن تقول أؤيد الأحزاب الإسلامية التي تحمل القضية الوطنية العربية أو في أن تقول أؤيد الأحزاب الإسلامية لأنهم مسلمون.
تجنب الاسلام
أنا أقارب الأشياء بشكل براغماتي جداً وواقعي. في الواقع الحاضر، أرى أننا في حقبة تاريخية حيث الإسلام مهيمن، وسيهيمن على الحياة السياسية والثقافية. هذا واقع، وسيستمر سنوات وسنوات. ما زال الإسلام السياسي في فترة صعود، وما زلنا ربما في بداية هذا الصعود. كان ياسين الحافظ يقول: « لن تستطيعوا تجنب الإسلام، لن يتمكن العرب يوماً من تجنب الإسلام». كان على حق قبل غيره.
الأزمة للجميع
لا أؤمن بإمكانية ثورة ثقافية عميقة في الإسلام لأني ببساطة لا أؤمن بثورة ثقافية عميقة في أي من الإتجاهات السياسية في العالم العربي. الأزمة الثقافية تطال الجميع. كمثقف أنا متشائم، وكل شيء إلى إنحطاط، وهذا ينطبق أيضاً على الإسلام السياسي. بصدق، أعتقد أن جمال الدين الأفغاني كان أفضل بكثير من محمد عبدو. وأن محمد عبدو كان أفضل بكثير من رشيد رضا ومن حسن البنا اللذين كانا أفضل من سيد قطب. وفي نهاية المشوار، نصل إلى أيمن الظواهري والزرقاوي (ضحك). إنها الأزمة، نعيش العد العكسي. إلا أن الأزمة التي يعيشها الإسلام ليست إلا وجها من أزمة الفكر على صعيد أعم. إنها الأزمة للجميع، ليس فقط للإسلاميين. إنها إذا شئت أزمة بنيوية. على سبيل المثال، الليبراليون العرب اليوم ليس لهم شغل مع ليبراليي مصر الأمس. بالنسبة للتيار الليبرالي، الإنحدار هو من طه حسين إلى أيمن نور، كما هو عند الإسلاميين من الأفغاني إلى الظواهري. والشيء نفسه ينطبق على اليسار أو القوميين العرب. الأزمة الثقافية عميقة في هذه التيارات.
لا أريد أن أوحي بأن كل شيء سوداوي، هناك أشياء تحدث في بعض أوساط الأخوان المسلمين، وقد عملوا على تطوير انفسهم. داخل حزب الله هذا العمل قائم بالتاكيد. في الفكر الشيعي الأوسع، هناك كتابات لمحمد حسين فضل الله مثيرة للإهتمام. هناك ربما في الحلقة المقربة للاخوان المسلمين شخصية مثل الشيخ يوسف القرضاوي. خذ القرضاوي، هناك نظرتان ممكنتان حوله، تستطيع أن ترى فيه شخصاً أصولياً متخلفاً عن جد وتستطيع أن ترى فيه شخصاً متقدماً لأنه يقف أمام البعض الآخر بسنوات ضوئية.
وتحركت الأشياء عند الاخوان المسلمين في سورية وهناك حداثة ما في وثائقهم الأخيرة. ربما في تونس يقوم الشيخ غنوشي بشيء يستحق الإهتمام إن من حيث التجدد الثقافي ام من حيث العلاقات مع العلمانيين. في كل الأحوال، راشد غنوشي كان بعثياً، يعرف سورية، يتحسس القضية العربية ونظرته ليست ضيقة. ما يحاول القيام به منير شفيق يستحق الإهتمام. فهمي هويدي أيضاً. ولكنها محاولات تبقى مشتتة.
ما زلنا بعيدين وبعيدين جداً من ان نحقق ولو ثورة صغيرة في الفكر الإسلامي، أن نستطيع أن نحدث أو أن نفتح ولو كوة بإتجاه الحداثة. المنطقة في غاية التشنج. ولا أدري إن كنّا سننجح بإجراء هذه الثورة الثقافية الضرورية من داخل الإسلام إذا بقيت الظروف كما هي الآن. السبب؟ لا توجد طبقة سياسية تحمل مشروعاً تاريخياً. وأنا بهذا المعنى أبقى ماركسياً. قرأت وثائق عن دمقرطة العالم العربي، عن الأميركان الذين يراهنون على القطاع الخاص. كل هذا رديء. هناك خيانة كبيرة من البرجوازية العربية التي ليس لديها أي دور لتلعبه الآن. إنها حليفة الأنظمة العربية من دون شروط، دائماً أبداً أينما كان.
ناصري على طريقتي
إن أردت أن تصنفني، أنا ناصري على طريقتي الخاصة وأيضاً يساري. كتبت عدة مقالات حول نظرتي لتجربة عبد الناصر وقلت دائماً أنه الوحيد برأيي بسبب براغماتيته وتجربته الذي إستطاع طرح الأسئلة الحقيقية، على الأقل بين التيارات الفكرية في العالم العربي ــــ الإسلاميين، الليبراليين، الماركسيين والقوميين وخصوصاً البعثيين ــــ. الناصرية ليست بالضرورة فكراً كالبعث أو الماركسية، ولكنها تجربة عملية، وحتى تجربة عاطفية. وقد غيّرت بعمق العالم العربي آنذاك بما فيه نظرة العرب لأنفسهم إزاء الغرب. أجوبة الناصرية متفاوتة، وقد رأينا إلى ما آلت إليه. إن كنا نناقش في إطار التيارات الكبيرة في تاريخ العالم العربي المعاصر، إنه التيار الذي إقترب مما يجب القيام به، على صعيد الإستقلال وعلى صعيد المضمون الإجتماعي. عندما أقول انني ناصري، إنها أيضاً وسيلة لأقول إنني لست بعثياً. العجز عن التمييز بين ما قدمه عبد الناصر وما قدمه البعث يدل عن عجز فهم ما مثلثه تجربة عبد الناصر في العالم العربي. وبهذا المعنى أكرر: بلى أنا ناصري.
... ويساري على طريقته
كيف، إنطلاقاً من الإسئلة التي طُرحت أيام عبد الناصر، نستطيع أن نفكر بالقضايا المعاصرة المطروحة علينا؟ هذا هم السؤال بالنسبة لي. ويضم سؤالين: أولاً، سؤال كبير: ماذا تعني اليوم حركة تحرر وطني واسعة في العالم العربي؟ وهناك سؤال ثان: ما هو المضمون الإجتماعي لهكذا حركة تحرر عربية؟ عند عبد الناصر، الجواب كان إشتراكياً إلى حد ما. أما اليوم فما هو المضمون الإجتماعي الذي على حركة التحرر أن تحمله؟
عبدالناصر كان حصيلة ثلاثة معطيات، تأميم القناة وأسلحة تشيكوسلوفاكيا وسدّ أسوان. والتجربة كانت متاحة أيضاً بسبب إنتظام عالمي ما، بسبب ميزان قوى مختلف عن القائم حالياً. اليوم فكرة دور مهم للدولة في الإقتصاد، فكرة نمو حريص على مصالح الطبقات الشعبية، كل هذه الإعتبارات صارت خارج تصويب الجميع، من الإسلاميين إلى الليبراليين مروراً بالديمقراطيين.
حتى اليسار العربي، صار يتكلم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن إشكالية التنمية أو مسألة الدولة خرجتا من تصويبه. كل هذه التيارات أياً كانت صارت تندرج بمكان ما في الإعتراف بعالم وحيد القطب ومتجانس وبعولمة صيغت إقتصادياً بمضمون ليبرالي. مما يتكون المضمون الإجتماعي لحركة تحرر وطني عربية اليوم؟ لا أدري لأن ميزان القوى جداً منحط.
الإنجراف الثقافي
ليس من الصدفة أن ننجرف اليوم نحو المضمون الثقافي. عندما أتكلم عن العرب، أود الحديث عنهم بعبارات سياسية، أو كمجموعة سياسية. إلا انهم اليوم مجرد دمغة ثقافية إسوة بالإسلام... وذلك لأن كافة التيارات السياسية في العالم العربي عاجزة عن إعطاء مضمون سياسي أو إقتصادي او اجتماعي لبرنامجها. وبالتالي، نحن نعيش اليوم فترة إنكفاء بما يخص الهوية إن كعرب أو كمسلمين. نقول نحن عرب أو نحن مسلمون، ولكننا لا نقول ذلك بمعنى سياسي او استراتيجي او إقتصادي، نقوله فقط بالمعنى الثقافي. في العالم العربي اليوم، من تونس إلى لبنان، لا شيء يجمعنا إلا الثقافة. بالفعل نفس الكتّاب، نفس الأفلام، نفس الحساسيات الثقافية مع الوسائل الإعلامية الجديدة وخصوصاً التلفزيونات. ولكن الموضوع يتوقف عند هذا الحد، إذ إشكاليات الثقافة والهوية والدين هي التي تتقدم اليوم...
سياسة
جريدة "الأخبار" - العدد ٣١١٣ السبت ٢٥ شباط ٢٠١٧




• ماركسيات :
عن الماركسية والدين: أكثر من أفيون

نشر في‫:‬الجمعة, تشرين اول 18, 2013 - 21:30
الكاتب/ة: جون مولينيو.
ترجمه‫/‬ته الى العربية‫:‬ محمد الحاج سالم
المصدر‫:‬ الأوان
تقديم
نشر هذا المقال بالانكليزيّة تحت عنوان (More than opium: Marxism and religion) ضمن فصليّة "الاشتراكيّة الدّوليّة" (International Socialism) في عددها رقم 119 صيف العام 2008، وهي بقلم جون مولينو (John Molyneux) المناضل ذي التوجّه التّروتسكي والقيادي البارز في حزب العمّال الاشتراكي (Socialist Workers Party) في بريطانيا والمحاضر الأوّل في الدّراسات التّاريخية والنّظريّة في كلّية الفنّ والتّصميم والإعلام بجامعة بورتسموث (University of Portsmouth)، وهو من أبرز مناصري القضيّة الفلسطينيّة في بلاده ومناهضي الحرب على العراق. وقد ارتأينا تقديم مقاله هذا للقارئ العربيّ بعد أن رأينا فيه محاولة نظنّها غير مسبوقة لتفسير ظاهرة جديدة ما زالت تثير الاستغراب تتمثّل في التّقارب "الغريب" الذي بتنا نلحظه منذ بضع سنوات بين بعض الحركات الماركسيّة وحركات الإسلام السّياسي رغم "الحروب" المتبادلة بين هذين التيّارين والعداوة الشّرسة التي تنضح بها أدبيّاتهما طوال النّصف الثّاني من القرن الماضي. ولعلّ أهمّ ما يجلب الانتباه في هذا المقال هو دفاعه عن المهاجرين المسلمين في الغرب ونقد ما بات يسمّى "خُواف الإسلام" (الإسلاموفوبيا) الذي يراه صاحب المقال إفرازا طبيعيّا لتناقضات الامبرياليّة الغربيّة في خضمّ ما تعانيه من مصاعب مع بداية القرن الواحد والعشرين. ومع أنّ هذا المقال لا يخلو من نقاط ضعف تتمثّل بالخصوص في نكهته الإيديولوجيّة الصّارخة، حتّى لا نقول الفجّة أحيانا، فإنّ ذلك لا يمنع النّظر إليه بكونه معبّرا عن وجهة نظر مهمّة لشريحة لا تني تتعاظم في صفوف اليسار عموما والماركسي منه على وجه الخصوص في التّأكيد على احترام "حقّ التديّن" بوصفه غير متناف مع انخراط المتديّنين في النّضال من أجل مجتمع اشتراكيّ عموما، ومن هنا نقد الخطاب "المتهافت" لبعض "المرتدّين" عن الماركسيّة والمنقلبين إلى "يسار منافح عن الامبرياليّة" والدّاعين إلى "الإلحاد" على أساس من "فتوحات العلم الحديث" خدمة للمصالح الماديّة للرّأسماليّة العالميّة. كما أنّه لا يخلو من أهميّة أيضا في محاولته تحليل ظاهرة بعينها بصفة خاصّة، وهي ظاهرة محيّرة بعدّة مقاييس، ألا وهي الموقف "المستجدّ" من موضوعة الدّين، والسّعي إلى إيجاد مبرّرات له من خلال إعادة قراءة النّصوص المؤسّسة لماركس وانغلز ولينين بعين جديدة تُوائم بين ما يمكن وصفه بـ"النّظريّة العلميّة الخالدة" و"الموقف السّياسي الآني" الذي تفرضه موازين القوى على أرض الواقع.
****
قبل عشرين عاما، قدّمت مداخلة في اجتماع عامّ لحزب العمّال الاشتراكي حول موضوع "الماركسيّة والدّين". وقد بدأت كلامي حينها بعبارة: "ولحسن الحظّ، فإنّ الدّين اليوم، في بريطانيا العظمى، لا يمثّل قضيّة سياسيّة هامّة". لكن الحال الآن تغيّرت للأسف. فقد غدا الدّين، أو بالأحرى دين معيّن، وهو الإسلام، في قلب النّقاش السّياسي العامّ.
إنّه لا يمرّ يوم دون ظهور مقال يدقّ ناقوس الخطر بشأن الأئمّة الذين "يحضّون على الكراهيّة" أو حول سقوط مسجد في أيدي "متطرفّين"، أو بخصوص استطلاع للرّأي حول الطّبيعة المعيبة بشكل عميق للإسلام، أو مناقشة إذاعيّة لمسألة ما إذا كان المسلمون "المعتدلون" يبذلون ما يكفي من جهود لمكافحة "المتطرفين" وحماية الشّباب المسلم من الانسياق نحو "التطرّف"، أو برنامج تلفزيوني مخصّص لمحنة المرأة المسلمة، أو حكاية يقفّ لها شعر الرّأس حول حماقة ترتكب باسم الإسلام في مكان ما من العالم. وخلال إعدادي لكتابة هذا المقال، عثرت على هذا الخبر في صحيفة الاندبندنت أون صنداي (Independent on Sunday):
"حذّر أسقف روتشستر يوم أمس من أنّ التطرّف الإسلامي في بريطانيا يخلق مجتمعات (محظورة) على غير المسلمين(...) وقال: إنّ غير المسلمين يواجهون بعداء في الأماكن التي تسودها إيديولوجيا المتطرّفين الاسلاميّين".
