عجز المثقف وخيانته..مقدمة لتحليل سوسيواقتصادي


مجدى عبد الهادى
2017 / 2 / 1 - 10:02     

يحاول هذا المقال الإجابة على السؤال القديم / الجديد المتعلق بما يُسمى خيانة المثقفين ، والذي تتكثّر تجلّياته في عديد من الصياغات لسنا في معرض مناقشتها لضيق المجال ، ولكثرة ما كُتب فيها وحولها بالمنهجيات والمناظير التقليدية ، بينما المقال مشغول بالإجابة على السؤال بمنظور سوسيواقتصادي يفرض علينا تجاهل هذه الجدالات والتركيز على إعادة صياغته صياغةً سوسيواقتصادية ، وتفكيكه على ضوء هذه الصياغة وصولاً للإجابة النوعية المُستهدفة .
إن ما تعنيه خيانة المثقفين بمنظور سوسيواقتصادي هو أولاً : عدم استجابة ما يقدمونه من سلع ثقافية (العرض) لاحتياجات جمهور مُستهليكهم المُفترض (الطلب) ، ما يتجسّد في انفصال المثقفين عن جمهورهم الطبيعي ، وغلبة أشكال معينة من الإنتاج الثقافي على غيرها بحيث يغيب التوازن والتناسب في العرض النوعي للمُنتج الثقافي ، وثانياً : عدم تحقيق هذه السلع الثقافية حال تقديمها لمستوى الجودة الضروري لتحقيق الإشباع الكامل للمستهلك ، ما يتجسّد في انخفاض نوعية المنتج الثقافي ؛
وهكذا ينقسم السؤال العام السابق لسؤالين فرعيين ، هما :

* لماذا لا يستجيب العرض الثقافي للطلب الثقافي ؟
* لماذا تنخفض نوعية الإنتاج الثقافي ؟

ولعل البعض يستغرب مناقشة الثقافة والمُثقف بهذا المنطق المادي الذي يبدو متعارضاً مع منطقهما نفسه باعتبارها من احتياجات وفواعل الروح ، إلا أن النظر للثقافة بوصفها حاجة اجتماعية بحاجة للإشباع ، وللمثقف باعتباره استثماراً اجتماعياً يحقق عائداً أو خسارة ، يحتّم تناولهما كمسألة اقتصادية ، كما أن تناولهما بهذا المنظور ومن خلال هذا التحليل يمكننا من تجاوز التقييمات القيّمية والأخلاقية - التي لا تنتج سوى وعظاً أخلاقياً لا برامجاً عملية للتغيير - إلى التحليلات الاجتماعية التي يمكن على أساسها استيعاب الأبعاد الموضوعية للظاهرة المدروسة ، وربما بناء برامج إصلاحية .
ويتطلب هذا دراسة الهيكل الاجتماعي للسوق الثقافية التي يتم فيها ومن خلالها تداول السلع الاستهلاكية ، والتي تتكون من الطلب من خلال هيكل طلب السلع الثقافية ، والعرض من خلال هيكل عرض كلٍ من العمل/المثقفين ورأس المال ، ولا شك أن التناول سيكون مُبسطاً غير تفصيلي غير فني بما يناسب مساحة وطبيعة المقال .
ويجب وعي أن هذه الهياكل الثلاثة تكوّن سوقاً ذات طبيعة خاصة تختلف عما عداها من أسواق ، فهي أولاً تتسم بقدر من الغموض والالتباس فيما يتعلق بمعاني ومعايير الكفاءة والشفافية فيها ، كما تزداد وتتنوع بها أوجه فشل السوق المختلفة ، وتتعمّق فيها تجزؤات السوق لأنواع ودرجات ما بين السلع وعوامل الإنتاج ، وهى بالطبع سوق منافسة غير تامة لا تتحق بها شروط المنافسة العادلة بشكل كامل كما هو حال أغلب الأسواق الرأسمالية بتنوعاتها .



