في فكرة -خَلْق المادة من العدم-


جواد البشيتي
2017 / 2 / 8 - 22:22     

جواد البشيتي
"فناء المادة" ما عاد بالفكرة الغريبة عن الفيزياء (والنظريات الكوزمولوجية) المعاصرة، أو المجافية لها، مع أنَّ الفيزياء ما زالت على استمساكها بأحد أهم مبادئها (أو قوانينها) الحديثة، ألا وهو مبدأ "استحالة فناء المادة، أو خلقها (من العدم)".
وما زلتُ أذْكُر تلك العبارة (الدينية) التي تُلْصَق بهذا المبدأ، أو القانون، في كُتُب الفيزياء التي درسناها في المدرسة، والتي "يُوَضِّحون" فيها أنَّ المادة لا تفنى ولا تُخْلَق "على أيدي البشر فحسب".
واليوم نرى مزيداً من الجهد، يبذله علماء وفيزيائيون، هذه المرَّة، للتوفيق بين مبدأ "استحالة فناء المادة" وفكرة "فناء المادة".
وأستطيع التأكيد أنَّ بعضاً من عناصر ومكوِّنات، ومن منطق، نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang قد سمح لكثير من العلماء والفيزيائيين والكوزمولوجيين بإنشاء وتطوير نظريات وتصوُّرات مدارها جميعاً فكرة "فناء المادة"، فـ "المادة" Matter، على ما يريدون قوله وتأكيده، ليست ممكنة الفناء والزوال فحسب؛ بل واجبة الفناء والزوال.
وعلى كثرة ما "أبدعوه" من تلك النظريات والتصوُّرات، ظلُّوا مُقَصِّرين منطقياً؛ فَهُم لم يُعَرِّفوا لنا هذا الذي يمكن، ويجب، أن يفنى، فإنَّ سؤال "ما هي المادة؟" ظلَّ بلا جواب عندهم.
وفي المنطق ليس إلاَّ نقول إنَّ المرء لا يحقُّ له أنْ يتكلَّم (بلهجة علمية واثِقة) عن فناء، ووجوب فناء، "المادة" إذا لم يُجِبْ، من قبل، عن سؤال "ما هي المادة؟"، فكيف لكَ أنْ تحدِّثنا عن فناء شيء وأنتَ تجهل ماهية هذا الشيء؟!
هؤلاء المُغْرِضون فلسفياً (ولاهوتياً ودينياً) في كلامهم (الفيزيائي الرَّصين) عن "المادة ("نشوءاً" و"زوالاً"، "ولادةً" و"موتاً")"، عرَّفوا الكون (الذي خلقه "إله فيزيائي" يسمُّونه "الانفجار الكبير") بما يسمح بتصوُّر "المادة" على أنَّها "مخلوق فانٍ لا محالة"، فالكون، في تعريفهم له، هو "كل شيء"؛ هو المجرَّات والنجوم..، والفضاء نفسه، وهو الزمان والمكان والقوى والكتلة والطاقة..
قبل ولادة الكون، على ما يزعمون، لم يكن من وجود لأيِّ شيء؛ فإنَّ "البيضة الكونية" Singularity التي منها، أو من "انفجارها" الذي يسمُّونه "الانفجار الكبير"، وُلِدَ الكون، قبل نحو 13.7 بليون سنة، لم تكن بالشيء الذي يمكن تصوُّره على أنَّه "مادة".
ولقد بذلوا وسعهم لكَسْوِ هذه "البيضة" بخواص يكفي أنْ تكسوها بها حتى لا يبقى من فَرْق بينها وبين "العدم" Nothingness.
من بعضٍ من نظرياتهم الكوزمولوجية، المجافية للعِلْم والمنطق، وإنْ بدت علمية ومنطقية، أستطيع أنْ أتصوَّر "وجوداً" للكون لا وجود فيه للمادة، ويمكن خلقها فيه من العدم!
تخيَّلوا معي أنَّ كل شيء في الكون (كل المجرَّات والنجوم والكواكب..) قد فَنِيَ، ولم يبقَ من وجودٍ فيه إلاَّ لذاك الجسم الذي يسمُّونه "الثقب الأسود" Black Hole، ولتلك الجسيمات التي يسمُّونها "الجسيمات الافتراضية" Virtual particles.
"الثقب الأسود"، في تعريفهم له، هو "مادة سُحِقَت حتى خرجت من الوجود"؛ إنَّه "المادة في كثافتها المُطْلَقَة (أو اللانهائية)"، أي "المادة التي بَقِيَت كتلةً، وزالت حجماً"، والتي على الرغم من زوالها حجماً ظلَّ لهذا الجسم (أي "الثقب الأسود") نصف قطرٍ، يَعْظُم بِعِظَم كتلته، ويَصْغُر بِصِغَرِها.
ونصف القطر هذا (Schwarzschild radius) هو المسافة بين مركز (Singularity) هذا "الثقب" وسطحه المسمَّى "أُفْق الحدث" Event Horizon.
وثمَّة خاصية عجيبة لهذا الجسم هي أنَّه يظلُّ محتفِظاً بماهيته، أي يظلُّ "ثقباً أسود"، ولو "أطْعَمْتَه" كل مادة الكون، فهو يتغيَّر فحسب في "الكتلة"، أي تزيد كتلته، وفي "نصف قطره"، أي يزداد طول نصف قطره.
و"الثقب الأسود" أكان صغير الكتلة (وصغير نصف القطر من ثمَّ) أم عظيم الكتلة (وعظيم نصف القطر من ثمَّ) لا يسمح لأيِّ شيء (ولا حتى للضوء نفسه) بالخروج منه، والإفلات من قبضة جاذبيته الهائلة؛ أمَّا المادة التي يلتهمها (إذا ما كانت في متناول جاذبيته) فتُسْحَق في جوفه، وتَخْرُج نهائياً من الوجود، وكأنَّ هذا الجسم هو "المقبرة الفيزيائية للمادة".
إنَّ "الثقب الأسود"، بحسب تعريفهم له، وبحسب خواصِّه تلك، هو "المادة الفانية"، أو "فناء المادة"، بهذا "المعنى الفيزيائي" للفناء.
في نظرية "الثقب الأسود" جعلوا لـ "العدم"، أو لـ "فناء المادة"، مفهوماً فيزيائياً، فهذا الجسم، الذي له "كتلة" و"نصف قطر"، وليس له "حجم"، هو الذي فيه، وبه، تُسْحَق المادة حتى تَخْرُج من الوجود.
ثمَّ جاء الفيزيائي البريطاني الشهير ستيفن هاوكينج بنظرية "التبخُّر"، فـ "الثقب الأسود"، بحسب وجهة نظر هاوكينج، عُرْضَة لِمَا يشبه "التبخُّر".
ومُخْتَصَر هذه النظرية هو أنَّ "الفراغ" Vacuum، أو "الفضاء الفارغ (أو الخالي)" Empty space، مُفْعَمٌ دائماً بـ "الجسيمات الافتراضية"، التي تنشأ وتزول في استمرار، ولا تبقى على قَيْد الحياة إلاَّ زمناً في منتهى الضآلة، ولضآلته "لا يَشْعُر" قانون "حفظ المادة" بوجودها؛ فوجودها (الذي لا يطول) لا يتسبَّب بزيادة كمية المادة في الكون.
و"الجسيمات الافتراضية" تَظْهَر في "الفضاء الفارغ" على هيئة "أزواج"، فكل جسيم افتراضي يَظْهَر مع ضديده الافتراضي، أي أنَّ "الإلكترون الافتراضي" يَظْهَر مع ضديده "البوزيترون الافتراضي"؛ وما أنْ يَظْهرا إلى الوجود حتى يختفيا منه، فهما يتصادمان، فيفني كلاهما الآخر.
هاوكينج يتوقَّع (أو يتحدَّث عن) نتائج مختلفة إذا ما ظَهَر زوج من "الجسيمات الافتراضية" في ضواحي، أو في جوار، "ثقب أسود".
إذا حَدَث ذلك (وهو يحدث دائماً) فإنَّ "البوزيترون الافتراضي"، مثلاً، يسقط في فم "الثقب الأسود" قبل أنْ يفنى (من خلال تصادمه مع ضديده "الإلكترون الافتراضي").
هاوكينج يعلِّل هذه الظاهرة قائلاً إنَّ "الثقب الأسود"، ولِفَرْط جاذبيته، يلتهم "البوزيترون الافتراضي"، فيترتَّب على هذا الالتهام "تبخُّر" جزء من كتلة "الثقب الأسود"؛ وهذا "الجزء المتبخِّر" يمتَّصُه "الإلكترون الافتراضي" المُنْتَظِر في جوار "الثقب الأسود"، فيتحوَّل، من ثمَّ، إلى إلكترون (فعلي، حقيقي، واقعي).
"المادة الميتة" في جوف "الثقب الأسود" تُبْعَث بعد موتها؛ فالمختفي (أي المتبخِّر) من كتلة "الثقب الأسود" يَظْهَر في "الجسيمات الافتراضية"، محوِّلاً إيَّاها إلى "جسيمات حقيقية، فعلية، واقعية".
إنَّ المزج بين نظريتي "الثقب الأسود" و"الجسيمات الافتراضية" يفضي، على ما رأيْنا، إلى "كوزمولوجيا لاهوتية"، نتصوَّر فيها وجوداً فعلياً للكون، تنتشر فيه "مقابر للمادة"، هي "الثقوب السوداء"؛ ثمَّ يتولَّى "إشعاع هاوكينج" بَعْث المادة بعد موتها، أي خلقها ثانية من هذا "العدم (الفيزيائي)"، فـ "الثقب الأسود"، الذي فيه، وبه، فنيت المادة، أو سُحِقَت حتى خرجت من الوجود، "يتبخَّر"؛ وهذا "البخار" يتكاثف في "أشباح"، هي "الجسيمات الافتراضية"، فتتحوَّل هذه "الأشباح"، أو "الجسيمات الافتراضية"، إلى "مادة حقيقية فعلية ملموسة"!