- تحّولات - لزهدي الداوودي


عوني الداوودي
2017 / 2 / 2 - 04:03     

" تحّولات " لزهدي الداوودي
تقع رواية تحّولات في ثلثمائة صفحة من القطع الكبير، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وبطبعة أنيقة، زُيّن غلافها الأول بلوحة للفنانة الروسية " ناتاشا مانيلس" وقد رُسمت اللوحة خصيصاً لغلاف الرواية.
أدناه ... ليس أستقراء لأحداث الرواية، ولا محاولة نقدية لمضمونها، بقدر ما هو تعريف لهذا المنتوج الأدبي، ومحاولة ذاتية لفهم الرواية وتقييمها كمتلقي.
يضعنا الروائي زهدي الداوودي منذ البداية في حيرة حول تصنيف " تحّولات ". هل هي رواية تاريخية؟ أم رواية سيرة ذاتية؟ أو سياسية توثيقية ؟ فقد جاء مثلاً في، الأهداء: " إلى الأحياء والموتى ممن عاشوا أحداث هذه الرواية " مما يدل على أن شخوص الرواية أناس عايشهم الراوي، وتعرف على حياتهم الشخصية ومكنونات دواخلهم وطموحاتهم، وغيرها من الامور التي يسردها لنا الداوودي بشكل واضح وصريح، لكننا نقرأ في ذات الوقت في " ملاحظة ختامية " حيث ثبتها المؤلف في آخر صفحة من الرواية على عبارة موجهة للمتلقي، تقول: " إن أراد ـ أي القارئ ـ أن يكون لنفسه صورة شاملة عن حياة هذه الأسرة، التي لا وجود لها إلا في ذهن الكاتب، ولذلك فإن أي تشابه مع الواقع، ليس سوى مجرد صدفة "، بمعنى أن العبارة الأخيرة تنسف الأولى، ولا نعلم بأي من تلكم العبارتين أن نأخذ، أو يحاول الداوودي أن يخفي الهويات الحقيقية للشخصيات التي لا تزال على قيد الحياة، لإعتبارات إجتماعية.
لكن ومن خلال العرض أو السرد التاريخي لأحداث الرواية نجد شبهاً واضحاً لحياة بطل الرواية " زوراب " وبين حياة المؤلف الشخصية، أو لربما زوراب هو توأم حياته، إضافة إلى "المكان" الذي هو أيضاً مرتع طفولة وصبا وشباب الأديب زهدي الداوودي "محافظة كركوكـ بأقضيتها ونواحيها" .
كما أن الرواية تخلو من الحبكة أو العقدة التي تشغل القارئ لفك "طلاسمها" أو إيجاد الحلول المناسبة لها قبل الفراغ من قراءة الرواية ... لذلك برأيي أن تحّولات تشتمل على التصنيفات المذكورة أعلاه جميعا، فهي لا تخلو من السرد التاريخي لحقبة زمنية مهمة من تاريخ العراق الحديث، وهي نهايات الحكم الملكي في العراق، ومرحلة الجمهورية العراقية الأولى، ومن ثم إنقلاب شباط 1963 .. أما لماذا رواية سياسية أيضاً ؟ ذلك وعلى الرغم من أنها تتناول بالتفصيل حياة أسرة فلاحية فقيرة في إحدى القرى التابعة لقضاء طوز خورماتو من محافظة كركوك، لكن الطابع الغالب على مجرى الأحداث في الرواية سياسية بحتة، حيث هناك الخلايا الحزبية السرية لا سيما الشيوعية منها، والشباب المتحمس للتغيير والإصلاح، مركز الشرطة القمعي، ومحاولات تجنيد الشباب لعمليات التجسس، وكذلك السجون والمعتقلات والتعذيب، والحرس القومي والإعتقالات، والقتل العشوائي، وغيرها من الأحداث السياسية العاصفة التي مر بها العراق أبان تلك المراحل، كما أن مجمل أحداث الرواية حقيقية حدثت في فترات متلاحقة على أرض الواقع لذلك تعتبر رواية تحولات بحق جزء من تاريخ العراق السياسي الحديث والمعاصر، ويمكن لها أن تأخذ مكانها في أعمال سينمائية أو تلفزيونية لدقة الوصف والتحديد والحوار.
في " تحوّلات " يطفو "القاع !! " إلى السطح، ونقصد هنا بالقاع حياة الجموع البشرية البائسة التي تعاني من قمع السلطات وتناضل على جبهتين تطحان روحه، وكيانه، جبهة التغيير والإصلاح والحلم بغد أفضل لهم، وللأجيال القادمة، وجبهة الصراع من أجل لقمة العيش.
