نهر الشامية يحتظن عاشقه ابو البيان ....


ذياب مهدي محسن
2017 / 2 / 20 - 17:54     

أنا الغجري المغترب ، هل انا من الغجر!؟ ... كلما زرعته الذكريات ينمو الآن ، بشغف وعشق وحياة ، آهن ياشط الشامية ، يالجرفك وصفصافه ، وبلبل القصب في صباحك الاشقر ، عند رقبة الجسر في الضفة الآخرى " الصوب الصغير" ( شط الشامية ما بلل كذلتج يافلانه ؟) حينما اعبر الشط سباحة من قرب شارع الحمام ، كانت في انتظاري ، ظهاري ، حر الشوق وحر الوقت ، حر الصيف .. وهي في انتظاري ..؟؟ تحمل ( معجانة ) فيها آواني وصحون الأكل لتغسلها في النهر ، " وبحجتك يالماي لترس وبدي ، والكَصد شوف هواي والعذر عندي " ومن بعيد المح ( كعد) ابو البيان ؛ هما أصحاب منذ طفولتهما ، لم يفترقا أبدا ، ثلاثة هو والنهر وبلمه " زورقه " ...عاشا ولا زالا في هذا البلد معا كأخوين تحملوا عبء الحياة بحلوها ومرها ، مناضلا كان في خمسينات القرن المنصرم ، ولازال ينهض بتفاخر ان عنوانه عضو في الحزب الشيوعي العراقي ... ابو البيان وشط الشامية ،كانا يحلمان أن يكون بلدهما متطوركباقي بلدان العالم الكثيرة ، ينحدر ببلمه ثمة ناي يعزف به وسلية للصيد ، وصوته يتهدجه بأغنية ، وفي عينيه أمنية وأمنية ، كان عاشقها وهي تعشقه ، كان ينظر لها ليس من الأنس ، بل كجنية الماء او حوريته ، وأبسط أحلامهما أن يكونا آمنين لما تبقى لهما من عمر، هو لحد الآن يتخذ من جرف الشط مكانه ومستقره عنوان ، هي تاهت في صخب المدينة والاعراف العشائرية وضياع الإنسان ، كان الحلم اكبر من واقعهما ، " يالشاتل العودين خضر فرد عود "، يغنيها من اعماق قلبه وهي على الجرف عينها عليه ،" كل البلام التفوت عيني على بلمك "كعده " امنيتهما ان يعيشا كباقي خلق الله في الارض الواسعة ... بعد فراق طويل من السنين مع رفيق دربه ، وكان عضو ارتباطة بالحزب سرا ، كل شيء انهار !؟ الجبهة وكما يرددها أبو كاطع انها "الجبحة !!" وحربنا الوطنية مع إيران العبثية ومن ثم بعد الانتصار كان الانهيار بدخولنا للكويت ، وهي القشة التي قصمت ظهر العراق ، وكان ما كان ... يرددها الاغبياء وحدهم وغدر الغادرون !؟ ... ورفيقه يذكره ان "سلام عادل" في عام 1959 حينما حاولوا اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم الفاشلة ، كتب مقال : الآن بدأ الأمريكان بإحتلال العراق !!، ولتقيا بعد الاحتلال . قال لرفيقه وهو يحاوره في مقر الحزب الشيوعي في الشامية ، في قصر كان للشيخ عواد عبد الساده " ابو نبيل وقاسم " ، ومن قبله كان المقر في دار الحاج محمد غلآم ... ابو البيان:أرى إننا نسير في نفق مظلم لا نهاية له ؟؟ أجابه رفيقه الزائر :لِمَ هذا التشائم يارفيقي ، مازال في العمر بقية ، إبتسم أبو البيان ، وردد اغنية " عمر وتعده السبعين لا ياذيبان " قال له رفيقه : انظر هناك في نهاية النفق ، أني أرى قبس من النور الساطع . لا يارفيقي : لم يعد في العمر بقية ، إن الذي تراه هناك ليس نورا أنه انفجار هائل ؟ احتلال وطائفية وشيوفينية وعشائرية ، لا دولة ولا نظام كأنها فوضة و"عرس واويه " ابو البيان في بداية الغروب يذهب إلى النهر عند مكانه الأثير ، رمال وطين حري وبعض الصخور المتهالكة . في الجرف كان بلمه "قاربه " مشدود الى بقايا من ساق شجرة الغرب، جلب معه راديو صغير، وسلية الصيد ، وقنينة شرابه المفضل ، نظر للسماء لم يشاهد اثر لقمر، فتح مذياعه ليلتقط اي بث لمحطة ما ؟ اخبار ولغو ومن اقول الرئيس ، تذكر ؟؟ لعن قدره ولم ييأس من البحث ، لكن من غير جدو . تمعن بالنظر الى الماء ، عمر له كأس من خمرته المفضلة كاسرها من مشربية معه ، وحتسى نصف الكأس ، مد يده لزنبيله اخرج ليمونة ، امتص منها ، ورجع ينظر الى النهر ويحدث نفسه اليوم لاصيد لاشيء يوحي له أنه سيصطاد ، وقف ، حرك شبكة الصديد "السليه" بيديه ورماها في النهر، شكلت دوائر من موجات متابعة واحدة تدعم الثانية كأنها بدلة غجرية ترتعش راقصة ، ابهره المنظر وراح سرحان في دوامة الموجات المتعاقبة حتى الجرف الاخر من ضفة النهر ، سيس قاربه ، ساعات طوال وهو يكرر رمي سليته لعل وعسى في رمية ما يصطاد ، الوقت ينحدر للمساء شمس الغروب ابتلعتها بساتين النخيل ، وهو لايسمع سوى صوت الموجات الصغيرة تتحطم عند بلمه "قاربه " قطع ريقه ، قضى على ما تبقى من خمرة كأسه منتشيا ، ثم أمعن النظر جيدا في الماء ، رأى وجوها بيضاء لرفاقه ولصدقائه وحبيباته الكثيرات ، نشج بحنين وشهق بأنين ، وتذكر قصيدة كتبها شيوعي من سماوة العشق " هاتف بشبوش " كان اهدائها لرفيقه الشهيد "زهير عمران " امتزج الحنين مع النشيد وآنَ واعطى لحنجرته العنان ، خرج صوته متهدجا بعنوان "يوم الشهيد تحية وسلاما " واخذ يقرأ لنسائم النهر المشبعة بعبق رائحة العنبر الذي ينتظر مناجل الفلح ، و" ياعشكنا " ارتفع صوته ايها البعيد ... ايها الشهيد أني أتذكر :
أتذكرُ جيداً...
رومانسيتكْ ...
وأنتَ فوق صهوةِ السايكلْ
تعرّجُ علينا في المقهى الشاطئيّ
كي تجعلَ أحلامنا ، سحراً دائماً
كان ضياؤكَ المتدفقِ في الشوارعِ والمدارسِ
كأنهُ (ستندال ) بحماسهِ الشكسبيري ، ضدّ راستين
أشهدُ الآنَ ...
عن ذلكَ الزمنِ اللذيذِ
أنكَ كنتَ حالة الأحاسيسِ ، التي يُشارُ لها بالعينِ ، وبالشعرِ
بالنضالِ والتصدي ، بحب ليلى وخنسا، وأمِّ غوركي
وبّكل ماينبعثُ من القلبِ للقلبْ
حالة ُ الأحاسيسِ ، التي أطّرها ( تيم بلانينغ )
وإرجوحتهِ البهّيةِ في التحوّل
بين مركزي ، الدينِ والإنسانيةِ
حتى أصبحتَ الصوتَ والظلّ الشيوعيّ بيننا
والثورةَ ضدّ مَنْ يمدحُ قتلنا
ضد السكّين الطائفيّ ، والمسدّس النازي
ضد مّن جاء بالظلامِ للبارات ِوالشوارعْ
...................
......................
أتذكرُ جيداً
في ذلكَ الزمنِ القمحيّ الأصيلِ
كأنكَ لم تكن تريدُ المزيدَ من الأيامِ
فأعددتَ نفسكَ كي تغادرنا
وهبتَ كل مافي الوصالِ النفيسِ
الى الترابِ المنثورِ بين النضالِ والحروبِ .
وفي بلاطِ الشوارعِ المتراميةِ ، صوبَ البساتين
تعلّمتَ .... كيف تصيرُ التلاميذُ وطنُاً يتغنّى
بالوفاءِ لفلاّحيهِ وعامليهْ !!!
تعلمتَ .....كيف تطالعُ التلاميذ ُفي الكوتْ
الى ثنياتِ القادم ، من السماوة َبالسرّ وبالحقيقةِ
التي بقيتْ ، تجالدُ في ساحاتِ الخرابِ حتى اليومْ
..........
........
أتذكرُ جيداً
كنتُ بمعّيةِ الشهيدِ الشيوعي (كاظم وروار) ، والشهيدِ (جمال وناس)
عند ناصيةِ أبي الستين
ذلك الشارع البوهيمي بعشاقهِ
الذين مرّواوسجلوا ، بطاقاتهم الكونية في الإنتماء .
أتذكرُ جيداً ...
وأنتَ تحدثنا ، عن العنفِ الثوري
وكيفَ كان بعيداً ، عن شرفتكَ الواعدةِ
حينها كان الحزبُ بلاداً
كان الحزبُ جداراَ
ميلاداً
تراثاً
حِواراً
ضياءاً
ياسميناً
كان الحزبُ عناقاً في اللحظةِ الراكعة .
فأيقنتَ أنّ الراهبَ الكاثوليكي
هو منْ شدّ وثاقكَ العنيدِ هذا
لكنّ الوقتَ العصيبَ ، جعلَ منك أنصارياً
تلميذاً لدى كزانتزاكيس ، ومسيحهِ المصلوبْ
حتى ترى يومَ الدينونةِ فوقَ الأرضِ هذيْ
لا...... لا........في أباطيلِ القيــامْ
.........................
........................
أعرفُ جيداً
إننا اليومَ بعيدونَ عنكْ
لكنّ سراجَ قبرِكْ ....
هو دليلنا الى رقودِكَ الجميلِ
الى أحلامكَ الطائرة
الى موتكَ الوسيمِ على منجلٍ ، من نبيذِ كرومنا الأحمرِ
الذي تطايرَ في عمقِ السحابْ .
أوَتعرفُ يارفيق ...
إنّ الدينَ تسيّسّ وأصبح فاشياً
وإنّ بعضّ ماتعرفهم ، صاروا ناسكينَ اليومَ
بإسمِ الخرافةِ والأساطير
والبعضّ الآخرِ.... بإنتظارِ عودةِ ظلّكَ اليساريّ .
فوا أسفي على زمانكَ الشجيّ الخالصِ للحرية ِ
بلاتصوفٍ ، بلاتقليدٍ يزحفُ آلافَ الأميالْ
إنها مشاعية ُ آخر زمانْ .
فنمْ يارفيقي ، كي لاترى إغتصابّ الشرفِ العراقي
في مقاصف ِالتجّارِ بالصلواتَ على النبي وآل بيته
نم ...
كي لاتموتَ مجاناً كما يموتَ الأغبياءُ
فلاشئ يخرجُ من مرايا الطقوس ِالوثنيةِ
ولا من الدورانِ حول الذهبِ المرصّعِ
في قبورِ ولاتنا
نم ياشقيّ
فاليومَ مجاميعنا قصبْ
وفي كلّ جامعٍ وقمّةٍ ، يَكذِبُ العربْ .
نم فجراً يارفيقي :
كي لاترى خيانةَ الشعراءِ في المديحْ
ونمْ ظهراَ : كي تأخذَ القيلولةَ بالنيابةِ عنا
ونم عصراً : فكلنا ماضونَ في النهايةِ
لكنكَ الوحيد الذي بيننا ، كما البحرِ السادرِ في الغروبْ .
ونم ليلاً: كي ترى قوافلَ الشهداءِ وهم يحلمون بالصغارْ
أولئك الصغار الذين يفترشون أماكننا تحتَ فيَء دبابةٍ
أو على مقربةٍ ، من ركامِ جيشٍ قد رحلْ .
فنم أخيراً ... بردائكَ الأبيضْ
فاليومَ.... أينما وليتَ ظهركَ
كلّ شئٍ قابلُّ للطعنِ والإنكسارْ
حتى الجريمةُ صارتْ ، إبداعاً وكمالاً وشعرا
بينما أنتَ ...
كنتَ تهجو النوّابَ وعزيزَ الحاج
لالشئ ...
غيرَ إنهم أرادوها عنفاً ثورياً ، يطيحُ بالجريمةِ والطغاة
فحسبناهم في ذلك الوقتِ الذهبي
بعيدينَ عن السراجِ اللينيني في التعايشِ والسلام
...................
...................
اليومَ ......وأنا أشربُ الكحولَ الأجنبي
أشربهُ بجرعتهِ الخاطفةِ
فأشعرُ أنّ الكأسَ الأولَ ، يذهبُ مباشرةَ الى الدماغِ
دون المرورِ بأمعائيّ الخاويةِ
فأتصيّدُ في الإفق السكرانِ بعضاً من شجاعتكْ .
أتصيّدُ الترنحَ المخمورَ ليسنين الروسيّ ، في مَقصفٍ
لم تدخلهُ نساؤنا المبرقعاتِ بالحجابِ وبالخديعةْ
أتخيّلُ وانا تحتَ الأضواءِ القزحيّةِ
الوانً السوتيانِ المخفي ، وكلّ مايجذبني خلفهُ
أو تحتهُ من أشقرِ البطون وأصفرِها .