ودون التثبّت من صحّة هذا الخبر الواضح السّخف، أو مدى دقّة هذا الادّعاء، فإنّ التدفّق المستمرّ لهذا النّوع من التّعليقات حوّل الإسلام إلى دين مُحاصَر. بل وخلق هذا العرض المستمرّ للإسلام بوصفه مشكلة إلى جانب شيطنة المسلمين، ظاهرة تستحقّ بحقّ تسميتها خواف الإسلام (إسلاموفوبيا Islamophobia).
وبالنّسبة لقرّاء هذه المجلّة، فإنّ السّبب في ذلك واضح تمام الوضوح، فهو لا يمكنه أن يكون متعلّقا بتعبير المسيحيّين عن عداء دفين تجاه الإسلام يعود إلى أيّام الحروب الصّليبيّة أو زمن الصّراع مع الدّولة العثمانيّة (رغم توظيف هذه الأفكار الرّجعيّة أحيانا على المستوى الإيديولوجي)، بل هو يعود بالأحرى بالأساس إلى كون معظم النّاس الذين يعيشون فوق أكبر احتياطيّات من النّفط والغاز الطّبيعي مسلمون. كما يعود أيضا، بشكل ثانوّي، إلى ارتداء مقاومة هذه الشّعوب للامبرياليّة في قسم كبير منها، منذ قيام الثّورة الإيرانيّة عام 1979، رداء الإسلام. فلو كان النّاس الذين يعيشون في الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى بوذيّين، أو لو وجدت في التّيبت حقول نفط مماثلة لتلك التي في المملكة السّعوديّة أو العراق، لكنّا اليوم نواجه ازدهار "خُواف البوذيّة" (Buddhophobia). وعندها، سيتطوّر انطلاقا من البيت الابيض والبنتاغون ووكالة المخابرات المركزيّة الأمريكيّة، ومن داونينغ ستريت [مقرّ مكاتب رئيس وزراء المملكة المتّحدة - م]، مرورا بشبكات الصّرف الصحّي لشبكتي فوكس نيوز (Fox News) وسي إن إن (CNN) وصحيفتي الصنّ (Sun ) والدّيلي ميل (Daily Mail)، فكرة أنّ البوذيّة، رغم كونها بلا شكّ دينا عظيما، تتضمّن عيبا خطيرا ملازما لها.
كما سيتمّ حينها تعبئة بعض "المفكّرين" أمثال صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington) وكريستوفر هيتشنز (Christopher Hitchens) ومارتن أميس (Martin Amis) لبيان أنّ البوذيّة، رغم ما مارسته من سحر على منتسبي حركة الهيبي السذّج في الستّينات، هي دين رجعيّ في الأساس يتّسم برفضه المتجذّر للحداثة والقيم الدّيمقراطيّة الغربيّة، وبفيوداليّته المتعصّبة، وثيوقراطيّته، وكرهه النّساء والمثليّين.
وبما أنّه قد حدث بالفعل استخدام خواف الإسلام على المستويين الوطنيّ والدّولي كغطاء إيديولوجيّ رئيسيّ، وكمبرّر للامبرياليّة وللحرب (على غرار استخدام العنصريّة الفجّة في القرنين الثّامن عشر والتاّسع عشر)، فإنّ ذلك زاد بشكل كبير في وجوب قيام فهم نظريّ صحيح للدّين في مختلف أشكاله، من أجل تغذية توجّه سياسي قويم. بل بوسعنا أن نقول كذلك إنّ الفهم الأخرق، الآليّ والأحاديّ، للتّحليل الماركسي للدّين كان عاملا جوهريّا في تخلّي عدد من أفراد وجماعات اليسار عن الثّوابت السّياسيّة السّابقة والانقلاب إلى يسار منافح عن الامبرياليّة.
والمثال الأكثر شهرة هو، بطبيعة الحال، مثال كريستوفر هيتشنز الذي ألّف كتابا عن الدّين بعنوان "الله ليس كبيرا" (God is Not Great) سنناقشه لاحقا، والذي كان انتقاله من موقع المفكّر اليساريّ والنّاقد الرّاديكالي للنّظام إلى موقع المتحزّب "النّاقد" لجورج بوش، سريعا ومتطرّفا (رغم أنّه لا يمكننا في حالة هيتشنز إلاّ أن نشكّ في أنّ اندفاعته نحو اليمين كانت نتيجة حوافز ماديّة أكثر منها نتيجة خطأ نظريّ بسيط). وكأمثلة أخرى على ذلك، نجد أعضاء "فريق إيوستون" (Euston Group) مثل نورمان غيراس (Norman Geras)، كما نجد من بين الجماعات اليساريّة المنظّمة الفرنسيّة "الكفاح العمّالي" (Lutte Ouvrière) التي حوّلها عداؤها للحجاب إلى حليف مؤقّت للدّولة الامبرياليّة الفرنسيّة في مواجهة مواطناتها الأكثر تعرّضا للقهر (1)، و"التّحالف من أجل حريّة العمّال" (Alliance for Workers’ Liberty) القريب من الدّوائر الصّهيونيّة والمعادي للإسلام.
وفي الوقت نفسه، وهذا ليس من قبيل الصّدفة، قامت حملة إلحاديّة صاخبة ومعادية للدّين في الولايات المتّحدة وانكلترا، تزعّمها عالم الأحياء ريتشارد داوكينز (Richard Dawkins) وكان من ضمن بطانتها، إلى جانب هيتشنز، الفيلسوف دانيال دينّيت (Daniel Dennett) وآخرون. ولعلّ من شأن التفحّص النّقديّ للكيفيّة التي يبسط بها هؤلاء النّاس حججهم ضدّ الدّين أن يوضّح بعض العناصر الهامّة التي يتضمّنها الموقف الماركسي الكلاسيكي. ولكن يبدو من المهمّ أن نقوم أوّلا بعرض المبادئ الأساسيّة التي يقوم عليها التّحليل الماركسي للدّين، على أن لا نبدأ بالشّروح المباشرة لماركس حول الدّين، بل بالقضايا الأساسيّة للفلسفة الماركسيّة.
الماديّة والدّين
الفلسفة الماركسية ماديّة. ووفقا لفريدريك انغلز في "لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكيّة الألمانيّة":
"إنّ المسألة الكبرى الأساسيّة لكلّ فلسفة، وخاصة الفلسفة الحديثة، هي العلاقة بين الفكر والوجود(...) ومسألة موقف الفكر من الوجود(...) تصل في مواجهة الكنيسة نقطة حرجة في شكل سؤال: هل خُلق العالم من قبل الله، أم هو كائن منذ الأزل ؟ وقد انقسم الفلاسفة حسب تبنّيهم لهذه الإجابة أو تلك إلى معسكرين كبيرين. أولئك الذين يؤكّدون أولويّة الفكر على الطّبيعة، ويعترفون بالتّالي في نهاية المطاف، بحدوث العالم... وهؤلاء يشكّلون معسكر المثاليّة، والآخرين الذين يعتبرون الطّبيعة القوّة الأصليّة، وهم ينتمون إلى مختلف مدارس الماديّة" (2).
فالماركسيّة، كما يقول انغلز، لا تقتصر على الوقوف بثبات في معسكر الماديّة، بل هي تمثّل أيضا "المرّة الأولى التي يحمل فيها التصوّر المادّي للعالم محمل الجدّ، ويتمّ تطبيقه بشكل مترابط على جميع المجالات المعرفيّة ذات الصّلة" (3).
فالماديّة الماركسيّة، مختزلة في عناصرها الأساسيّة، تعني قبول القضايا التالية :
1. العالم الماديّ موجود بشكل مستقلّ عن الوعي (الإنساني أو غيره).
2. معرفة العالم الواقعيّ، حتى لو لم تكن كاملة أو مطلقة، ممكنة، وقد تمّ بالفعل التوصّل إليها.
3. البشر جزء من الطّبيعة، لكنّهم يشكّلون جزء متميّزا.
4. العالم المادّي لا ينشأ، في المقام الأوّل، من الفكر البشريّ؛ بل إنّ الفكر البشريّ هو الذي ينشأ من العالم المادّي.
تتطابق القضيّتان الأولى والثّانية مع استنتاجات واكتشافات العلم الحديث، وهي تتموضع الآن ضمن نطاق الحسّ المشترك بعد أن تمّ إثباتها في الممارسة ملايين أو بلايين المرّات وبصفة يوميّة، على غرار معظم الاكتشافات العلميّة. وتتطابق القضيّة الثّالثة أيضا مع اكتشافات العلم الحديث، خاصّة اكتشافات داروين، وعلم المتحجرّات البشريّة الحديث، إلاّ أنّه سبق لماركس بحقّ أن عبّر عنها قبل داروين:
"الشّرط الأول لكلّ تاريخ بشريّ هو بطبيعة الحال وجود كائنات بشريّة حيّة. ومن هنا، فإنّ أوّل واقعة ملاحظة هي التّكوين الجسمانيّ لهؤلاء الأفراد والعلاقات التي ينشئها مع بقيّة جوانب الطّبيعة(...) وعلى كلّ تاريخ أن ينطلق من هذه القواعد الطبيعيّة وما تتعرّض له من تعديلات من قبل الفعل الإنسانيّ عبر التّاريخ. ويمكننا التّمييز بين البشر والحيوانات من خلال الوعي، ومن خلال الدّين، أو من خلال أيّ شيء يروق لنا. أمّا البشر ذاتهم، فيبدؤون في تمييز أنفسهم عن الحيوانات حالما يبدؤون في إنتاج وسائل عيشهم، وهي خطوة يستتبعها تنظيمهم الجسمانيّ ذاته"(4).
أمّا القضيّة الرّابعة فهي في آن الأكثر تميّزا بماركسيّتها والأقلّ انتشارا. فكثيرا ما نجد أناسا من أصحاب النّظرة المادّية للعلاقة بين البشر والطّبيعة، يتّخذون موقفا مثاليّا حالما يتعلّق الأمر بالعلاقة بين الأفكار والأوضاع المادّية ودور الأفكار في المجتمع والتّاريخ والسّياسة. وهم قد يقبلون، دون تفكير تقريبا، كون "الحرب الباردة كانت في الأساس مواجهة بين إيديولوجيّتين"، أو أنّ "الرّأسمالية قائمة على فكرة النّمو الاقتصادي". ولهذا السّبب كانت القضيّة الرّابعة أكثر القضايا التي أكّد عليها ماركس وانغلز بشدّة في عديد المناسبات:
"إنّ النّاس هم منتجو تصوّراتهم، وأفكارهم، إلخ. وهم أناس حقيقيّون فاعلون، ومشروطون بحدّ تطوّر قواهم الإنتاجيّة... ولا يمكن للوعي أن يكون أيّ شيء أبدا، سوى الوجود الواعي(...) وخلافا للفلسفة الألمانيّة التي تنزل من السّماء إلى الأرض، فإنّنا نصعد هنا من الأرض إلى السّماء(...) ننطلق من النّاس في عملهم الحقيقي، فانطلاقا من مجرى حياتهم الواقعيّة وتطوّرها نصوّر أيضا تطوّر الانعكاسات والأصداء الإيديولوجية لمجرى الحياة ذاك" (5).
هل نحتاج بصيرة نافذة كي نفهم أنّ أفكار وتصورّات ومفاهيم النّاس، وفي كلمة واحدة وعيهم، إنّما يتغيّر بتغّير ظروف عيشهم وعلاقاتهم الاجتماعيّة ووجودهم الاجتماعي؟ (6):
"خلال الإنتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخل النّاس في علاقات محدّدة ضروريّة ومستقلّة عن إراداتهم، في علاقات إنتاجيّة تطابق درجة معيّنة من تطوّر قواهم الإنتاجيّة الماديّة. ويشكّل مجموع هذه العلاقات الإنتاجيّة، البناء الاقتصادي للمجتمع والأساس الفعلي الذي يقوم عليه البناء الفوقي القانوني والسّياسي والذي تطابقه أشكال اجتماعيّة محدّدة من الوعي. فأسلوب إنتاج الحياة الماديّة يحدّد الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والفكريّة عامّة. وليس وعي النّاس هو الذي يحدّد وجودهم، بل على العكس من ذلك، إنّ وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدّد وعيهم"(7).
"فمثلما اكتشف داروين قانون تطوّر الطّبيعة العضويّة، اكتشف ماركس قانون تطوّر التّاريخ البشري المتمثّل في حقيقة بسيطة، تخفيها هيمنة الإيديولوجيا، ومفادها أنّه على النّاس أوّلا أن يحصلوا على الأكل والشّرب والملبس والمأوى قبل أن يتمكّنوا من تعاطي السّياسة والعلوم والفنّ والدّين، إلخ، ومن هنا، فإنّ إنتاج الموارد الماديّة الأساسيّة للوجود، وبالتّالي كلّ درجة من التطوّر الاقتصادي لشعب معيّن أو خلال حقبة معيّنة، هو ما يشكّل الأساس الذي قامت عليه مؤسّسات الدّولة والمفاهيم القانونيّة والفنّ، وحتّى الافكار الدّينيّة لأولئك النّاس، ولذا فإنّ تفسيرها يتطلّب الانطلاق من ذلك الأساس، لا العكس كما درج العمل به إلى حدّ الآن" (8).