• هيكل طلب السلع الثقافية :

أولاً : من حيث الحجم تتسم السوق الثقافية المصرية بصغر حجمها وضعف معدلات نموها ؛ بسبب ارتفاع نسبة الأمية الهجائية لما يصل لحوالي ثلث السكان ، وانخفاض نسبة وحجم الإنفاق على الثقافة عموماً ؛ بسبب ضعف الدخول وسوء توزيعها ، وضيق وقت الفراغ المُتاح لأغلب الشعب بفئاته العاملة والمتعلمة وبالتالي ارتفاع تكلفته .
ثانياً : من حيث هيكل الإنفاق على الثقافة ، نجد أنه حسب تقرير الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام 2015م بلغ الإنفاق على الثقافة والترفيه معاً نسبة 2.1 % من الإنفاق الاستهلاكي للعائلات ، مع تفاوت طبيعي وبديهي ما بين 0.8 % من الدخل في شريحة الإنفاق الدنيا و 3.5 % من الدخل في شريحة الإنفاق العليا ، وهى نسبة محدودة بالطبع عندما تتجسد في طلب ، بالنظر لانخفاض مستوى الدخل نفسه ، ومن المتوقع أن تتدهور بدرجة أكبر مع كل تدهور في الدخل ونمط توزيعه باعتبار الثقافة والترفيه مما يدخل في باب الاستهلاك الكمالي .
ثالثاً : يعزّز هذا الطابع الضعيف للإنفاق على الثقافة مع ضيق وقت الفراغ من غلبة مُستهلك الصدفة على المُستهلك الدائم ، وهو المستهلك الذي يتوجّه بطبيعته للسلع الثقافية التي تحظى بدعم إعلامي وبرصيد من النجومية ، كما يخفض بضعف مستواه المستوى النوعي العام لجمهور الثقافة ويضعف مستوى الرقابة وآليات العقاب المتعلقة بمستوى جودة المنتج الثقافي .
رابعاً : يعني هذا الإنفاق الضعيف على الثقافة مع غلبة مُستهلك الصدفة ضعف الكتلة الأساسية المستقرة من الطلب على السلع الثقافية ؛ بما يضيّق السوق الثقافية ولا يسمح بالاستفادة من مزايا الإنتاج الكبير في الحقل الثقافي ، كما يتجلّى بوضوح في سوق الكتب على وجه الخصوص ؛ ما يضعف من إمكانات نمو رأس المال الخاص في المجال الثقافي ويزيد الحاجة لرأس المال العام والدعم العام سواء من الدولة أو الجهات المانحة .
خامساً : لا يوجد مشروع اجتماعي ولا برنامج تنمية إستراتيجي حقيقي تصطف خلفه جماهير الشعب ؛ بحيث يتطلب برامج ثقافية حقيقية تدعمه وتعمل في إطاره ؛ فلا يوجب طلب شعبي على ثقافة من هذا النوع ، ومن ثم لا يبقى سوى طلب الدولة الرخو على الثقافة الذي يستهدف إما تبريراً سلبياً للأوضاع القائمة أو مواجهةً سلبيةً أيضاً لأفكار معارضة أو إجتراراً حشوياً للأفكار التراثية والمستوردة يليق بمعاملة الثقافة كحلية !
وأهمية دراسة هذا الطلب الثقافي أنه هو أساس نشأة سوق ثقافي يمثل أساس استقلال المثقفين كفئة اجتماعية نوعية ؛ إذ يعود الأصل التاريخي للمثقف الحديث إلى اختراع الطباعة وظهور إمكانية النشر الشعبي المُستند لجمهور واسع من القراء ، بدلاً من احتكار الإقطاعي أو النبيل أو الملك أو الخليفة راعي المثقفين الذي ينفق عليهم ليكونوا حليةً اجتماعية وربما معلمين للأبناء .
وضعف هذه السوق وتخلّفها كمياً وكيفياً في مصر هو عامل موضوعي حاسم في ضعف استقلالية المثقفين المصريين ؛ بما يعزّز من إمكانات إنصياعهم لمطالب واتجاهات رأس المال ، كذا عامل جوهري في ضعف النوعية لغياب آليات العقاب السوقية على ما سبق بيانه .