تدور أحداث الرواية حول حياة أسرة فلاحية فقيرة في منطقة متنوعة بأثنياتها ومذاهبها الدينية، ورغم الطابع الكوردي الغالب على المنطقة تبقى لكل فئة بصماتها الواضحة والمتميزة، مزخرفة أطر العلاقات الإجتماعية في هذه القصبة بطيف من الألوان المتشابكة التي ترسم لنا لوحة جميلة من التعايش الأهلي السلمي قبل وصول جحافل الجراد الفاشي التي لم تبقي من الواحات الخضراء الإجتماعية المعطاءة غير أراض جرداء، وحرائق لا يزال دخانها المتصاعد يطبق على أنفاس البقية الباقية التي تدق بإصرار معاولها في الأرض بقوة لولادة العالم الذي حلم به زوراب "بطل الرواية" وصحبه الذين قضى بعضهم نحبه أما على سفوح الجبال أو تحت التعذيب، أو في عتمة الأقبية السرية والمعتقلات، وتحت أعواد المشانق.
على الرغم من الجوع والوجع والتشرد والخوف الذي يطبع أغلب شخصيات الرواية، لكنها لم تخلو من بعض القفشات الساخرة التي تصبغ النقاشات الجانبية أو المباشرة في المقهى الوحيد في القرية .. كما يرسم لنا السارد صورة واقعية عن حياة الطلبة في معهد المعلمين في كركوك ومعاناتهم، والمقالب التي يرتبوها لبعضهم ببراءة، فمن تلك المقالب على سبيل المثال هو أن أحد الطلبة القادمين من الريف، وضمن الحصة الغذائية اليومية، قد حصل على "موزة" ويبدو أنه لم يذق الموز قبل ذلك التاريخ فحاول أن يلتهمه مع قشره على أنه "خيار صيني" كما أفهمه أحد زملاءه الطلبة، فهنا يغضب الطالب "الضحية" ويقسم بأن يرد المقلب بلكمة قوية في وجه من ألبسه المقلب، فيبادره زوراب ويطرح عليه فكرة المقلب المقابل، فيخفون حذاءه العتيق الذي لا يملك غيره مجبرين أياه بالسير حافياً من القسم الداخلي إلى المعهد.. هكذا والجميع في حالة من الهياج والمرح والمقالب المضادة...
ينحدر زوراب من أسرة فقيرة في وسط فلاحي، ومن هنا يأتي فهمه لنفسية الفلاح وكيفية تفكيره مفنداً الآراء السطحية التي توصف الفلاح بالسذاجة أو إمكانية خداعه بسهولة، فلنرى مثلاً حكم زوراب على الفلاح: " أنك تستطيع أن تتكلم مع الفلاح، وأي فلاح، كيفما تشاء، إنه يستمع إليك بجد ويأخذ كلامك بجد، ولكنه لا يصدقك بقدر ما يصدق نفسه. ويتصرف ليس كما تطلبه أنت منه، بل كما يوحي إليه تفكيره، وليس من الضرورة أن يكون هذا الإيحاء منطقياً. إنه يتصرف بموجب نداء فطري أزلي يختفي وراء هاجس أشبه بترمومتر حساس، يعرف الفلاح بموجبه، ومن خلال دقة معينة في قلبه، ما إذا كان الحدث القادم ساراً أم أنه ينذر بالخطر أو التشاؤم. وعبر هذا الشعور يبدأ نهاره وفصله وعامه، وحتى حياته الزوجية وعقوده التجارية وغير التجارية. ويستحيل أن ينجز معاملة ما في الليل،لأنه يؤمن إيماناً مطلقاً بالمقولة : كل ما يقال في الليل يمحوه النهار " . مثل هذا الوصف والفهم لنفسية وتفكير الفلاح البسيط يذكرنا بالقول الشائع وخاصة عند المصريين " أنه فلاح ماكر !! " وطبعاً لا يأتي هنا قول الماكر بشكل سلبي بقدر ما يدل على الحيطة والحذر، أو هذا النداء الداخلي الغريزي حسب وصف الداوودي.
في تحّولات ترى عالم الريف والمدينة على حقيقته، كما أنك تجد أيضاً عوالم الثورة وهمجية السلطة ... ولا تخلو تحّولات من الحب والعاطفة، فمادلين التي أحبها زوراب تطل بين الحين والآخر، وتختفي فجأة، وهو من نوع الحب في مجتمع لا يزال تابو الدين فيه المحرك الأساسي للكثير من الأحداث والأحكام، لكن طيفها يبقى عائماً في خيالات وعالم زوراب، وأخيراً يقرر السفر للخارج بعد ما أوصدت جميع الأبواب والمنافذ للعيش بوجهه بعد خروجه من السجن وفصله من وظيفته، ليس بسلام حسب، بل حتى في الحصول على ما يمكن له أن يعتاش منه، لا سيما أنه المعيل لأمه وأخوانه وأخواته.
عوني الداوودي ـ السويد.