ومن هنا، يتبيّن لنا حضور موقف محدّد من الدّين، سواء صريح أو ضمنيّ، في الأفكار الأساسيّة للماركسيّة. وعلاوة على ذلك، ينبغي أن يكون واضحا أنّ لهذا الموقف طابعا مزدوجا. فمن ناحية أولى، فإنّ الإيمان الدّيني، سواء عند الماركسيّ أو عند الماديّ، وأيّا كان شكله، أمر لا يمكن تصوّره. فالأفكار الدّينية، مثلها مثل كلّ الأفكار، هي منتجات اجتماعيّة وتاريخيّة. فهي تنتج من قبل البشر، وهو ما يستبعد بالضّرورة الاعتقاد الدّيني، لأنّ الأفكار الدّينيّة تريد أن تكون متجاوزة للطّبيعة وللنّاس وللتّاريخ ومتعالية على الجميع. ولهذا السّبب عينه، ترتبط المثاليّة الفلسفيّة بالدّين ارتباطا وثيقا. فإذا ما كان العقل سابقا على المادّة، فأيّ عقل هو إن لم يكن عقل الله؟ أليس الله، حسب اصطلاح هيغل، هو "العقل المطلق"؟ أو كما يقول الكتاب المقدّس: "في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة الله". هذا هو السّبب الذي دفع ليون تروتسكي (Léon Trotsky) كي يكتب في نهاية حياته: "سأموت ثوريّا، بروليتاريّا، ماركسيّا، ماديّا جدليّا، وبالتّالي ملحدا شرسا" (9).
ومن ناحية أخرى، فإنّ الماركسيّة ذاتها تستوجب تفسيرا ماديّا للدّين. فلا يكفي النّظر إلى الدّين ككلّ، أو إلى أيّ دين، على أنّه مجرّد وهم أو سخف استحوذ على عقول الملايين من النّاس لعدّة قرون. وهناك عادة شائعة بين بعض المؤمنين (وخصوصا في البلدان الامبرياليّة) تتمثّل في وصم معتقدات الآخرين (وخاصّة من يسمّونهم "الأهليّون") بالخرافة، معتبرين إيّاها غير منطقيّة ومخالفة للقوانين المعروفة للطّبيعة، دون أن يدركوا أنّ ذلك ينطبق أيضا على معتقداتهم بشأن حمل مريم العذراء بلا دنس، وقيامة يسوع، وتكثيره الخبز لإطعام خمسة آلاف نفس، وما شابه ذلك.
ولكنّ الماركسيّة لا تعمّم هذا الخطأ في وصم العقائد الأحيائيّة والكاثوليكيّة والإنجيليّة والراستافارايّة [نحلة تقدّس الامبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي- م] بنفس السّخف. فهي تتطلّب تحليلا للجذور الاجتماعيّة للدّين في العموم، ولمعتقدات دينيّة محدّدة بذاتها، وفهم الاحتياجات الإنسانيّة الحقيقيّة، الاجتماعيّة منها والنّفسيّة، والظّروف التّاريخيّة الفعليّة التي تطابق تلك المعتقدات والمذاهب. فعلى الماركسيّ أن يكون قادرا على فهم كيف كان الاعتقاد في قداسة هيلا سيلاسي وخلوده قادرا على إلهام موسيقيّ من عيار بوب مارلي (Bob Marley) في جامايكا الستّينات، أو كيف كان الاعتقاد في ألوهيّة يسوع وخلوده ملهما لفنّان وعالم رياضيّات مثل بييرو ديلا فرانشيسكا (Piero della Francesca) في فلورنسا القرن الخامس عشر.
وإذا كان لنا أن ننتقل الآن إلى أهمّ بيان مباشر لماركس حول الدّين، وهو ذاك الوارد في الصّفحات الأولى من "مقدّمة في الإسهام في نقد فلسفة الحقّ عند هيغل" (10)، فسنجد أنّه صيغة مكثّفة لجميع تلك العناصر، وهو يبدأ بالعبارة التّالية: "وبالنّسبة لألمانيا، فإنّ نقد الدّين قد اكتمل بشكل أساسيّ، ونقد الدّين هو الشّرط المسبق لكلّ نقد".
وقد قصد ماركس بكلامه هذا أنّ العمل المشترك بين الثّورة العلميّة والتّنوير (الموسوعيّون الفرنسيّون خصوصا) ونقد الكتاب المقدّس من قبل اليسار الهيغلي العلمانيّ في ألمانيا، هو من قام بإجهاض طموحات المسيحيّة والكتاب المقدّس في تقديم صيغة واقعيّة ودقيقة للطّبيعة وللتّاريخ، بل ولاهوت متماسك ومتّسق. وعلاوة على ذلك، فقد كان ذلك العمل ضروريّا وتقدّميّا نظرا لاستحالة القيام بتحليل نقدي حقيقيّ للعالم ما لم يتحرّر الفكر البشري من غشاوة العقائد الدّينيّة. ولكن هذه الجملة البسيطة مثّلت كلّ ما كان عند ماركس ليقوله حول هذا الجانب من المسألة، ذلك أنّه اعتبر دحض الدّين أمرا ناجزا، وهو ما أدّى به إلى أن ينتقل بسرعة نحو هدفه الرّئيسي، ألا وهو تحليل الأسس الاجتماعيّة للدّين: "إنّ أساس النّقد الإلحاديّ هو: الإنسان يصنع الدّين، والدّين لا يصنع الإنسان". هذه هي نقطة البداية. وفيما يلي فقرة ذات كثافة استثنائيّة، مميّزة لماركس، يمكن اعتبارها بمثابة أطروحة دكتوراه مختزلة في عبارات قليلة:
"إنّ أساس النّقد الإلحاديّ هو: الإنسان يصنع الدّين، والدّين لا يصنع الإنسان. الدّين هو في الواقع وعي الإنسان وإحساسه بذاته، وهذا ما لم يجده الإنسان بعد، أو افتقده مرّة أخرى. لكن الإنسان ليس كائنا مجرّدا يعيش خارج العالم الواقعي. الإنسان هو عالم الإنسان، هو الدّولة والمجتمع. هذه الدّولة، وذاك المجتمع ينتجان الدّين، أي وعيا مغلوطا للعالم، لأنّهما في ذاتهما عالم زائف. الدّين هو النّظريّة العامّة لهذا العالم، وخلاصته الموسوعيّة، ومنطقه في شكل شعبيّ، ووسام شرفه الرّوحي، وحماسته، ودعامته المعنويّة، ومتمّمه المهيب، وهو أساسه الكونيّ للعزاء والتّبرير. إنّه التحقّق الوهميّ لجوهر الإنسان، لأنّ جوهر الإنسان لا حقيقة واقعيّة له. لذلك فإنّ الصّراع ضدّ الدّين هو بصورة غير مباشرة صراع ضدّ هذا العالم الذي يمثّل الدّين شذاه الرّوحي".
الدّين إذن هو استجابة للاغتراب الإنساني، الإنسان الذي "خسر نفسه". ولكن الاغتراب ليس شرطا مجرّدا أو خارج التّاريخ، بل هو نتاج ظروف اجتماعيّة محدّدة. ومع أنّ المجتمع هو الذي ينتج الدّين، أي رؤية مقلوبة للعالم يرضخ فيه البشر لإله وهميّ من صنع أيديهم، وذلك لأنّهم يعيشون في عالم مقلوب يخضعون فيه لمنتجات عملهم ذاتها، إلاّ أنّ الدّين ليس مجرّد توليف عشوائي بين خرافات أو معتقدات خاطئة، بل هو "نظريّة عامّة" لهذا العالم المغترب، للكيفيّة التي يحاول من خلالها بشر مغتربون إعطاء معنى لحيواتهم المغتربة في مجتمع مغترب. ولذلك، فهو يقوم بجملة من الوظائف الهامّة والمتنوّعة التي أشار إليها ماركس: "الخلاصة الموسوعيّة"، "منطق في شكل شعبيّ"، إلخ. وبالتّالي، فإنّ الصّراع ضدّ الدّين هو "صراع ضدّ هذا العالم الذي يمثّل الدّين شذاه الرّوحي"، هذا العالم المغترب الذي يحتاج النّاس فيه إلى الدّين.
على أنّه يتوجّب علينا توضيح نقطتين بشأن هذا المقطع. الأولى أنّه يكاد يكون متجاهلا على المستوى العالمي من قبل المعلّقين الذين يقدّمون ملخّصات أو شروحات لفكر ماركس بخصوص الدّين، ربّما لأنّهم لم يقرؤوه (وهذا غير مرجّح)، أو لأنّهم (وهذا الأرجح) لم يفهموه، أو لأنّه (وهذا الأكثر ترجيحا) يتعارض جذريّا مع محاولات اختزال النّظريّة الماركسيّة للدّين إلى مجرّد تحليل أحاديّ من قبيل "يعتبر ماركس الدّين أداة الطّبقة الحاكمة" أو "حسب ماركس، وظيفة الدّين هي العمل على تهدئة الجماهير الكادحة". وبالطّبع، فإنّ ماركس قال مثل هذه الأمور عن الدّين، ولكنّه قال أيضا أشياء كثيرة أخرى بشأنه، واختزال مجمل هذه النّظريّة المعقّدة إلى واحد من مكوّناتها، يؤدّي في الواقع إلى تزييفها. والنّقطة الثّانية هي أنّ ماركس كان شديد الحرص على استنتاجاته، حتّى أنّه كرّرها مرّات ومرّات، من خلال سحابة من الاستعارات والأمثال (11).
ومع ذلك، فقد قام ماركس قبل أن يختم حججه بخصوص الدّين، بإدراج فقرة في غاية الأهميّة:
"المعاناة الدّينية هي في آن، تعبير عن معاناة واقعيّة من جهة، واحتجاج على المعاناة الواقعيّة من جهة أخرى. الدّين هو زفرة المخلوق المضطهد، قلب عالم دون قلب، وهو روح ظروف دون روح. إنّه أفيون الشّعوب" (12).
وإذا ما كان هذا المقطع أكثر شهرة من سابقه، فإنّ ذلك يعود إلى حدّ كبير إلى الجملة الواردة في نهايته والتي شاعت على نطاق واسع (وهي غالبا ما تعرض على أنّها جوهر أو مجمل تحليل ماركس). وفي الواقع، فإنّ الجملة الأولى ربّما كانت أكثر أهميّة وفائدة لفهم الدّور السّياسي للدّين. وإصرار ماركس على أنّ الدّين هو في آن تعبير عن المعاناة وعلى الاحتجاج عليها، هو النّقطة الرّئيسيّة التي تدين وتدحض كلّ تحليل يقصر نفسه على بيان الآثار المخدّرة والمنوّمة للدّين. وهو ما يؤشّر أيضا باتّجاه الحقيقة التّاريخيّة الهامّة (التي سنعود إليها) التي تفيد بقيام العديد من الحركات التقدّمية، الرّاديكاليّة أو حتى الثّوريّة، إمّا باتّخاذ شكل دينيّ، أو الاصطباغ بصبغة دينيّة، أو بتسليم قيادتها لأشخاص يحملون عقيدة دينيّة.
وقد أشار ماركس وإنغلز في أعمالهما إلى الدّين في عدّة مناسبات، وحلّلاه في كثير من الأحيان. وعلى وجه الخصوص، فإنّ ماركس الشابّ كتب "المسألة اليهوديّة"، وهو كتاب مثير للجدل، لصالح تحرّر اليهود (13)، كما أسهم انغلز بعدد من الدّراسات المثيرة للاهتمام حول التطوّر التّاريخيّ للمسيحيّة ودورها، ولا سيّما "حرب الفلاّحين في ألمانيا" و"ضدّ دوهرينغ" ومقدّمة الطّبعة الانكليزيّة من "الاشتراكيّة الطّوباويّة والاشتراكيّة العلميّة" و"برونو باور والمسيحيّة المبكّرة"، و"مساهمة في تاريخ المسيحيّة المبكّرة" (14). إلاّ أنّ كلّ هذه التّعليقات يجمع بينها أمر واحد: أنّها لا تنظر إلى العقائد الدّينيّة والطّوائف والكنائس والحركات والصّراعات في حدّ ذاتها، أو بوصفها مجرّد حماقات أو خداع مدبّر من قبل الكهنة، بقدر ما تنظر إليها دائما بوصفها أفكارا وتعبيرات مشوّهة عن حاجات ومصالح اجتماعيّة حقيقيّة. ولعلّ من شأن بعض المقتطفات توضيح هذه النّقطة:
• من "حرب الفلاّحين في ألمانيا": "حتّى في ما يسمّى الحروب الدّينيّة للقرن السّادس عشر، فإنّ الأمر كان يتعلّق في المقام الأوّل بمصالح مادية طبقيّة ملموسة، وكانت تلك الحروب صراعات طبقيّة، كما هو الشّأن تماما للاصطدامات الدّاخليّة التي وقعت لاحقا في كلّ من انكلترا وفرنسا. وإذا ما كانت تلك الصّراعات الطبقيّة، في ذلك الوقت، تحمل راية الدّين، بحيث تستّرت مصالح مختلف الطّبقات وحاجاتها ومطالبها وراء قناع الدّين، فإنّ ذلك لا يغيّر من واقع الأمر شيئا، وهو يفسّر بكلّ يسر بطبيعة الظّروف في ألمانيا ذاك الزّمان(...) لقد تواصلت المعارضة الثّوريّة ضدّ الفيوداليّة طوال العصور الوسطى، وبدت، وفقا للظّروف، في شكل تصوّف أحيانا، أو في شكل هرطقة منفتحة أحيانا أخرى، أو في شكل عصيان مسلّح".
• من مقدّمة "الاشتراكيّة الطّوباويّة والاشتراكيّة العلميّة": "كانت العقيدة الكالفينيّة مناسبة بشكل خاصّ للعناصر الأكثر جرأة من بين المنتمين لبورجوازيّة ذاك الزّمان.. وكان مذهبها القدريّ تعبيرا دينيّا عن حقيقة مفادها أنّ النّجاح والفشل في عالم المنافسة التّجاريّة، لا يتوقّفان على نشاط الإنسان أو مهارته، بل على ظروف لا يمكنه التحكّم فيها".
• من "تاريخ المسيحيّة المبكّرة": "كانت المسيحيّة في الأصل حركة مضطهَدين، ظهرت للمرّة الأولى على أنّها دين للعبيد والمُعتَقين والفقراء والنّاس المحرومين من جميع الحقوق، والشّعوب التي قهرتها أو استبدّت بها روما (...) وكان لا بدّ [لانتفاضات الفلاّحين والعامّة في العصور الوسطى]، ولجميع الحركات الجماهيريّة في العصور الوسطى، أن ترتدى قناع الدّين بالضّرورة، وقد بدت وكأنّها استعادة للمسيحيّة الأولى إثر ما أصابها من انحطاط متزايد، ولكن التّمجيد الدّينيّ كان يخفي بانتظام مصالح دنيويّة ملموسة ".
وبصفة عرضيّة، في هذا العمل نفسه، نقرأ إشارة حول الإسلام:
"الإسلام على مقاس الشّرقيّين وبالتّحديد العرب، أي سكّان المناطق الحضريّة العاملين في مجال التّجارة والصّناعة من جهة أولى، والبدو الرحّل من ناحية أخرى. لكنّ ذلك يتضمّن بذرة اصطدامات دوريّة. فمع إثراء سكّان المدن الغنية والانغماس في التّرف، يتراخون في تطبيق "الشّريعة". أمّا البدو الفقراء، فينظرون بسبب فقرهم وأخلاقهم الصّارمة، بعين الحسد والجشع لتلك الثّروات والمتع. وحينها يتوحّدون تحت قيادة نبيّ، مهديّ، لتأديب المرتدّين وإقامة معالم الشّريعة والإيمان الحقيقيّ ومكافأة أنفسهم على ذلك بالاستيلاء على كنوز المرتدّين. وبعد مائة سنة، يجد هؤلاء أنفسهم بطبيعة الحال، في نفس موقف المرتدّين؛ ومن هنا وجوب قيام حركة تطهير جديدة تحت راية مهديّ جديد، لتتواصل اللّعبة. وقد حدث هذا الأمر وبهذه الطريقة منذ حروب المرابطين والموحّدين الأفارقة لغزو إسبانيا وصولا إلى خروج المهديّ الأخير في الخرطوم الذي تحدّى بريطانيا بانتصاراته(...) إنّها حركات تعود لأسباب اقتصاديّة، رغم ارتدائها غطاء دينيّا".
والمسألة هنا لا تتعلّق بصحّة أو خطأ هذه الملاحظات النّوعيّة تاريخيّا، بل بتسليط الضّوء على المنهجيّة المتماسكة التي تستند إليها.
داوكينز، هيتشنز وإيغلتون
ريتشارد داوكينز هو عالم أحياء تطوّري اشتهر من خلال كتابه "الجين الأنانيّ" (The Selfish Gene) قبل أن يبني سمعة كبيرة ويختطّ لنفسه مسارا خاصّا بوصفه ناشرا للثّقافة العلميّة المبسّطة بين العموم. وقد نشر في عام 2006 كتابا بعنوان "وَهْمُ الله" (The God Delusion) يمثّل هجوما مباشرا ضدّ الدّين ودفاعا عن الإلحاد، وقد غدا من أكثر الكتب مبيعا على المستوى العالميّ وتسبّب في إثارة جدل واسع، خاصّة في الولايات المتّحدة، وتلقّى استحسان جهات متنوّعة مثل إيان ماك إيوان (Ian McEwan)، ومايكل فراين (Michael Frayn)، ومجلّة ذي سبكتاتور (the Spectator)، وصحيفة الدّيلي ميل (the Daily Mail )، وستيفن بينكر (Stephen Pinker).
ويجب أن أقول بداية إنّني لا أشارك إعجاب العامّة بأسلوب وفكر داوكينز. فأن تقرأ له بعد أن تقرأ لماركس هو مثيل الانتقال من القراءة لتولستوي (Toltstoy) أو لجيمس جويس (James Joyce) إلى القراءة لكينغسلي أميس (Kingsley Amis) أو لأغاثا كريستي (Agatha Christie). وحيث يختزل ماركس كتابا في فقرة، يوسّع داوكينز مقالا قصيرا ليغدو في حجم كتاب كبير. وفي الواقع، فإنّ جميع صفحات " وَهْمُ الله" التي تربو عن 460 صفحة لا تتجاوز من النّاحية الفكريّة ما لخّصه ماركس في الجملة الأولى من تحليله في عام 1843، أي اكتمال نقد الدّين في أساسه. فما يعرضه داوكينز هو دحض تَجْرَبِيٌّ (empiricist) وعقلانيّ للدّين جدير بعصر التّنوير، فهو لا يجاوز برهنة "علميّة" وضعانيّة على انعدام أيّ دليل واقعيّ يدعم ما يسمّيه "فرضيّة الله"، وعلى أنّ الأدلّة تجعلنا تقريبا (إن لم يكن بصفة مطلقا) على يقين بأنّ الله غير موجود. وكتكملة لذلك، يتحفنا بحجج منطقيّة داحضة لمختلف البراهين عن وجود الله، بدءا من "أدلّة" القدّيس توما الاكويني الجليلة و"رهان باسكال"، وصولا إلى الهذيانات الأخيرة للمدعوّ ستيفن أونوين (Stephen Unwin)، مع إيراد أمثلة عديدة على الحماقات والجرائم التي ارتكبت باسم الدّين. وإنّني لأفترض وجود من قد يمثّل له هذا الأمر كشفا مهمّا، وأنّ آخرين قد يستمتعون به لأنّه يجعلهم يشعرون بأنّهم أكثر ذكاء من الجماهير الجاهلة التي تنطلي عليها تلك الخرافات، ولكن لا جديد حقّا في كلّ ذلك من النّاحية النّظريّة، أو لنقل سوى نزر يسير هو نفس ما نجده مقرّرا ومعروفا منذ أكثر من مائتي عام خلت.
وقد يكون الاستثناء الوحيد في جميع ذلك، هو محاولة داوكينز تفسير سبب انتشار الدّين على نطاق واسع في المجتمع البشريّ، ولكنّه فشل في محاولته تلك فشلا مزريا. فبما أنّه عالم أحياء تطوّري كما يعلن، فقد أحسّ بأنّه ملزم في إطار شرحه، بالقول بالفوائد الوراثيّة الموجودة في عمليّة الانتقاء الطّبيعي، إلاّ أنّ عداءه السّطحي للدّين تطلبّ منه أيضا إنكار أن يكون للدّين أيّ فوائد لضمان بقاء الفرد أو المجتمع. وقد حاول الخروج من هذا التّناقض عن طريق الإيحاء بأنّ الدّين مجرّد أثر جانبيّ لميزة يعلن أنّها مفيدة في الصّراع من أجل البقاء، ألا وهي نزوع الأطفال إلى تصديق ما يقوله لهم آباؤهم. ومن الواضح أنّ هذا الكلام لا يصمد أمام النّقد. أوّلا، لأنّ معرفة إلى أيّ مدى يفوق تأثّر الشّبان بالإيحاء شكّهم، ولا سيّما في مرحلة المراهقة، مسألة فيها نظر. وثانيا، لأنّه يمكن القول بنفس القدر أيضا إنّ التأثّر بالإيحاء هو في العموم، ميزة. وثالثا، لأنّه يبدو من المرجّح للغاية أن يكون مدى التأثّر بالإيحاء ودرجة نفعه في آن، مشروطان اجتماعيّا، ومن ثمّ يختلفان بدرجات متفاوتة باختلاف المجتمعات. وأخيرا، فإنّ هذه النّظريّة، مثلها مثل أيّ نظريّة أخرى تفسّر سلوك ومعتقدات الأطفال من خلال سلوك ومعتقدات والديهم، تواجه - إذا ما أرادت تجنّب الاضطرار إلى العودة القهقرى إلى ما لا نهاية - مشكلة تفسير التصرّف الأوّلي للوالدين.
وكما لاحظ ماركس، فإنّ "المعلّمين أنفسهم يجب أن يتعلّموا"(15). وبعبارة أخرى، فإن شرح داوكينز لا يفسّر أيّ شيء على الإطلاق. بل إنّ نهجه في كتاب " وَهْمُ الله" في مجمله، لا في هذا الخصوص فحسب، يدلّ على أنّه لم يجد ما يكفي من الوقت للنّظر بجديّة في النّظريّة الماركسيّة للدّين.
ومع ذلك، فإنّ الرّداءة وعدم الحصافة الفكريّة ليسا موضوع انتقادي الرّئيسي لهذا الكتاب، إذ أنّ اعتراضي الرّئيسي عليه يتعلّق بما حواه من استنتاجات سياسيّة رجعيّة النّاتجة عن ضعفه المنهجيّ. فكما قال ماركس في ردّه على الفيلسوف الألماني فيورباخ، فإنّ الماديّة الميكانيكيّة تترك الباب مفتوحا دائما أمام المثاليّة، وداوكينز هو مثال صارخ على ذلك. فبدون إدراك منه، يسلك داوكينز مسارا متعرّجا ينقله من الحتميّة الوراثيّة الماديّة المبتذلة في نظرتها الى الطّبيعة والسّلوك البشريّ في المطلق، إلى مثاليّة مسرفة في رؤيتها لدور الدّين في ظروف تاريخيّة ملموسة. وهو يرتكب عند كلّ منعطف، خطأ افتراض أنّ النّاس عندما يفعلون شيئا باسم الدّين، فإنّ الدّين هو ما يحفّز سلوكهم. ولعلّ المقطع التّالي من مقاله "استحالة الله" (The Improbability of God) يوجز هذا النّهج :
"إنّ معظم ما يقوم به النّاس يتمّ باسم الله. فالإيرلنديّون يفجّر بعضهم بعضا باسمه، والعرب يفجّرون أنفسهم باسمه، والأئمّة وآيات الله يضطهدون المرأة باسمه، والكهنة والقساوسة العزّاب يتدخّلون في الحياة الجنسيّة لأتباعهم باسمه، والكهنة اليهود يذبحون الحيوانات الحيّة باسمه. وسجّل الدّين في التّاريخ مثير للإعجاب: انطلاقا من الحروب الصّليبيّة الدّمويّة، والتّعذيب الذي مارسته محاكم التّفتيش والقتل الجماعي الذي ارتكبه الغزاة، وتدمير الثّقافات من قبل المبشّرين، وصولا إلى التصدّي الشّرعيّ إلى آخر لحظة ممكنة لكلّ تقدّم جديد للحقيقة العلميّة. وماذا خدم كلّ ذلك؟ أعتقد أنّه أصبح من الواضح بشكل متزايد أنّ الجواب هو: لا شيء. ليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بوجود أيّ شكل من أشكال الآلهة، فيما يوجد أسباب وجيهة تدعو إلى الاعتقاد بأنّها لم توجد قطّ. إنّ الأمر لم يكن سوى مضيعة كبيرة للوقت وللأنفس، ويكاد يكون نكتة ذات أبعاد كونيّة لو لم يكن يتضمّن هذا القدر من المأساويّة" (16).
في الواقع، ليس هذا سوى صيغة معدّلة حسب مذاق اليوم للعبارة المكرورة الزّاعمة أنّ الدّين كان وراء الكثير من الحروب. إلاّ أنّ ذلك لا يصمد أمام الفحص النّقديّ، ولنأخذ على ذلك مثال إيرلندا. فالفكرة القائلة بأنّ الصّراع الإيرلنديّ كان في أساسه دينيّا هي في آن كاذبة ورجعيّة. إنّها كاذبة حتّى في ما يتعلّق ببياناتها الرّسميّة وبوعي دعاتها الرّئيسيّين، فإذا ما كان كثير من الجمهوريّين، وليس كلّهم بأيّ حال من الأحوال، من الكاثوليك، فإنّ أيّ منهم لم يصرّح (أو حتّى فكّر) بأنّه كان يناضل من أجل الكاثوليكيّة؛ فالنّضال كان من أجل إيرلندا مستقلّة ومتّحدة. وقد كانت الأمور أقلّ وضوحا في معسكر الإتّحاديّين، حيث كان للتعصّب الأعمى دور أكبر بما لا يقاس، وذلك على الرّغم من أنّ الهدف المعلن كان أساسا من طبيعة "وطنيّة"، أي أن يظلّوا "بريطانيّين". وبصفة عامّة، فإنّه كان من الواضح أنّ تلك النّزاعات كانت تخفي طموحات وطنيّة، فهي لم تكن خلافات حول مبدأ الاستحالة أو العصمة البابويّة، بل حول مسائل حقيقيّة اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة تتعلّق بالاستغلال والفقر والتّمييز والاضطهاد. ومن هنا، فإنّ النّظر إلى الصّراع بوصفه صراعا دينيّا بالأساس هو موقف رجعيّ لأنّه يكرّس الصّورة النّمطيّة العنصريّة التي تظهر الإيرلنديّين في صورة بدائيّين أغبياء، ولأنّه يساعد على إضفاء الشّرعيّة على الحكم البريطاني بوصفه حكما محايدا بين فصائل دينيّة متحاربة.
ويجب علينا أن ننسب الفضل لداوكينز في معارضته الحرب على العراق، وأنّه ليس واحدا من الأصدقاء السّياسيّين لجورج بوش. ومع ذلك، فإنّ مقاربته للدّين في سياق "الحرب ضدّ الإرهاب"، حتى وإن لم تكن نابعة من نيّة مبيّتة، هي أكثر رجعيّة. ذلك أنّ اعتبار عداء المسلمين للغرب مجانيّا وغير مبرّر يمثّل عنصرا مركزيّا في ايديولوجيّة المحافظين الجدد، بوش وتشيني وبلير وبراون، وهو لا ينظر إليه باعتباره ردّة فعل على الإمبرياليّة الغربيّة والاستغلال والهيمنة، بل اعتداء على أساس الدّين يسعى إلى تدمير العالم غير المسلم وقهره، وربّما أسلمته.
وبينما يرى البعض أنّ هذه الأهداف أصيلة في الإسلام بصفة عامّة (17)، يرى بوش وبلير وجوقتهما أنّها نتاج تأويل " شرّير" للإسلام أو تحريف له، ومع ذلك فإنّ الدّافع في الحالتين يبقى من طبيعة دينيّة. وهذا التّفسير يمثّل تحدّيا للعقل، إذ يتعارض مع تصريحات كلّ من تنظيم القاعدة الذي أعلن مطالب سياسيّة واضحة مثل انسحاب القوّات الأمريكيّة من المملكة العربيّة السّعوديّة، وتصريحات منفّذي تفجيرات 7 يوليو/تمّوز فى لندن الذين أعلنوا أنّ الدّافع إليها هو ما يحدث في العراق. وفكرة أنّ أمريكا أو بريطانيا أو أيّ من الدّول الغربيّة الكبرى يمكن تدميرها وغزوها أو أسلمتها عن طريق وضع قنابل في قطارات الأنفاق أو توجيه طائرات نحو ناطحات سحاب، هي من السّخف بحيث لا يمكن أن تكون السّبب الحقيقيّ لحملة عسكريّة مستمرّة. كما أنّ الفكرة القائلة بأنّ اعتداء إرهابيّا يمكن أن يدفع الولايات المتّحدة إلى التوقّف عن دعم إسرائيل أو إخلاء أفغانستان خاطئة أيضا، ولكنّها ليست مستحيلة بشكل كامل. وبالنّسبة لبوش وبلير والمحافظون الجدد، فإنّ التّفسير "الدّينيّ" أمر ضروريّ، لأنّهم سيكونون بدونه مضطرّين للاعتراف بجرائم الامبرياليّة وسياساتهم الإجراميّة. وهذا النّهج هو الذي انضمّ إليه وأيّده داوكينز:
"(انعدام الوعي) قد تكون العبارة المناسبة لوصف تخريب كشك للهاتف. إلاّ أنّها لا تساعد على فهم ما الذي ضرب نيويورك يوم 11 سبتمبر(...)، إنّه صادر عن الدّين. والدّين هو أيضا، بطبيعة الحال، المصدر الأساسي للخلافات في الشّرق الأوسط التي دفعت منذ البداية إلى استخدام هذا السّلاح الفتّاك. ولكن تلك قصّة أخرى لا تعنيني هنا. ما يهمّني هو السّلاح نفسه. فملء العالم بالأديان، أو بأديان من النّمط الإبراهيميّ، هو مثيل ملء الشّوارع بمسدّسات مشحونة" (18).
أمّا كريستوفر هيتشنز، فهو يشبه داوكينز، في الرّداءة. فكتابه "الله ليس كبيرا" يحتلّ من النّاحية الفكريّة موقعا أدنى من كتاب "وَهْمُ الله" مع استخدام أكثر تعسّفا لمزيج من الحكايات الشّخصيّة الاستعراضيّة والجدل الصّحفي المتهافت. وقد كانت مماهاته بين المسألة الإلحاديّة والخواف من الإسلام (الإسلاموفوبيا) متضمّن في عنوان الكتاب (وهو إشارة ساخرة إلى هتاف المسلمين: "الله أكبر"!) وممتدّ بلا أدنى حياء على طول صفحاته. وهو يستشهد، كي يحيّي بلا شكّ ماضيه اليساريّ، بفقرتين لماركس حول الدّين يوافقه فيها، ليواصل بعد ذلك كلامه متجاهلا معناها بصفة تامّة. وفي القسم الرّئيسي من الكتاب وهو بعنوان "الدّين يقتل"، يأخذنا هيتشنز في جولة هجوميّة إلى ستّ مدن تمزّقها الصّراعات (بلفاست وبيروت وبومباي وبلغراد وبيت لحم وبغداد) ليقدّم لنا كلّ مرّة موجزا ملخّصا للنّزاع في كلّ منها من وجهة نظر مركّزة حصريّا على الأحقاد الدّينيّة الخالصة، دون أيّ إحالة إلى التّاريخ، أو الامبرياليّة أو القمع أو الصّراع الطّبقيّ. إنّها محاكاة هزليّة للتّحليل السّياسيّ الاجتماعيّ. ولعلّ تحليل "فلسطين" هو الأكثر ترويعا على وجه الخصوص :
"لقد سمعت مرّة المأسوف عليه أبا إيبان، وهو واحد من أرقى الدّبلوماسيّين ورجال السّياسة في إسرائيل وأكثرهم رقّة ضمير، يلقي كلمة في نيويورك. وقد قال إنّ أوّل ما يلفت النّظر بشأن الصّراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ هو السّهولة التي يمكن حلّه بها(...) شعبان بنفس التّعداد تقريبا يدّعيان ملكيّة نفس الأرض. والحلّ، بالطّبع، هو إنشاء دولتين جنبا إلى جنب. هل يوجد شيء أوضح من هذا بالنّسبة للذّكاء البشريّ؟ لقد كان هذا ما سيتمّ منذ عقود، لو تمّ إبعاد الحاخامات والأيمّة والقساوسة. إلاّ أنّ الإدّعاءات الحصريّة للسّلطة الإلهيّة التي أُعلنت من الجانبين من قبل رجال دين مهووسين مدعومين من قبل متعصبّين مسيحيّين يأملون في إعلان نهاية العالم (المسبوقة بموت اليهود أو تنصيرهم) جعلت الوضع لا يطاق، وجعل البشرية جمعاء رهينة نزاع يحمل في طيّاته تهديدا نوويّا. الدّين يسمّم كلّ شيء".
إنّ كلّ هذا يبعث على الضّحك، خاصّة حين يقول هيتشنز، وأنا أقتبس حرفيّا من يوتيوب: "إنّني مقتنع تماما أنّ المصدر الرّئيسي للكراهيّة في العالم هو الدّين" (19)، مرجعا ذلك لا إلى الوقائع الملموسة للرّأسمالية والإمبرياليّة وعدم المساواة والاستغلال أو الصّراع الطّبقيّ، بل إلى مجرّد خطأ استقرّ في أذهان النّاس.
إنّ معارضة حجج داوكينز وهيتشنز بقوّة لا يمكنها بأيّ حال أن تؤدّي إلى تمييع النّقد الماركسيّ الكلاسيكيّ للدّين أو إلى فتح الباب أمام أيّ توافق نظريّ مع الأفكار الدّينيّة. ولنترك الآن هيتشنز المقرف لنلتحق بالأمميّ تيري إيغلتون (Terry Eagleton) الذي يعتبر مثالا لما ينبغي تجنّبه. كان إيغلتون منظّرا أدبيّا وثقافيّا بارزا، وقريبا من الماركسيّة، وقد هاجم في الماضي عنصريّة فيليب لاركن (Philip Larkin) وتعصّبه. إلاّ أنّه تميّز مؤخّرا بإدانة إسلاموفوبيّة زميله في الجامعة مارتن أميس. وكتب في عام 2006 نقدا لاذعا لكتاب "وَهْمُ الله" في المجلّة النّقديّة اللندنيّة لندن ريفيو أوف بوكس(London Review of Books). ورغم تقديم إيغلتون بعض الحجج المماثلة لما نعرضه هنا، على غرار ما يتعلّق بإيرلندا على سبيل المثال، فإنّ السّمات العامّة لنقده ليست ماركسيّة. وقد كانت حجّته الرّئيسيّة تتمثّل في أنّ داوكينز هاجم المسيحيّين الأصوليّين والمسلمين كما لو أنّهم يمثّلون الدّين في مجمله، متناسيا وجود لاهوت "تحرّري" لا يمكن الشكّ في وجوده:
"إنّنا نتساءل عن وجهات نظر داوكينز بشأن الاختلافات المعرفيّة بين القدّيس توما الاكويني ودونس سكوت (Duns Scot)؟ هل قرأ ما يقوله إيريجان (Erigène) حول الذّاتيّة، وراهنر (Rahner) حول الرّحمة، ومولتمان (Moltman) حول الأمل؟ بل هل سمع بهم قطّ؟ كيف له أن يتخيّل، بوصفه محاميا شابّا مفعما بالحقد، أنّه يمكن القضاء على المعارضة من خلال تجاهل أقوى حججها؟" (20).
إنّ نقدا كهذا لكتاب داوكينز، لا يخلو من صحّة، ولكنّه لا يخلو أيضا من مشاكل خطيرة. أوّلا، لإنّه من غير المعقول إعلان ضرورة الإطّلاع على جميع تعقيدات اللاّهوت المسيحيّ (أو البوذيّ أو الزرّادشتيّ) من أجل التمكنّ من الدّفاع عن الإلحاد ورفض اللاّهوت بصفته تلك. وثانيا، لأنّ إيغلتون، من خلال البرهنة على فهمه لمفهوم اللاّهوت التحرّري حول إله غير ماديّ ومجرّد محبّ ومسامح، على نقيض إله الكتاب المقدّس المنتقم، إنّما يترك الباب مفتوحا بالتّأكيد أمام إمكانيّة أن يكون ذاك الإله التحرّري قد وجد فعلا أو أنّه جدير بالعبادة، وهو ما يكرّره حين يقدّم تصوّره ليسوع باعتباره نموذجا أوّليّا للثّوريّ المناضل ضدّ الامبرياليّة:
"يسوع لم يمت لأنّه كان مجنونا أو مازوخيّا، بل لأنّ الدّولة الرّومانيّة وأزلامها المحليّون وكلاب حراستها ارتعبوا أمام ما تبشّر به رسالته من محبّة ورحمة وعدالة، فضلا عن شعبيّته الهائلة بين الفقراء، وقد تخلّصوا منه لمنع حدوث انتفاضة جماهيريّة في إطار وضع سياسيّ شديد التقلّب" (21).
إنّ إله الحبّ المجرّد لديتريش بونهوفر (Dietrich Bonhoeffer) أو يسوع الرّاديكاليّ لتيري إيغلتون بالنّسبة لشخص ماركسيّ، هما صنيعتان بشريّتان، أي إسقاطان وهميّان مثلهما مثل الآلهة المتعصّبة لإيان بيزلي (Ian Paisley) أو أسامة بن لادن.
الدّين والسّياسة الاشتراكيّة
ولإنهاء هذا المقال، سنشير بإيجاز إلى أهمّ النّتائج السّياسيّة التي قد تتولّد، وهي قد تولّدت تاريخيّا، عن التّحليل الوارد أعلاه.
أوّلا، وخلافا لاعتقاد شائع (تغذّيه مغالطة معمّمة على نطاق واسع)، فإنّ الاشتراكيّين الماركسيّين يعارضون تماما كلّ فكرة لمنع الدّين. وهذا ليس موقفا جديدا، فقد سبق أن نصّ عليه انغلز صراحة في عام 1874 استجابة لاقتراح من مؤيّدي الاشتراكيّ الفرنسيّ لويس أوغست بلانكي (Louis-Auguste Blanqui). والأسباب التي قدّمها انغلز تظلّ صالحة إلى يومنا هذا:
"لإثبات أنّهم الأكثر راديكاليّة من بين الجميع، يلغون الله بمرسوم، كما في عام 1793 :
"فلتتخلّص الكومونة الإنسانيّة إلى الأبد من شبح مآسيها الماضية (الله)، "من هذا المتسبّب" [الإله غير الموجود يغدو مسبّبا!] في بؤسها الحاليّ. لا مكان في الكومونة لكاهن؛ ويجب حظر أيّ مظهر وأيّ تنظيم دينيّ.
وقد وقّع هذه الفتوى القاضية بتحويل النّاس إلى ملحدين اثنان من أعضاء الكومونة وهو ما منحنا فرصة للتأكّد، أوّلا، أنّه يمكننا أن نكتب ما نريد من أوامر على الورق دون فعل أيّ شيء لإنفاذها، وثانيا، أنّ الاضطهاد هو أفضل وسيلة لتعزيز معتقدات غير مرغوب فيها! "(22).
وبعيدا عن الرّغبة في فرض حظر الدّين، يرى الماركسيّون أنّه ينبغي أن يظلّ مسألة شخصيّة مستقلّة عن الدّولة، وأنّه يجب أن تبقى الحريّة الدّينيّة كاملة سواء في ظلّ الرّأسماليّة أو تحت راية الاشتراكيّة. وقد سبق أن أعرب لينين عن ذلك بوضوح في مقال له عام 1905 بقوله:
"لا ينبغي للدّولة أن تتدخّل في الدّين، ويجب ألاّ تكون الجمعيّات الدّينيّة مرتبطة بسلطة الدّولة. يجب أن يكون لكلّ فرد مطلق الحريّة في اعتناق أيّ دين شاء أو إنكار جميع الأديان، أي أن يكون ملحدا على غرار عامّة الاشتراكيّين. لا مجال للتّغاضي عن التّمييز في الحقوق المدنيّة على أساس المعتقدات الدّينيّة. ولا مراء في وجوب إزالة خانة التّعريف بديانة المواطنين في الأوراق الرّسمية"(23).
ولعلّ الاتّجاه الوحيد الذي يراه الماركسيّون للقضاء على الدّين هو أن يتراجع تدريجيّا نتيجة اختفاء الأسباب الاجتماعيّة التي يقوم عليها، أي الاغتراب والاستغلال والقهر، وما إلى ذلك. والاشتراكيّون الماركسيّون، على أيّ حال، يعارضون أيّ امتياز تمنحه الدّولة للدّين، وهم يدعون إلى حلّ كلّ كنيسة رسميّة للدّولة (مثل كنيسة انكلترا).
وما كان للتصوّر العامّ لموقف الماركسيّين حيال الدّين إلاّ أن يتأثّر إلى حدّ كبير بمثال الأنظمة الستالينيّة في روسيا وأوروبّا الشّرقيّة والصّين وكوبا وكوريا الشّماليّة، وغيرها. ولأنّ التقصّي المنهجيّ لهذه الأمثلة غير ممكن من خلال هذا المقال الوجيز، فإنّنا نأمل من قرّاء هذه المجلّة الاقتناع بأنّ تلك الأنظمة لم تكن بأيّ شكل ممثلّة للاشتراكيّة الحقيقيّة أو للماركسيّة. ومع ذلك، فإنّه قد يكون من المفيد الإدلاء ببعض الملاحظات في هذا الشّأن. إنّ القمع السّتالينيّ للدّين غالبا ما بولغ فيه وأسيء فهمه في آن. لقد بولغ فيه بمعنى أنّ الأنظمة السّتالينيّة عموما لم تقمع الدّيانات أو الكنائس الرّئيسيّة، بل تسامحت تجاهها إن لم تشكّل معها تحالفات، شريطة أن تكون سهلة الانقياد لها سياسيّا (وهو ما كانت عليه في العموم). أمّا سوء الفهم، فذلك لأنّ الحالات التي تمّ فيها اضطهاد أفراد أو جماعات دينيّة كانت في المقام الأوّل نتيجة إثارتهم مشاكل سياسيّة، وليس بسبب إيمانهم في حدّ ذاته بصفة أساسيّة، فقد كانت تلك المجتمعات تقمع كلّ معارضة سياسيّة. ويمكن أن نجد نظرة عامّة حول تعامل الدّول "الشّيوعيّة" مع الدّين في الفصل الأخير من كتاب بول سيغل (Paul Siegel) "الخانغ والمناضل" (The Meek and the Militant) (24)، كما توجد دراسة حالة مفيدة بشكل خاصّ حول علاقات الثّورة الرّوسيّة مع أقليّتها المسلمة في مقال ديف كراوتش (Dave Crouch) بعنوان "البلاشفة والإسلام" (The bolsheviks and Islam) (25). ففي هذا المقال، يبيّن كراوتش كيف كان البلاشفة في السّنوات الأولى للثّورة، يتقيّدون تقيّدا صارما بالمبادئ اللّينينيّة المبيّنة أعلاه، ونجاحهم بالتّالي في كسب المسلمين إلى جانبهم، بينما تسبّب صعود الستالينيّة في تعميم السّياسات الاستبداديّة على نطاق واسع من فوق، بما في ذلك قمع الحجاب، وهي السّياسات التي ثبت فشلها الذّريع.
ولتحديد مواقفهم تجاه الحركات الشّعبيّة التي تحمل صبغة دينيّة، لا يعتمد الماركسيّون الاعتقادات الدّينيّة لقيادات الحركة أو لقاعدتها، أو معتقدات الدّين المقصود ولاهوته، نقطة انطلاق، بل الدّور السّياسي للحركة القائمة على القوى الاجتماعيّة وما تمثّله من مصالح.
ولتوضيح كلّ هذا، لننظر في الأدوار التّاريخيّة لكلّ من الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة. لقد كانت الكاثوليكيّة في العصور الوسطى وبداية العصر الحديث دين الأرستقراطيّة الفيوداليّة بالأساس، وكادت تكون بالتّالي رجعيّة في عمومها. وفي المقابل، نزعت البروتستانتيّة الرّاديكاليّة نحو تمثيل البورجوازيّة الصّاعدة، أو العناصر العاميّة الدّنيا التي كانت على يسارها. وقد كان كبار المتمرّدين والثوّار في ذلك الوقت، أمثال توماس منذر (Thomas Munzer) وجون ليبورن (John Lilburne) وجيرالد وينستانلي (Gerald Winstanley) من البروتستانت المتحمّسين، أي متطرّفين وأصوليّين بلغة اليوم. ولكن منذ اللّحظة التي استلم فيها هؤلاء المتمرّدون البرجوازيّون السّلطة في هولندا وانكلترا، شاركوا في ما يسمّيه ماركس "التّراكم البدائيّ لرأس المال"، وتحوّلوا إلى استعماريّين وتجّار رقيق من النّوع الأكثر وحشيّة. لقد تحوّل أوليفر كرومويل (Oliver Cromwell) من ثوريّ قاتل للملوك في انكلترا إلى قامع في إيرلندا (حيث لا يزال اسمه يثير كراهيّة النّاس)، ولا سيّما للفلاحين الكاثوليك. يمكن للبرجوازيّين البروتستانت الهولنديّين أن يكونوا أبطالا في أوروبّا وأبطالا للثّورة الهولنديّة، لكنّهم كانوا المبدعين البائسين للأبارتيد (الفصل العنصريّ) في أفريقيا. ولقد استمرّ الدّور المغرق في الرّجعيّة للكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبّا، وخاصة في جنوبها حيث أيّدت بكلّ همّة الجنرال فرانكو في إسبانيا وأبرمت اتّفاقات مع موسوليني وهتلر. وهي ما تزال قائمة اليوم، في شكل ملطّف، في الأحزاب المحافظة الرّئيسيّة في كلّ من إيطاليا وإسبانيا وجنوب ألمانيا. ولكن الدّول الأوروبيّة التي لا تزال فيها الكاثوليكيّة والدّين بشكل عامّ أقوى، هي إيرلندا وبولندا، حيث تمكّنت الكنيسة، بشكل معتدل جدّا ولكنّه قويّ، من التّماهي مع المعارضة الوطنيّة تجاه القهر.
إنّ أيّ اشتراكيّ ينظر إلى القرن السّابع عشر لا بدّ له من التّماهي على الفور مع المتمرّدين البروتستانت ضدّ الملوك والأباطرة الكاثوليك. أمّا إذا نظر إلى إيرلندا العام 1916 أو بلفاست العام 1970، فإنّه سيشعر بنفسه إلى جانب القوميّين "الكاثوليك" وليس إلى جانب الاتّحاديّين "البروتستانت". إنّ جميع اليساريّين الذين اعتبروا صعود نقابة "تضامن" (Solidarnosc) في بولندا وكأنّه صراع بين الكاثوليك "المتخلّفين" في مدينة غدانسك (Gdansk) والشّيوعيّين الملحدين "التّقدميّين" في الدّولة السّوفياتيّة، انتهوا إلى جانب المضطهد الإمبرياليّ. وهو ما يتكرّر اليوم في ما يتعلّق بالصّراع بين التّيبت والصّين بعد أن رأيناه بخصوص "الحرب ضدّ الارهاب" والصّراعات في الشّرق الأوسط.
ويمكن تقديم عدّة أمثلة أخرى لدعم وجهة نظرنا. فمن أيّ نوع سيكون الاشتراكيّ الذي يبني موقفه من مالكولم اكس (Malcolm X) على أساس معتقداته الدّينيّة الرّجعيّة بوصفه عضوا في جماعة "أمّة الإسلام" (Nation of Islam)، أو من بوب مارلي بالنّظر فقط لاعتقاده في قداسة الطّاغية العجوز هيلاسيلاسي (Haile Selassie)، أو حتّى من هوغو شافيز (Hugo Chavez) بالنّظر فحسب لكاثوليكيّته المعلنة بصوت عال وإعجابه بالبابا؟ لسوء الحظ، فإنّ بعض الاشتراكيّين المزعومين ممّن ليس لديهم أيّ صعوبة لفهم هذا الأمر بخصوص هوغو شافيز أو بوب مارلي، عاجزون، تحت ضغط الدّعاية البورجوازيّة المكثّفة، على تطبيق نفس المنهج عندما يكون الدّين المستهدف هو الإسلام. ولكي نقدّم الأمور بشيء من التّبسيط، فإنّ فلاّحا فلسطينيّا، مسلما، أمّيا، محافظا، يؤمن بالخرافات ويدعم حركة حماس، هو من وجهة نظر الماركسيّة والاشتراكيّة الدّولية أكثر تقدّميّة من شخص إسرائيليّ متعلّم، ملحد وليبراليّ، يؤيّد الصّهيونيّة (ولو من وجهة نظر نقديّة).
ويترتّب على ذلك أيضا عدم تقبّل الاشتراكيّين الماركسيّين فكرة أن يكون أيّ من أديان الأكثريّة، بطبيعته أو من حيث معتقداته، أكثر تقدّميّة من آخر أو أقلّ منه. ولكي يكون الدّين "أكثريّا"، أي البقاء حيّا على مدى قرون في أماكن وأنظمة اجتماعيّة مختلفة، فإنّه من الضّروري أن تكون لعقائده قدرة تكاد تكون لامتناهية على التغيّر والتكيّف، إذ أنّ الحاسم في هذا الأمر ليس العقيدة بقدر ما هو قاعدة اجتماعيّة في وضعيّة اجتماعيّة محدّدة. وهكذا نجد في الولايات المتّحدة مسيحيّة يمينيّة متطرّفة عنصريّة وإمبرياليّة عند الغالبيّة الأخلاقيّة أو المورمون (Mormons)، وتقليد مسيحي يساريّ مناهض للحرب وللعنصريّة كما عند مارتن لوثر كينغ (Martin Luther King). وفي جنوب أفريقيا، كان هناك مسيحيّون مؤيّدون لنظام الفصل العنصري (Apartheid ) وآخرون معارضون له؛ وفي أمريكا اللاّتينية، كان هناك كاثوليك يمينيّون مؤيّدون لحكم الأوليغارشيّة وداعمون للحكّام المستبدّين، إلى جانب "لاهوت تحرير" عند الكاثوليك اليساريّين؛ وبالطّبع، يوجد للإسلام أشكال متعدّدة ومختلفة، متعارضة في الغالب في ما بينها.
وغنيّ عن الذّكر أنّ الحجّة الرّئيسيّة التي استخدمت لتبرير فكرة أنّ الإسلام على وجه التّحديد دين متخلّف، إنّما ترتكز على المواقف السّائدة في البلدان الإسلاميّة تجاه النّساء والمثليّين. إلاّ أنّه يجب علينا أن نذكّر أولئك الذين يستخدمون تلك الحجج، بأنّ تلك المواقف نفسها كانت سائدة في المجتمعات الغربيّة حتى وقت قريب نسبيّا، بل هي لا تزال موجودة في تعاليم العديد من الكنائس المسيحيّة. ولكن العيب الأساسيّ لهذه الحجّة يعيدنا إلى الأسس الماديّة الماركسيّة، فسرّ العائلة المقدّسة الإسلاميّة يكمن في الأسرة المسلمة الأرضيّة. فليس الوعي الدّيني الإسلاميّ هو ما يحدّد وضع المرأة في المجتمع المسلم، بل إنّ الوضع الحقيقي للمرأة هو الذي يشكّل المعتقدات الدّينيّة للمسلمين. لقد ولد الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة، وانتشر غربا عبر شمال أفريقيا وشرقا عبر آسيا الوسطى. ولمدّة قرون، كان هذا الحزام الكبير بالأساس، فقيرا، متخلّفا وريفيّا، وهو لا يزال إلى اليوم كذلك إلى حدّ كبير. وتشهد مجتمعات أخرى، ذات مستويات تنمية وهياكل اجتماعيّة مشابهة، من إيرلندا إلى الصّين، اضطهادا مماثلا للنّساء وللمثليّين.
وأخيرا، هناك مسألة العلاقة بين الحزب الثّوريّ والعمال المتديّنين. فكلّ حزب من هذا النّوع ينشط في بلد لا يزال فيه الدّين قويّا عند النّاس، وهي حالة معظم أنحاء العالم، يجب أن يحسب لهم حساب، أي أن نقبل حقيقة أنّ الثّورة سيقوم بها العمّال الذين سيظلّون في معظمهم متديّنين. ولئن كان للأغلبيّة السّاحقة من العمّال أن تتخلّص من أوهامها الدّينيّة، فإنّ ذلك لن يكون من خلال البراهين والكتب والكرّاسات، ولكن من خلال المشاركة في النّضال الثّوري، ومن ثمّة من خلال بناء الاشتراكيّة. وفي مثل هذه الحالة، يجب على الحزب ضمان ألاّ تكون الاختلافات الدّينيّة، أو الاختلافات بين المتديّنين وغير المتديّنين، عقبة في طريق وحدة نضال الطّبقة العاملة. أضف إلى ذلك، أنّه بقدر ما يصبح الحزب حزبا جماهيريّا حقيقيّا يقود العمّال في أماكن العمل وفي المجتمع، بقدر ما سيكون في صفوفه فئة من العمّال الذين لا يزالون متديّنيين أو شبه متديّنين. وسيكون رفض هؤلاء العمّال بسبب أوهامهم الدّينيّة عملا طائفيّا ومضادّا للماديّة. بل إنّ ذلك سيكون تقاسما للخطأ الدّينيّ/المثاليّ الذي يرى في الدّين أهمّ عنصر في الوعي، ويعتبر الوعي أهمّ من الممارسة. وفي الوقت نفسه، يجب ألاّ يصبح الحزب حزبا دينيّا، أي حزبا يقوم خطّه السّياسيّ واستراتيجيتّه وتكتيكاته على اعتبارات دينيّة. فالانتصار الثّوري يعني أن يسترشد الحزب بالنّظريّة التي تعبّر عن المصالح الجماعيّة وعن نضال الطّبقة العاملة، أي الماركسيّة. ولذلك يجب على الحزب في هذا المجال أن يكون واثقا من أنّه هو من يثقّف أعضاءه المتدينيّين ويؤثّر عليهم، وليس العكس.
ولقد سبق أن وجد حزب ثوريّ عمل في مثل هذه الحالة، وهو الحزب البلشفيّ. وقد كتب منظّره الأساسيّ (لينين) بشأن هذه المسائل بحكمة ووضوح مقالا في عام 1909 بعنوان "موقف حزب العمّال من الدّين"، فيما يلي بعض المقتطفات منه:
"الماركسيّة ماديّة. وبهذا الاعتبار فهي معادية للدّين بشدّة تفوق عداء الماديّين الموسوعيّين في القرن الثّامن عشر أو ماديّة فيورباخ له(...) ولكن الماديّة الجدليّة لماركس وإنغلز تذهب إلى أبعد من ذلك(...) ذلك أنّها تطبّق الفلسفة الماديّة في مجال التّاريخ(...) إنّها تقول إنّه يجب أن نعرف كيف نكافح الدّين، ولذلك يجب أن نفسّر بطريقة ماديّة مصدر إيمان الجماهير ودينها. ولا يمكن محاربة الدّين بالاقتصار على وعظ إيديولوجي مجرّد، يجب علينا أن لا نختزل الأمر في ذلك، بل يجب ربط ذلك النّضال بالممارسة الفعليّة للحركة العمّاليّة التي تستهدف القضاء على الجذور الاجتماعيّة للدّين.
لماذا يستمرّ الدّين...؟ نتيجة جهل النّاس، يردّ التقدّميّ البورجوازي، والرّاديكالي أو الماديّ البورجوازي. لذلك (فليسقط الدّين وليعش الإلحاد طويلا، ونشر الأفكار الإلحاديّة هي مهمّتنا الرّئيسيّة). ويقول الماركسيّون: هذا غير صحيح، إنّه وجهة نظر سطحيّة(...) فهي لا تشرح الجذور العميقة للدّين بما فيه الكفاية، وهي لا تشرحها بطريقة ماديّة بل بطريقة مثاليّة(...) فأعمق جذور الدّين اليوم يتمثّل في الظّروف الاجتماعيّة المترديّة للجماهير الكادحة وعجزها التامّ البيّن في مواجهة القوى العمياء للرّأسماليّة(...) فهل يعني هذا أنّ الكتب التّربويّة المضادّة الدّين ضارّة أو غير ضروريّة؟ لا بالطّبع، ولكنّه يعني وجوب أن تخدم الدّعاية الإلحاديّة للدّيمقراطيّة الاجتماعيّة مهمّتها الأساسيّة، ألا وهي تطوير كفاح طبقة الجماهير المستغلّة ضدّ المستغلّين.
ولنتفرض أنّ البروليتاريا في منطقة ما(...) تتكوّن من فئة متقدّمة من الاشتراكيّبن الدّيمقراطيّين (الاسم الذي كانت تحمله الجماعات الاشتراكيّة الثّوريّة في روسيا) الواعين إلى حدّ ما، وهم ملحدون بالطّبع، ومكوّنة من عمّال متأخّرين(...) يؤمنون بالله ويرتادون الكنيسة أو حتّى واقعين تحت التّأثير المباشر للكاهن المحلّي(...) ولنفترض أيضا أنّ النّضال الاقتصاديّ في هذه المنطقة قد أدّى الى شنّ إضراب. على الماركسيّ في هذه الحالة وضع نجاح حركة الإضراب فوق كلّ اعتبار، والردّ بقوة ضدّ تقسيم العمّال في هذا الصّراع بين ملحدين ومسيحيّين، لا بدّ أن يقف بحزم ضدّ أيّ انقسام من هذا القبيل. وفي مثل هذه الظّروف، قد تكون الدّعاية الإلحاديّة غير ضروريّة وضارّة، لا من جهة التخّوف من استنفار البورجوازيّة الصّغرى للفئات المتأخّرة، أو فقدان مقعد في الانتخابات، وما إلى ذلك، ولكن من أجل إحراز تقدّم حقيقيّ في الصّراع الطّبقيّ، وهو ما سيتكفّل في ظروف المجتمع الرأسماليّ الحديث بجلب العمّال المسيحيّين إلى الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة والإلحاد، بطريقة أفضل مئة مرة من دعاية ملحد صريح.
لايجب علينا أن نقبل جميع العمّال الذين لا يزال يحتفظون بإيمانهم بالله فحسب، بل يجب أن نعمل أيضا على جذبهم إلى صفوف الحزب الاشتراكيّ الدّيموقراطيّ. ولئن كنّا نعارض تماما كلّ إهانة لمعتقداتهم الدّينيّة، إلاّ أنّنا نضمّهم إلينا لتثقيفهم وفقا لروح برنامجنا، وليس لكي يقفوا ضدّه" (26).
هذه المقتطفات تؤكّد ما جاء في هذا المقال، وهو أنّ التّعامل مع المسألة الدّينيّة بشكل صحيح، وهذا أمر حيويّ جدّا في الحالة السّياسيّة الرّاهنة، لا يقتصر على مجرّد إبداء رأي فيها أو تعامل مرحليّ معها، أو حتى مسألة انتهازيّة انتخابيّة، بل يتجاوز ذلك إلى فهم الأفكار الأساسيّة للماديّة الجدليّة الماركسيّة.
المصدر هنا
النص هنا باللغة الانكليزية
الهوامش والإحالات:
1- Antoine Boulangé: Foulard, laïcité et racisme, l’Étincelle, 2004.
2- Frederick Engels: Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy, in: Marx & Engels, Selected Works, volume 3, Progress, 1989 [1886], pp. 366-367.
3- نفسه، ص 382.
4- Karl Marx & Frederick Engels : The German Ideology, Lawrence & Wishart, 1991 [1845], p. 42.
5- نفسه.
6- Karl Marx & Frederick Engels: Manifesto of the Communist Party, 1848.
7- Karl Marx: Preface to a Contribution to the Critique of Political Economy, Progress, 1977 [1859].
8- Friedrich Engels: Discours sur la tombe de Karl Marx, in: Marx & Engels: Œuvres choisies, Éditions du Progrès, Moscou, 1955] 1883[, p. 177.
9- Léon Trotsky: Le testament, in: Journal d’exil, Gallimard, 1960, p.189.
10- Karl Marx & Frederick Engels: Études philosophiques, Éditions sociales, 1977, p.24.
11- "إنّ إلغاء الدّين بوصفه سعادة وهميّة للشّعب هو طلب للسّعادة الحقيقيّة"، "ونقد الدّين هو(...) نقد وادي الدّموع الذي يمثّل الدّين هالته"؛ "لقد عرّى النّقد القيود من الزّهور الوهميّة التي تغطّيها، ليس لكي يحمل الإنسان قيودا غير وهميّة ومثبطة، بل لكي يلقي القيود ويقطف زهرة الحياة"، "لقد تحوّل نقد السّماء(...) إلى نقد الأرض"، وما إلى ذلك. (المرجع نفسه، صص 25-26).
12- نفس المصدر، ص 25.
13- هذا النصّ غامض وكان موضع خلاف، وقد استشهد به دليلا على معاداة ماركس للساميّة. وقد تحدّث جون روز (John Rose) عن ذلك بالتّفصيل في مقاله في هذا العدد من مجلّة الاشتراكيّة الدّوليّة (International Socialism). انظر أيضا:
Hal Draper: Marx and the Economic-Jew Stereotype, in: Karl Marx’s Theory of Revolution, vol. I: State and Bureaucracy (Monthly Review), 1977 Anindya Bhattacharyya: Marx and Religion, Socialist Worker, n° 4, March 2006.
14- Karl Marx & Frederick Engels: On Religion, Progress, 1957.
15- Karl Marx: Theses on Feuerbach, 1845.
16- Richard Dawkins: The Improbability of God, Free Inquiry, volume 18, n° 4, 1998.
17- يبدو داوكينز متبنيّا هذا الرّأي أو رأيا قريبا منه، انظر:
Richard Dawkins: The God Delusion, Black Swan, 2007, pp. 346-347.
18- Richard Dawkins : Religion’s Misguided Missiles, Guardian, 15 Septembre 2001.
19- ليس من السّهل أن ندرك إلى أيّ مدى وصل هيتشنز. وأنا أقتبس مرّة أخرى من يوتيوب في نقاشه للقسّ آل شاربتون (Al Sharpton): "أنت ترى أنّني لا أحبّ أعدائنا، وأنّني لا أحبّ من يحبّهم. أنا أكره أعدائنا وأعتقد أنّه يجب قتلهم(...) وأنا متأكّد تماما أنّه لا ينبغي أن يكون لأيّ بلد آخر ميزانيّة تهدّد ميزانيّتنا، وأنا لست عاطفيّا حيال ذلك". وهو يقصد بـ"أعدائنا" و"ميزانيّتنا" أعداء الامبرياليّة الأمريكيّة وميزانيّتها.
20- Terry Eagleton: Lunging, Flailing, Mispunching, London Review of Books, 19 Octobre 2006.
21- نفسه.
22- Karl Marx & Frederick Engels: On Religion, Progress, 1957.
23- Vladimir Lenin: Socialism and Religion, in: Collected Works, volume 10, Progress, 1965 [1905].
24- Paul Siegel: The Meek and the Militant-Religion and Power Across the World, Zed, 1986.
25- Dave Crouch: The Bolsheviks and Islam, International Socialism n° 110, 2006.
26- Vladimir Lenin: The Attitude of the Workers Party to Religion, in: Collected Works, volume 15, Progress, 1973 [1909].


• الديمقراطية عند كارل ماركس
الترجمة الثالثة من سلسلة «الديمقراطية عند..» لبابلو سيمون، وهو أستاذ علوم سياسية في جامعة بومبيو فابرا في برشلونة. السلسة تقدّم مُراجعة لأفكار أهم الفلاسفة والمنظّرين الكلاسيكيين حول مفهوم الديمقراطية، وتُنشر في مجلة جوت داون الثقافية الاسبانية. الترجمات السابقة: «الديمقراطية عند جون ستيورات ميل»؛ «الديمقراطية عند ماكس فيبر».
*****
منذ أواسط القرن التاسع عشر، وبشكل حصريّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، شكّلت الماركسية أحد أهم البدائل النظرية والعمليّة للديمقراطية الليبرالية. للماركسية، كجسم نظري، تفرعات كثيرة، لكنها تنطلق من جذع واحد، أي أعمال كارل ماركس وفريديريك أنجلز، الفيلسوفان الألمانيان اللذان كان لهما أثرٌ مهم للغاية في بناء الحركات الاشتراكية والشيوعية والعمالية. يستحيل فهم تاريخ الفكر دون المرور على أثرهما، وحقل التفكير في الديمقراطية ليس استثناءً من هذه القاعدة.
أودّ في هذا المقال أن أُراجع، بشكل سريع، بعض أفكار هذا التيار حول الديمقراطية، خصوصاً في أعمال كارل ماركس، ولو كان لزاماً علي أن أبدأ بالاعتذار، ذلك لأنني أجد نفسي مجبراً على البقاء ضمن حقل رؤيته حول الدولة والديمقراطية، ما يجبرني على إهمال جوانب أخرى من أطروحاته التحليلية لها مكانة مركزية أكثر من فكرة الديمقراطية، وأيضاً الانطلاق من افتراض أن لدى القارئ اطلاع على بعض أسس الفكر الماركسي.
على كل حال، أعتقد أنه قد أصبح من الضروري أن نراجع أفكار ماركس حول الديمقراطية في سياق الأزمة الاقتصادية التي نمرّ بها، حيث يبدو أن بمقدور القوى الاقتصادية أن تفرغ هامش العمل السياسي من مضمونه. الكثير من النقد للواقع الحالي له أسس ماركسية واضحة، وتلامس نواة النظرية الماركسية: العلاقة بين الديمقراطية والأسس المادية للمجتمعات الحديثة.

الدولة والرأسمالية
اعتبرَ ماركس أن قيام حكومة ديمقراطية في مجتمع رأسمالي هو أمر مستحيل، مشيراً إلى أن هذه الديمقراطية مشروطة بتحويل في أسس المجتمع نفسه، وينطلق هذا الاعتبار من مفهومه للدولة. بالنسبة للفكر الليبرالي، الدولة هي الممثل الجماعي (أو العام)، مقابل الأهداف والهواجس الشخصية للأفراد. لكن، حسب ماركس وإنجلز، هذه الفكرة ليست إلا محض خيال. حين تتعامل الدولة مع الناس بمساواة حسب المبادئ التي تحمي الحريات الفردية وحقّ التملّك، فإنها قد تتصرف بحياد، لكنها تولّد نتائج منحازة. أي، بقولٍ آخر، لا مهرب من انحيازها لامتيازات الملاّكين.
بالنسبة لماركس، شكّلت الحركات من أجل المساواة السياسية وتعميم حقّ التصويت خطوات مهمّة بالاتجاه الصحيح، لكنه اعتبر أن طاقتها التحرّرية محدودة للغاية نتيجة التفاوتات الطبقية، والتقييدات التي تفرضها هذه التفاوتات على الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للكثيرين. أشار ماركس إلى أن الاقتراع أداة عاجزة عن تقرير مسيرة الدولة (ومن هنا ولد الشعار الشهير: «لو أن الاقتراع ينفع فعلاً لمنعوه!»). في الواقع، تنوّعت آراء ماركس حول الموضوع في نتاجه، لكن الرأي الأكثر تواتراً وهيمنة هو أن الدولة والبيروقراطية تُشكلان أدوات لإدارة مجتمع مقسّم وفق مصالح الطبقة الحاكمة، ونجد أكثر مساجلاته تعمقاً حول الموضوع في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت.
هذا الكتاب هو تحليل بليغ حول صعود لويس نابليون بونابرت إلى السلطة في فرنسا بين عامي 1848 و 1852، ويصف ماركس فيه كيف تراكمت السلطة بيد السلطة التنفيذية، مُنزاحةً عن المجتمع المدني والممثلين السياسيين للطبقة الرأسمالية. واستفاد ماركس من هذه الدراسة للابتعاد عن التفكير بالدولة كـ«أداة الروح العامة» أو كـ«مجتمع أخلاقي» يواجه الفوضى. يشير ماركس إلى أن الدولة هي جسم طفيلي على المجتمع المدني، ومصدرٌ مستقل للفعل السياسي في آنٍ معاً، ويصفها بأنها مجموعة هائلة من المؤسسات القادرة على نمذجة المجتمع المدني، والقادرة أيضاً على تقييد قدرات البرجوازيّة. بالإضافة إلى ذلك، يمنح ماركس الدولة درجة معينة من الاستقلالية عن المجتمع: الأفعال السياسية هي نتيجة التداخل بين تحالفات معقدة وأحكام دستورية.
يطرح ماركس، في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت، أن عناصر الدولة لا تنسّق الحياة السياسية حسب مصالح الطبقة المهيمنة من المجتمع المدني فحسب، بل إن للسلطة التنفيذية، في بعض الحالات، مقدرة على أخذ المبادرة السياسية. لكن تركيز ماركس، عند مناقشة هذه النقطة، انصبّ على تقديم الدولة كقوّة قمعية، فقد أبرزَ أهمية شبكة معلوماتها بوصفها آلية مراقبة، وأشار إلى كيفية تشابك استقلاليتها السياسية مع قدرتها على تفخيخ الحركات الاجتماعية التي تُسائِل الوضع الراهن -أي العمال، بشكل أساسي-. إضافة إلى ذلك، يتكامل البُعد القمعي للدولة مع قدرتها على ترسيخ الاعتقاد بحصانة الوضع الراهن. تالياً، وبعيداً عن كونها أساساً للتعبير عن المصلحة العامة، «الدولة تحوّل الأهداف العامة إلى ضرب آخر من المصلحة الخاصة».
لكن رغم الإقرار بهذه الوقائع، كانت هناك تقييدات جوهرية تحدّ من مقدرة بونابرت على اتخاذ مبادرات دون سحب المجتمع باتجاه أزمة كبرى. فالنتيجة المركزية التي توصل إليها ماركس، والتي ستكون مفتاحيّةً في أعماله الأخرى، هي أن الدولة، في مجتمع رأسمالي، عالةٌ على المجتمع، وما هو أهم، تابعةٌ لمن يمتلك ويسيطر على وسائل الإنتاج. تالياً، يجب أن تتناسب سياسات الدولة العامة مع أهداف الصناعيين والتجار على المدى الطويل، وإلا تعرّض المجتمع المدني للخطر، وبالتالي يتعرّض استقرار الدولة للخطر أيضاً. لقد سحب بونابرت السلطة السياسية من ممثلي البرجوازية، لكنه حمى قوتهم المادية، بالتالي، كان نابليون الثالث مضطراً لدعم المصالح الاقتصادية للبرجوازية على المدى الطويل، بغض النظر عن قراراته بما يخص الحكم.

الرأسمالية تحكمنا
انطلاقاً من فكرته هذه حول الدولة، اعتبرَ ماركس أن التفكير بانعدام العلاقة بين توزيع الملكيّة وبنيان السلطة السياسية هو أمر مستحيل. وهذا ما يناقشه في عدد كبير من نصوصه السياسية، وبشكل خاص في أكثرها إثارة للجدل مثل البيان الشيوعي. بالنسبة لماركس وإنجلز، هناك علاقة تبعية مباشرة بين الدولة والقوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقة المهيمنة، أي أنها «بنية فوقية» ترتكز على أسس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
الدولة، حسب طرح ماركس، تخدم مصالح الطبقة الاقتصادية المهيمنة بشكل مباشر. ويتم استبدال فكرة الدولة ذات الفعل السياسي المستقل، بحماسة شعاره الشهير في البيان الشيوعي «السلطة التنفيذية في الدولة الحديثة ليست إلا لجنة تُدير القضايا المشتركة لكل البرجوازية».
لا يعني هذا الكلام أن البرجوازية ككل تُهيمن على الدولة، بل يمكن للدولة أن تكون مستقلّة عن بعض قطاعات الطبقة البرجوازية، لكنها تابعة، بشكل أساسي، لأولئك الذين يسيطرون على الاقتصاد. وتُفعَّل استقلالية الدولة فقط عند الحاجة لحل إشكاليات بين قطاعات رأسمالية مختلفة (الصناعيين والمصرفيين، على سبيل المثال)، أو بين الرأسمالية المحلية والضغوطات التي تأتي من الأسواق الرأسمالية الدولية. تدافعُ الدولة عن المصالح العامة للبرجوازية باسم المصلحة العامة للشعب.
لقي هذا الطرح الماركسي انتقادات كثيرة لافتراضه علاقة سببية بسيطة بين الهيمنة الطبقية والحياة السياسية. مع ذلك، يجدر القول إن اشتقاقه الأكثر أهمية هو أنه يشير إلى حدود فعالية الدولة في المجتمعات الرأسمالية. إن قوّضت الدولة عملية تراكم الثروة فإنها تقوّض الأسس المادية للدولة نفسها، وبالتالي فإن على السياسات أن تكون منسجمة مع علاقات الإنتاج الرأسمالي. أو، بتعبير آخر، هناك قيود تحدّ الخيارات السياسية في الديمقراطيات الليبرالية.
تفرض أنظمة المُلكية والاستثمار مطالبات موضوعية يجب على الدولة أن تُلبيها إن كانت ترغب في دعم التنمية الاقتصادية، وإذا هُدّد هذا النظام (على سبيل المثال، إن وصل إلى الحكم حزب سياسي يريد أن يدفع باتجاه مساواة اجتماعية أكبر) فإن النتيجة المباشرة ستكون الفوضى الاقتصادية (تهريب رؤوس أموال نحو الخارج، على سبيل المثال)، وبالتالي فإن الدعم الشعبي للحكومة سيتراجع بشكل حاد.
على هذا النسق، بإمكان الطبقة المهيمنة اقتصادياً أن تحكم دون أن تلوث أيديها، أي أنها تستطيع أن تؤثر سياسياً حتى دون وجود ممثلين لها في الحكم، وما زالت هذه الفكرة تشغل موقعاً حيوياً في النقاشات بين النظريين، وفي السجالات السياسية في زمننا. وهذا أساسٌ جوهري يستند عليه الماركسيون للتأكيد على أن الحريات في الديمقراطية الرأسمالية ليست إلا شأناً ظاهرياً («يدعونها ديمقراطية وهي ليست كذلك»)1. التفاوتُ الاقتصادي يقوّض الحرّية، ويجعل غالبية المواطنين أحراراً بشكل اسمي بحت. لذلك، فقط عن طريق تغيير البنية الرأسمالية نستطيع الوصول إلى الديمقراطية الحقيقية، أي الشيوعية.

الشيوعية والديمقراطية
الاشتراكية والديمقراطية هما مكوّن واحد، واحدة من وحدات الفكر الماركسي. لكن قبل الدخول في معالمها الرئيسية ينبغي التذكير بالميول اللا-مثالية والعلمية لتفكير ماركس. نجد أفكاراً متنوعة وغنية عن المجتمع الاشتراكي، موزعة في عدد كبير من نصوص ماركس، لكنه لم يضع تحليلاً نظامياً متكاملاً حول الموضوع. على أي حال، هناك نصّان بارزان يتحدثان عن هذا الموضوع، الأول هو نقد برنامج غوته (1875)، والثاني هو الحرب الأهلية في فرنسا (1871). الأفكار المركزية في النص الأول هي ثلاث: التخطيط المركزي في مواجهة السوق؛ والملكية الجماعية (الحكومية) لوسائل الإنتاج بدل الملكية الخاصة؛ والعمل كواجب عام «لكل حسب عمله». بطبيعة الحال، يؤكد ماركس بحرص على أن هذه ليست إلا مرحلة انتقالية نحو المجتمع الشيوعي المتكامل.
للنص الثاني، أي الحرب الأهلية في فرنسا، أهمية أكبر بخصوص منظور ماركس للديمقراطية، ففي تعليقاته حول كومونة باريس نجد أن فكرته المركزية تتمحور حول التمييز بالتضاد بين الديمقراطية التمثيلية الليبرالية البرجوازية من جهة، والديمقراطية العمّالية التشاركية المباشرة. أتت هذه اللحظة بعد انهيار امبراطورية نابليون الثالث في الحرب بين فرنسا وبروسيا، وحركة التمرّد في باريس بين آذار وأيار 1871.
حسب ماركس وإنجلز، كان لكومونة باريس أن تكون النموذج التاريخي الأول للديكتاتورية الثورية للبروليتاريا. فبعد تحطيم جهاز الدولة القمعي القديم -أي الجيش والشرطة والبيروقراطيّة-، كانت الكومونة بصدد إرساء جمهورية ديمقراطية واجتماعية حقيقية. فكل أعضاء الحكومة وموظفي الدولة -من الشرطة وحتى القضاء- كانوا مسؤولين أمام منتخبيهم، وقابلين للعزل في كلّ وقت من قبلهم.
في الواقع، هنا كان ماركس (وسبقه روسو قبلها) يتخلى عن مبدأ التمثيل السياسي. فالفكرة هي أن مواطني الجمهورية العمّالية لديهم قادة (أو مفوّضون، حسب روسو)، وهم لا يتخلون عن السلطة من حيث أنهم لا يختارون ممثلين، ونواة هذا النوع من الديمقراطية المبنية على الانتخاب غير التمثيلي متمركزة حول مبدأ «القابلية الدائمة للعزل»، وهذا ما يفرض ضرورة وجود رقابة مستمرة وصارمة من قبل المواطنين المُنتخِبين. لو راجعنا أفكار بعض الأحزاب السياسية الاسبانية، القديمة منها والحديثة، لوجدنا أن هذه الفكرة ليست غريبة علينا إطلاقاً.
لهذا الأساس جوهرٌ جمهوري بحت. فالمشاركة ليست نتيجة للنموذج، بل شرطاً أساسياً لعمله. لكن هذه الديمقراطية التشاركية التي فكّر بها ماركس هي مباشرة فقط في قاعدتها، في نواة المجتمع، على مستوى «الكومونة الزراعية» أو «المجلس العمالي»، فاعتباراً من هنا يتشكّل البناء السياسي عبر شرح آليات غير مباشرة في الانتخاب، من مجالس الأحياء وحتى قمة الهرم، أي الجمعية الوطنية.
بالمحصلة، التخطيط المركزي، والمُلكية الجماعية لوسائل الإنتاج، والديمقراطية المباشرة، هي الأفكار المركزية التي تُشكّل المفهوم الماركسي للاشتراكية، وبالتالي الديمقراطية.
في كتابه الدولة والثورة، أعاد لينين بناء وتعميم أفكار ماركس حول كومونة باريس، وجعلها منسجمة مع فكرته حول «جمهورية السوفييتات». لكن لينين لم يأخذ بعين الاعتبار الآراء المتأخرة لماركس، أو بشكل خاص آراء إنجلز، حول المؤسسات البرلمانية والاقتراع العام كأدوات تحررية محتملة في خدمة الطبقة العاملة، وهي آراء أقل حديّة مما ظهر في كتاباته الأولى. وقد تمّ استرجاع هذه الآراء من قبل منظري الأمميتين الثانية والثالثة. منذ ذلك الحين، فُتحت نقاشات كثيرة ومهمة ضمن فضاء الماركسية الأوروبية والروسية: المسألة الوطنية، المسألة الزراعية، المسألة الكولونيالية، التكتيك والاستراتيجيا في صراع الطبقات، الحرب، الطبيعة الإمبريالية للرأسمالية، مسألة الطريقة الماركسية، العلاقة بين الأخلاق والماركسية، العلاقة بين الماركسية والفلسفة.. إلخ. لكن، عدا استثناءات نادرة، لم يجرِ الفصل بين الاشتراكية والديمقراطية الحقيقية.
التأثير القوي لماركس
تتوجّه انتقادات ماركس للديمقراطية الليبرالية نحو أكثر نقاطها العمياء ظهوراً من وجهة نظر عملية وأُسسيّة، ومراجعة الأسس الرئيسية المذكورة أعلاه تمثل نموذجاً عن ذلك. فعلى سبيل المثال، يؤدي اختزال مفهوم الديمقراطية إلى آليات مقوننة للانتخاب ومنح صلاحيات لأحزاب -مفهوم شومبيتير، الذي تبناه جزء من أدبيات العلوم السياسية- إلى إقصاء الممارسة الديمقراطية نتيجة الانفصال عن الشروط المادية للمواطنين. في الصيغة الأكثر جذرية للنقد الماركسي نجد أن التفاوتات الطبقية تتناقض تماماً مع أصل مفهوم الديمقراطية، حيث لا ديمقراطية دون شيوعية. يلجأ ماركسيون معاصرون إلى هذه الفكرة لنفي أن الولايات المتحدة، على سبيل المثال، هي دولة ديمقراطية.
ورغم أن بإمكاننا ترك الفكرة التبسيطية القائلة بأن الدولة هي أداة تابعة للبرجوازية جانباً، إلا أنه من المهم أن نُشير إلى التناقض ما بين السلطة السياسية وإمكانية ممارسة هذه السلطة. أو، بتعبيرٍ آخر، عجز حكومة ما عن الحكم بما يتناقض مع الأسس المادية للبرجوازية. لم يعد النُقّاد يتحدثون اليوم عن «برجوازية»، بل أصبحنا نتحدث عن الأسواق، أو عن القوى المصرفيّة، أو الاتحاد الأوروبي. كما لم نعد نحتاج للعودة إلى نابليون الثالث للبحث عن نماذج، إذ يكفي أن ننظر إلى الحكومة اليونانية كي نرى كيف تستعيد هذه الأفكار نضارتها على المستوى العملي. وأيضاً، أن تكون القوى الاقتصادية قادرة على التأثير في الحكم دون أن تجلس في مجلس الوزراء هو أحد أهم عناصر نقاشنا السياسي في اسبانيا، أكانت هذه القوى الاقتصادية بنوكاً، أو شركات تعمير كبرى، أو شركات الطاقة الكهربائية.
اختفت الإشارات إلى «الاشتراكية الحقيقية» من الأدبيات اليسارية المُعاصرة، لكن تمت استعادة مفهوم «القابلية الدائمة للعزل» من قبل مشاريع سياسية صاعدة في اسبانيا. وهذه الاستعادة لبعض عناصر الجمهورية التشاركية، والتي يعرضها فيليب بيتتي في صيغتها الأكثر ليبرالية، ليست إلا محاولة لإنقاذ بعض أقدم أفكار ماركس في نقده للديمقراطية الليبرالية. رغم كل شيء، وحتى إن كان ماركس قد أعاد صياغة بعض أفكاره الأكثر راديكالية حول الموضوع في وقت لاحق، لا يمكن إنكار الأثر الكبير للنقد الماركسي، خصوصاً ذلك الموجّه نحو العلاقة الشائكة بين الديمقراطية والسوق، وبين السلطة السياسية والقوّة الاقتصادية.


بابلو سيمون
أستاذ العلوم السياسية في جامعة بومبيو فابرا في برشلونة، متخصّص في النظم الانتخابية.








الموقع الفرعي لتجمع اليسار في الحوار المتمدن:
htt://www.ahewar.org/m.asp?i=1715




للاطلاع على صفحة الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي على الفيسبوك على الرابط التالي:
https://www.facebook.com/pages/الحزب-الشيوعي-السوري-المكتب-السياسي/1509678585952833