• هيكل عرض المثقفين :

ويتعلق هذا بالمنشأ الاجتماعي للكتلة الأساسية من المثقفين ، والذي حدّده بعض الاجتماعيين بأنه الطبقة الوسطى بشرائحها الثلاثة ، حيث تنقسم لشريحة وسطى مُتمسكة بشكل حقيقي بقيم ومفاهيم الطبقة الوسطى ، وبطن رخوة من الشريحتين الدنيا والعليا من الطبقة الوسطى ، واللّتان تختلط لدى كل منهما القيم والمفاهيم بحكم قرب كل منهما من طبقة مختلفة نوعياً ، وهى الطبقة الدنيا في حالة الشريحة الدنيا ، والطبقة العليا في حالة الشريحة العليا ؛ وهو ما يجعل الشريحتين موضوعياً تميلان – بدرجة أكبر من الشريحة الوسطى - للتقلّب الفكري والخيانة الطبقية في الاتجاهين ، أو للسلوك بشكل إنتهازي بغية الصعود الطبقي .
وقد عمل تدهور توزيع الدخل منذ تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي على تدهور وضع هذه الطبقة بعامة ، وتضاؤل شريحتيها الوسطى والعليا لصالح تضخّم شريحتها الدنيا ؛ ما عمّق من الميل للسلوك الانتهازي خصوصاً في ظل الثقافة الاستهلاكية التي اجتاحت المجتمع منذ تطبيق تلك السياسات .
وقد ساهم تدهور النظام التعليمي الذي أنتج أغلب عناصر هذه الطبقة عبر نصف القرن المنصرم في تدهور متوسط مستواها النوعي ؛ ما خفض المستوى النوعي لعرض عنصر العمل الثقافي ، فرغم أن الثقافة هى نتاج ميول وجهود وكفاءات فردية بالأساس ، إلا أن المتوسط العام للقدرات الفكرية والعقلية في المجتمع للمثقفين وغيرهم إنما يتأثر بذلك النظام التعليمي ، خصوصاً في بعض الملكات الأساسية التي يصعب اكتسابها بنفس مستوى الكفاءة بعد تجاوز عمر معين ، كملكات اللغات والرياضيات بصفة خاصة .
وهكذا فإلى جانب الزيادة الكمية الطبيعية في عرض المثقفين التي خفضت ثمنهم بالتأكيد ، إنخفض المستوى النوعي لعرضهم ، فانخفض مستوى كفاءتهم بضعف مستوى تعليمهم ، كما زاد ميلهم للسلوك بانتهازية بحكم أوضاعهم الطبقية المتقلبة والمتدهورة ، وعزّز من هذا الميل ضعف كفاءتهم المعرفية نفسه ، وربما وعيهم ذاته بهذا الضعف !



• هيكل عرض رأس المال :

