فكرة موت الله ابتداء من فلسفة سقراط وانتهاء إلى فيزياء أينشتاين


محمد حسام الدين العوادي
2017 / 2 / 2 - 10:04     

قال نيتشه لأوّل مرّة سنة 1882 : "إنّ الله قد مات، ونحن الذين قتلناه". كان نيتشه السابق في إيراد فكرة موت اللّه أو الربّ أو الإله. لكنّ الفكرة ليست بالجديدة بل فكرة موت الإله قديمة قدم الفكر الإنساني. يمكن أن نصطلح على أن تسمية فكرة موت الإله بالإلحاد كما يمكن تسميتها باللادينيّة. الادينية كما أسلفت قديمة قدم الفكر والوعي البشري لكن تمّت صياغة الفكرة بشكل ناضج لأول مرّة في اليونان القديمة مع الفلاسفة الأوائل مثل سقراط وأرسطو. لقد تمرّدت الفلسفة اليونانيّة على الدغمائيّة التي كانت تسيطر على عقول العامّة، هذا التمرّد شكّل ثورة في الفكر الإنساني عموما والفلسفة خصوصا ودفع روّاده حياتهم ثمنا لنشرة ونذكر هنا عمليّة إعدام أرسطو الشهيرة الذي جعلت منه رمزا من رموز التضحية من أجل الفلسفة والعقل و شهيدا من شهدائها. ومن رموز اللادينيّة في نفس العصر نذكر برتاغوراس إمام السوفسطائيين وزعيمهم. أمّا بالنسبة للعرب فلم تكن هذه الفكرة غائبة قبل الإسلام ولا بعده. أما قبل الإسلام فكان الملحدون يعرفون بالدّهريّين وهم أقرب للماديّة ، لا يعترفون بالخالق ولا بالبعث. وقد تواجدوا حتى بعد الإسلام ومنهم شخصيّات مشهورة وأعلام من أعلام التاريخ الإسلامي. ومن طرائف ما قيل في هذا المعنى قول الشاعر ديك الجنّ وينسب البعض القول للمعرّي:
أَأَتْرُك لَذَّة َ الصَّهْباءِ عَمْداً ** لما وَعدوه من لَبَنٍ وخَمْرِ
حَيَاة ٌ ثُمَّ مَوْتٌ ثُمَّ بَعْثٌ *** حديثُ خرافة ٍ يا أمَّ عمرو
ومن مشاهير اللادينيين نذكر الرّازي الطبيب المعروف كما نذكر بن المقفّع والمعرّي, ولا نكاد نجد عالما أو فيلسوفا عربيّا مشهورا إلا ونجد أنّه اتّهم بالإلحاد وتمّ تكفيره في جميع المحافل الدّينيّة. ومن الطّريف في تاريخ الفكر والفلسفة الإسلاميّة أنّ بعض هؤلاء الأعلام الفلاسفة والعلماء الكبار لا يعلم بأنه ملحد أصلا. نذر على سبيل المثال أنّ ابن سينا كان بنقد الرازي نقدا لاذعا وقام بالردّ على أفكاره الإلحاديّة دفاعا عن الإسلام. ثم جاء بن تيميّة وكفّر الإثنين رادّا على أفكار بن سينا ومحذّرا منها ولاعنا إياه في كل مجلس، وقد فعل ذلك لأن بن سينا ذهب بعيدا في تأويله للقرآن وأسرف في استخدام عقله على مسائل نقليّة مما جعله ينكر مسائل ثابتة في القرآن والسنّة مثل البعث المادّي –أي خروج الجسد من باطن الأرض بعد أن كان رميما وعظاما- كما أنكر الإسراء والمعراج بمفهومه المعروف أي بالجسد – بل تجاوز ذلك ليقول بقدم العالم وهو شيء جعل بن تيميّة يكفّره بسهولة ويسر.
لطالما ارتبط العلم والعقلانيّة بالإلحاد. نرى ذلك جطليّا في التاريخ الإسلامي مع بن سينا كما أسلفنا الذكر ونراه أكثر وضوحا مع الطبيب والعالم الموسوعي الرّازي. أنكر الرّازي النبوّة والرسالات ولم يكن يرى أي إعجاز في القرآن ولا غيره من الرسالات السماويّة. يقول الرازي : " قد و الله تعجبنا من قولكم إن القرآن هو معجز ، و هو مملوء من التناقض ، و هو أساطير الأولين – و هي خرافات ". و هو هنا يهاجم إعجاز القرآن على نحو مشابه لما فعله ابن الراوندي ، فيهاجمه من ناحية النظم و التأليف ، كما يهاجمه من ناحية المعنى. أما من ناحية نظم القرآن و تأليفه فإنه يقول : " إنكم تدعون إن المعجزة قائمة موجودة – و هي القرآن – و تقولون : " من أنكر ذلك فليأت بمثله " . ثم قال ( أي الرازي ) : إن أردتم بمثله في الوجوه التي يتفاضل بها الكلام فعلينا أن نأتيكم بألف مثله من كلام البلغاء و الفصحاء و الشعراء و ما هو أطلق منه ألفاظا ، و أشد اختصارا في المعاني ، و أبلغ أداء و عبارة و أشكل سجعا ، فإن لم ترضوا بذلك فإنا نطالبكم بالمثل الذي تطالبونا به ." و الشبه واضح بين هذا القول و بين قول ابن الراوندي : إننا نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من بعض سور القرآن.
لن أطنب في التفاصيل عن اللادينية في صدر الإسلام لضيق المجال علما بأني سأفرد لها مقالات مستقلّة لأن الموضوع ثريّ وشيّق. دعنا لذلك نمرّ إلى مرحلة أهمّ وأكثر تأثيرا في تاريخ الإلحاد واللادينيّة.
بعدما اكتشف غاليلي أن الكواكب بما فيها الأرض تدور حول الشمس، ورغم محاولات الكنيسة الجاهدة لكتم هذه الحقيقة، إنتهى وهم الإنسان بأنه مركز الكون، وفنّدت المعتقدات التي جاهدت الكنيسة قرونا لترسيخها وحمايتها. تتالت الإكتشافات العلميّة الهامّة منذ كوبرنيك وغاليلي مرورا بنيوتن وكيبلير ساهمت في صياغة وجه آخر للمعارف والعلوم، وجه جديد عقلاني لا يقدّم المسلمات والدغمائيات الدينية على العقل. هذه الثورة العلميّة التي أصبحت تسمى لاحقا بعصر النهضة ساهمت في تقديم دول العقل والعلم والمنطق على المعتقدات الدينيّة مما جعل دور الكنيسة يتراجع تدريجيّا أمام زحف العلوم والفلسفة المتواصل. إكتشافات علميّة كهذه بدّدت معتقدات سائدة منذ فجر التاريخ رسّختها الأديان مثل اعتقاد أن الأرض مركز الكون وأن الشمس تدور حولها. النّهضة التي بدأت في ايطاليا سرعان ما انتقلت للدّول المجاورة فشهدت فرنسا ظهور فلاسفة وعلماء كبار. فكان ديكارت على سبيل المثال قد جمع بين الفلسفة والرياضيات والفيزياء وكان من أبرز العلماء على مرّ العصور. أثّر تأثيرا واضحة في تاريخ العلم وها نحن ماتزلنا ندرس قوانينه في الضوء والبصريات في الفيزياء ويستعمل نظام إحداثياته إلى اليوم في الرياضيّات. ما انفكّت الكنيسة والدين يتراجعان حتّى تلقّتا ضربة موجعة مع وضع تشارلز داروين لنظريّة التطوّر التي صدمت كل من يعتقد أن الإنسان نزل من السماء أول نزل آدم وحوّاء وقاما بالتكاثر وأنه خلق في أحسن تقويم كما تقول الأديان والسماويّة وربما حتى بعض الأديان الوثنيّة. لم يمض زمن طويل حتّى تخلى أغلب الفلاسفة والعلماء عن فكرة الدين من جذورها الذين لم يعودوا يرون أيّ حاجة لها. فجاء نيتشة وأعلن أمام العالم عام 1882 بأن الإله قد مات. ومنذ ذلك لم يعد أي عالم أو فيلسوف يتحرّج من نقد الدين والمقدّسات بأنواعها. ومن الطرائف أسوق حوار لابلاص عالم الرياضيات والفيزياء الفرنسي مع نابليون بونابارت الذي كان جنرالا آنذاك. فيروى أن نابليون بعد أن إطلع على موسوعة وضعها لابلاص في علم الفلك والفيزياء سأله باندهاش: "يا لابلاص لقد قرأت كتابك وفيه عديد المعادلات والقوانين لكنّي لم أجد كلمة إله أو الله أو الخالق أبدا في كتابك" فردّ عليه لابلاص قائلا "سيدي، لم أجد أي حاجة لإيراد هذه الفرضيّة". فليتأمّل القارئ هنا كيف أن لابلاص يعتبر فكرة الإله فرضيّة، بل أنه لم يجد أيّ داعٍ لإيراد هذه الفرضيّة لأن معادلاته وتبييناته كافية لتفسير وتبيين كل ما أورده من حقائق علميّة. ذهب الطبيب ومؤسّس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد أبعد من ذلك عنما كتب كتابيه قلق في الحضارة ومستقبل وهم. فقد توصّل بعد بحوثه الطويلة والمعمّقة في التّحليل النّفسي إلى اعتبار الإعتقاد في دين أو التديّن عبارة عن مرض نفسي وهلوسة. وقد وصف الدّين بمصطلح الهذيان الجماعي.
لا يكاد الدين في عصرنا الحالي يجد مكانا في عقول كبار العلماء والباحثين خاصة علماء الفيزياءن الفلكن البيولوجيا والرياضيات. فقد ذكرت أحد الدراسات الإحصائيّة أن 7 في المائة فقط من أعضاء الأكاديميّة الأمريكية للعلوم كانوا يِمنون بإله ما، 20 بالمائة لا أدريون و الباقي أي أكثر من 70 بالمائة ملحدون أو لادينيون تماما. هذا على عكس عامّة الشعب –أي الأمريكيون العاديّون – حيث أكثر من 75 بالمائة يعتقدون في إله ما و فقط 7.1 بالمائة ملحدون. النتيجة هي تقريبا نفسها في فرنسا في دراسة إحصائية اعتمدت على العلماء والباحثين في س.ن.ر.س: المركز الوطني للبحث العلمي حيث أعرب 70 بالمائة منهم عن عدم قدرتهم على الجزم بوجود إله من عدمه وحتى من أعتقد بوجود إله فليس يؤمن بالإله الذي تتحدّث عنه الأديان بل بقوّة غيبيّة –ميتافيزيقيّة- يجهلونها وخير مثال على ذلك أينشتين الذي قال: "لا يمكنني أن أتخيّل إلها يكافئ أو يعاقب مخلوقات خلقها بنفسه." وقد يلاحظ القارئ هنا بيُسر كون الإله الذي يؤمن به ألبرت أينشتاين ليس نفس الإله الذي نعرفه في الأديان السماويّة. أفنى أينشتاين حياته في البحث عن "معادلة كل شيء" ولم يصل إليها في النهاية رغم أنه وصل لنظريّة غيّرت وجه العلم للأبد ألا وهي نظريّة النّسبيّة. ربما كان هدف أينشتاين الأسمى هو الوصول لله الذي يختفي وراء معادلة كل شيء لذلك فهو يقول: دَرَج العلوم عبارة عن سلّم جاكوب، لا ينتهي إلا تحت أقدام اللّه". فهل الله عند أينشتاين هو مجموعة المعادلات الرياضيّة التي تنظّم الكون. هذا ممكن جدا إذا سمعنا قوله الشهير: "إن الله لا يلعب النّرد". ويبقى حقيقة معتقده غير واضحة للإنسان البسيط الذي يعرف فقط مصطلح مؤمن أو ملحد. ومن أجمل ما قال أينشتياين ردّه على من سأله هل تؤمن بالله فقال: "عرّفوا لي أولا ما تصطلحون على تسميته الله وسأخبركم إن كنت أؤمن به أو لا.

إنّ طبيعة العلوم تراكميّة وهي مثل طوابق بناية عالية، لا يمكنك أن تبني الطابق الثاني إن لم تبن قبل الطابق الأوّل ، كذلك لا يمكن أن تبني الطابق الثالث قبل أن تبني الأول والثاني. إنّ تاريخ العلوم زاخر بأسماء علماء كلّ منهم بنى طابقا أو جزءا من طابق. لم يكن لأينشتاين أن يضع نظرّة النسبيّة لو لم يتقن تماما قوانين الحركة لنيوتن و قوانين كيبلير لحركت الكواكب والأجرام السماويّة، كما لم يكن ديكارت ليضع قوانينه في البصريّات لو لم يقرأ أعمال إبن الهيثم في نفس المجال. إن مجال العلم ومجال الله مجالان مختلفان تماما فالعلم ميدانه الكون والعالم الملموس والمحسوس أما الإله أو الرب أو الله فمجال البحث عنه هو مجال ميتافيزيقي ماوراء طبيعي، لهذا السبب فإن إلحاد العلماء من فيزيائيين ورياضيين وبيولوجيّين هو في الأغلب إنكار للإله بتعريفه الذي درج في الكتب السماويّة –أو غير السماويّة- وتوارثته الأجيال بطريقة ميكانيكيّة ودغمائية دون التشكيك فيه أو مراجعته أو تجديده. إنه من الطبيعي أن يذبح العلم الإله من الوريد إلى الوريد في عصر أصبح فيه العلم يكاد يجيب عن جميع تساؤلاتنا حتّى سؤال كيف بدأ الخلق وكيف نشأت الأرض وكيف جاء الإنسان.