فأجدُ نفسي ياشهيدنا ، مخيالاً ماهراً
لكنني لستُ على غرارِ مَنْ يتصيدُ
في الدماءَ العكرةِ ، عن فصيلةِ دمٍ طاهرةٍ
كي يسترَ فيها حقبتهُ الملطخةِ ، بين شهوتينْ
..................
..................
أتذكرُ جيداً
كيف جاءنا الخبرُ الحزينُ
حين ترجّلتَ من الحياةِ ، وركبتَ المدى نيابةً عنا
ولذا سيندافُ جزاءَ الربِ اليكَ بالورقِ الصقيلِ
وبالتلفازِ ، وعلى الهواءِ
وعلى لسانِ الرواةِ تسلسلاً
وعلى فرسِ الندامى حينَ ينداحُ خيالُهم
صوبَ البكاءِ على الشهداءِ ، ومَنْ رحَلوا عنوة ً
...........
............
أتذكرُ جيداً
وأنا انظرُ خلفَ أوراقَ العمرِ
كيف قالوا بأنّ العصافيرَ ، عند الجبالِ الشماليةِ
قد أدّت صلاتها ، على معصميكَ الداميينْ
وها نحنُ كم سنة ُّتمرّ على الرحيلْ
نحصدُ الأسى المثمرَ ، ونرشُ على بقاياكَ طيورَ البرقِ
كي نشعرَ أننا كنا ، وانتَ كنتْ
نشعرُ إننا نريدُ أنْ نرى الدينونة َ
مثلما كنتّ تريدْ ....
أنْ نراها هنا في الأرضِ...في الأرضْ
لا........ في أباطيلِ القيامْ
لا.......... في أباطيلِ القيام ْ
بعد هذا لبطتت سمكة في لحظة تيهانه ، انتبه إلى سليته سحبها ، يارب ثقيلة ، فجأة توقف رفع قنينة الخمر افرغ قسما منها في جوفه ، عيناه اغرورقت بالدمع ، فاض الشجن ، فاض النهر ، فاضت سليته بصيد وفير ( كطاطين ووبناني ، شبوط واحد وجريتين ، وابوالزمير ) ضحك والخمرة هزته الآن ، الليل وبعض المارة يحيونه من بين الجرفين ، رجع لذاكرته وهو يحدث رفاقه الذين غيبتهم سجون الطاغية الفاشستي صدام ، صار يحدثهم عن الخيبات التي مر بها ، هي كثيرة جداً ، حتى كاد أن يكون العمر كله عبارة عن خيبة كبيرة ، سحب السلية من الماء وضعها في قاربه "البلم " تنفس الصعداء ، اشعل سجارته سحب نفس عميق ثم نفثه عاليا ، "أبو البيان اخذلك مجعة اخرى حتى تتنومس الليلة " يخاطب نفسه بوله او بغيبوبة انتشائه ولقائه مع رفاقه الشهداء حيث حضروا معه في مخياله اليوم ، حسرة كبيرة ، لم يجد جوابا منهم وهو يحدثهم عن خيبات الوطن الكثيرة ، حركة قاربه تشكل موجات تخيلها انها شفاه رفاقه وهم يضحكون فقط ، أراد ان يشعل نارا لسيجارة ثانية ، لم يفلح . في اساريره هو سعيد الان ، رفع قنينة الخمر ، امعن النظر فيها " ولك ابو البيان كضه ثلثينه " من آين لك "عوازه" هو سعيد لأنه رأى كل وجوه أحبته لكنهم لا يتكلمون . استقر في قاربه ، مد يده على المذياع لعله يسمع أغنية او شيء من الطرب ، لم يفلح ! تذكرشعرا لجاسم الجبوري ، اعطى لحنجرته العنان فصدح والصدى يأتيه من الصوبين :
چنت مسعد وگضّي الليل بالرّاح
انطحن گلبي ولك وجهين بالراح
إبهيده ياشريچ العقل بالراح
لا تلچلم گلب مصيوب ليّه
انا بجفاك ما محتاج كلشي
بلف نعمه او معالي اوعلم وصروح
لچن طيفك بقه ويّاي يمشي
مثل تيّار يسري او ينتل الروح
او بعد ماشوف دربي إعيوني تعشي
وظل ارفس ورفرف طير مذبوح
وگل للدنيا يا دنياي فلشي
ماريد الفرح دنيلي النّوح
إلزمي اهروش گلبي إو حيل حشّي
اشما يسكن جرح تتناگد اجروح
ردّيني إلزماني او ذاك عشّي
وعيش إويه الحبيب إبحسوة الفوح
قرنفلاتي ...