ويتكوّن أساساً من مصدرين رئيسيين هما الطبقة الرأسمالية والدولة ، وفي حالة مصر يغلب المُكون الذي تسيطر عليه الدولة بحكم التراث الاشتراكي ، كما ينضم لهما مصدر ثالث عملياً هو المؤسسات الثقافية الداخلية (الجامعة والمؤسسة الدينية) وهما تابعتان للدولة بشكل كامل في مصر ، والمؤسسات الثقافية الخارجية (خصوصاً الخليجية) التي يمكن اعتبارها رؤوس جسور لدولها ، أي رأسمال عام في نهاية الأمر لا طبقات رأسمالية ، وعموماً يجمع المصدرين سواء الدولة أو الطبقة الرأسمالية تشابك كبير في المصالح .
ولا جدال في أنه مع تعاظم التفاوت والانقسام في المجتمع مع تطبيق السياسات الرأسمالية منذ الانفتاح قد حدث انفصال كبير بين مصالح واتجاهات الفئات المسيطرة على رأس المال الثقافي بشقيه العام والخاص من ناحية ، وباقي طبقات الشعب من ناحية أخرى ؛ أي تعاظم للانفصال على مستوى السوق الثقافي ، بطابعه النوعي الذي تستبطن سلعه قيماً وأفكاراً بالأساس ، ما بين مصالح واتجاهات جانب العرض المُنتج للسلع الثقافية ، ومصالح واتجاهات جانب الطلب المُستهلك لها .
كما أن الطابع الريعي لنسبة كبيرة من رأس المال الخاص في القطاع الثقافي ، ومن باب أولى لرأس المال العام سواءً كان مصرياً أو خليجياً ، قد ساهم في عدم الالتزام بمعايير الكفاءة التخصيصية والإنتاجية في عملية الإنتاج الثقافي ، فلم يهتم بأفضل أوجه الاستثمار والإنتاج الثقافي ، كما لم يقم بتوظيف أفضل الكفاءات الثقافية بصفة عامة وفي مواقع التأثير بصفة خاصة ؛ ما عمّق من تدهور نوعية الإنتاج الثقافي .
ورغم أنه من المفترض في الإنتاج الثقافي بعض من التغاضي عن المعايير المالية البحتة في توجيه وإنتاج السلع الثقافية لصالح المعايير الاجتماعية ، لأجل تقديم القيمة الثقافية على القيمة الاقتصادية في السلعة الثقافية ، إلا أن تزايد نصيب رأس المال الخاص في الإنتاج الثقافي قد زاد من نسبة الإنتاج الاستهلاكي التجاري الغرائزي (الطبيعي – الاجتماعي) في المجال الثقافي وفقاً لمنطق منتجي السينما التجارية الشهير "الجمهور عايز كده" ؛ ما أخلّ بتنويعة الإنتاج الثقافي وعمّق من تدهور نوعيته .
هذا الاختلال في التنويع والتدهور في النوعية ساهم فيهما من جهة رأس المال العام البيروقراطية الثقافية المُهيمنة عليه وظيفياً ، التي عملت بحكم ارتعاشها من أي اختيارات قد تثير حفيظة السلطة التي ترعاها ، وبحكم خلفياتها المعرفية واهتماماتها التي يغلب عليها الأدب ، فضلاً عما يحكمها من شلليات وانتماءات ، على تغليب الإنتاج الأدبي والفني على ما عداه من أشكال الإنتاج الثقافي ، فمثلاً يستطيع المتابع الجيد لإصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب - أكبر ناشر عام في مصر – عبر العقدين الماضيين بالأخص أن يلاحظ غلبة إصدارات الأدب كماً وكيفاً – أي كعدد إصدارات وكمستوى تخصص - على ما عداها من إصدارات ، خصوصاً إصدارات العلوم الاجتماعية مثلاً .



• خاتمـة :

ولاشك أن العرض السابق هو عرض تجريدي جداً ، يتجاهل أغلب التنوعات والتجزؤات والاختلافات العميقة داخل الفئات المختلفة من رأسمال وعمل ومستهلكين - كما يتجاهل احتياجاتها هو الآخر على ما يبدو ! - بما لها من انعكاسات على السوق الثقافية تعمّق تجزؤها وتفتتها ، إلا أنه – وهذا هو صميم هدفه – يكشف عن الاتجاهات الموضوعية العامة للسوق الثقافية في مصر ، والتي تسببت أولاً بانزياح العرض عن الطلب ، فلم تعد النخبة تستجيب لاحتياجات الجمهور (كنتاج للعجز والانتهازية) ، وأدت ثانياً لتدهور نوعية محتواه الثقافي ، فلم يعد إنتاجها الثقافي يحقق الإشباع للجمهور نوعاً ونوعيةً (كنتاج للعجز وضعف الكفاءة) !


=====================================================

نُشر لأول مرة بمجلة "الثقافة الجديدة" المصرية ، العدد 316 ، يناير 2017م ، التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة