قيثارة أرمينيا- Ovanes Shiraz أوفانيس شيراز -

إبراهيم إستنبولي
2006 / 1 / 12 - 12:04     

من الأدب الأرمني


" يعتبر الشعر الغنائي الأرمني في القرون الوسطى واحداً
من أعظم انتصارات الروح الإنسانية ، التي عرفها التاريخ العالمي ...
و يجب أن يكون الإطلاع على الشعر الأرمني شرطاً ضرورياً
بالنسبة لكل إنسان مثقف ، كما هو واجب الإطلاع على التراجيديا
اليونانية القديمة ، على " كوميديا " دانتي و دراما شكسبير ... "
فاليري بريوسوف*

ربما إن أوفانيس شيراز ، أكثر من جميع معاصريه ، كشف عن ذاته بشكل كامل في قصائده و موشحاته . لقد انعكست حياته بأكملها – مع ذكرياته عن طفولته الحزينة ، مع الأحلام البهيجة لمرحلة الفتوة ، مع الفرح الغامر بالطبيعة الخضراء ، مع عالم لا ينتهي من الفرح و القلق ، الحب و الكراهية ، من معاناة الأم و هموم الأبناء ، الحماس الوطني ، البحث و القناعة الوجدانية – بصورة عضوية في أشعاره ، بحيث أن مصير الشاعر صار مساوياً لأغنيته . إن من حق شيراز أن يكرر العبارة المعروفة : " سيرتي الذاتية – هي أشعاري " .
***
صدر أول ديوان شعري لأوفانيس شيراز في عام 1935 تحت عنوان " قدوم الربيع " . و يدلّ اسم الكتاب على المضمون الحقيقي لقصائد الشاعر الشاب ، الذي جلب معه رؤية جديدة للعالم ، محبة كبيرة للإنسان ، للحياة ، للطبيعة . لقد أحبَّ القارئ لوحة الأصالة تلك عند شيراز ، صوره الجلية ، إخلاصه لأفضل تقاليد الأدب الأرمني الكلاسيكي .
و في عام 1940 ، عندما كان شيراز طالباً في كلية الآداب في جامعة يريفان الحكومية ، صدر كتابه " أغنية أرمينيا " حيث ضمّنه إلى جانب القصائد عدة ملاحم شعرية . في تلك الدواوين المبكرة ، التي كانت بمثابة توطئة لإبداع الشاعر ، وجدت انعكاساً لها مواضيع الطبيعة ، الوطن ، الأم و الحب ، و التي صارت فيما بعد " مقاسات دائمة " في أشعاره . ففي تلك الدواوين يظهر شيراز شاعراً رومانسياً في نظرته إلى العالم ، صاحب أسلوب رومانسي . يجذبه عند الإنسان عاطفته العاصفة ، خياله الجامح : من هنا تلك الاستعارة " الشيرازية " المضيئة ، اللحن الرنان للألوان و الصور الملحمية .
تتسم قصائد شيراز الرومانسية المبكرة بموضوع الطفولة البائسة و سيطرة الطبيعة المنفلتة . و مع أن موضوع " السيرة الذاتية " ذاك يتأسس على الجانب المعيشي ، فإنه بالرغم من ذلك غني بمحتوى فلسفي عميق .
أثناء الحرب الوطنية العظمية وجد شيراز مكانه في صفوف المنشدين في سبيل خلود و مجد الوطن . و في عام 1942 صدر ديوانه " صوت الشاعر " ، الذي لاقت قصائده المشبعة بالوطنية استحسانا و قبولا مريحاً من قبل القارئ . و في نفـس العـام 1942 أصدر شيراز " كتاب الأغاني " ، ثم أصدر في عام 1946 ديوان " أشعار غنائية " .
لقد تم جمع أفضل النماذج من إبداع شيراز في كتاب مختارات للشاعر من ثلاثة أجزاء بعنوان " قيثارة أرمينيا " ( صدر الجزء الأول في عام 1958 ، الثاني – في عام 1965 ، الثالث – في عام 1957 ) .
و هو يتغنى بفتوة الوطن و بالنهضة الروحية للإنسان السوفييتي ، يتوجّه شيراز إلى الطبقة الشعرية المركبة ، حيث تتحول مفاهيم الشتاء و الربيع ، الجبال و الحقول ، الدروب البعيدة و الذرى الشاهقة إلى صور فنية ذات صبغة رومانسية . لقد تمت إضاءة الصور و المواضع الكلاسيكية في الشعر الأرمني في إبداع شيراز بشعاع الحداثة مما جعلها تعكس أفكاراً جديدة تماماً .
الثلج يبكي – يشرف الشتاء على النهاية ،
و عبر المروج و الأدغال المبتلة
يتقدم الربيع منتصراً نحو الأمام .
إني أحسد الثلوج القتيلة –
إذ تلد الربيع كل عام .
لقد اكتست و اغتنت الرموز المحببة – صور شيراز الباكر - الربيع و الشمس – بألوان جديدة و جديدة مع السنين . فهو يرى في الربيع مصدراً للتفاؤل و الحياة السعيدة ، لفتوة العالم و الحرية . و إن إنعاش الطبيعة من قبل الربيع بالنسبة لـه هو بمثابة انبعاث لجمال و لروعة الدنيا . و هو ينقل قيمه و مبادئه المفعمة بالإنسانية من خلال صورة الربيع .
أما قصيدته " قدوم الربيع " فإنها احتفال حقيقي بالحبور و بالحياة السعيدة . إذ أن الشاعر يعيش تجدد الحياة بفرح عظيم و ابتهاج ، و يتقاسم سعادته مع الناس .
كما تمتاز الأشعار الغنائية عند شيراز بخصائص أدبية – فكرية عالية و سامية . إن "عبادة " الطبيعة في إبداع الشاعر لا يكون في تقديسها ( انطلاقاً من المعتقد القائل بألوهية الطبيعة – Pantheistic - المترجم ) . بل إن جمال و غنى العالم يقومان في اتحاد متناغم مع جمال و غنى النفس البشرية .
إن المضمون الإنساني في إبداع شيراز و مهارته في الولوج إلى جوهر الظواهر أكثر ما تظاهرا في كتاباته خلال سنوات الحرب بشكل خاص . حيث تحافظ أشعاره ، كما في السابق ، على اغتنائها بالرموز – الصور ، التي صارت تكتسب ثقلاً عاطفياً و عمقاً فلسفياً : النسور و قمم الجبال ، الأجراف الصخرية و الغيوم ، البرق و الرعد ، الشمس و الأفق ، - كل هذه الرموز – الصور تم استخدامها من قبل الشاعر من أجل تمجيد روح المواطنين السوفييت ، الذين انتصروا على الموت و على القوة الشريرة . لقد كانت قصائد شيراز في مرحلة الحرب مليئة بالثقة التي لا تتزعزع بانتصار الشعب السوفييتي . لقد حملت في طياتها نداء حاراً للنهوض من أجل الدفاع عن الوطن ، من أجل إنقاذ المقدسات التي يهددها العدو . عنده تكتسب القصائد قوة و نبرة النداء و الرجاء ، تغتني بالإيقاعات الشجاعة و الصارمة ، و تمتلئ بالمغزى الجديد صور الأشعار الغنائية المبكرة . و تستمر مواهب شيراز أثناء الحرب بالنمو و التطور ضمن وحي من تقاليد الإبداع الشعبي و الشعر الأرمني الكلاسيكي . لكنها تكتسب ميزة جديدة – بدلاً من التصورات الفلكلورية الساذجة يحلّ إحساس معاصر ، تكتمل شاعرية " الأسلوب " .
إذ تكتسي محتوى تاريخياً جديداً صورة الوطن في قصائد الشاعر الأرمني ، الذي يستخدم مختلف الأساليب الأدبية من أجل رسمها. من هذه الأساليب – توضيح هذا المفهوم من خلال الخصائص المميزة للطبيعة الأم . ففي قصيدة " ارتجال " ، مثلاً ، و من خلال وصفه الجبال في أرمينيا ، هو يخلق صورة الوطن العظيم الذي لا يقهر .
تمتاز قصائد شيراز الغنائية بحضور موضوع النهضة الاشتراكية و كمثال نورد مقطعاً من قصيدته " أرمينيا – الأم " :
الآن أراكَ ، يا وطني الفتي .
لقد عبرت دروباً قاسية منذ قرون بعيدة ،
الشقيق أزرق العينين أعاد إليك نور الحياة .
لقد تحررتَ من الحزن القديم و من القيود الثقيلة .
كما تتميز بالأصالة الشعبية الحقيقية أشعار شيراز المكرسة للأم . و قد قام بتطوير التقاليد المعروفة في الشعر الأرمني ( " الحلم " لشاه عزيز ، " قلب الأم " لإيساكيان ، " الغزلان " لتيريان و تشارينس ) ، فإن شيراز بقي محافظاً على فرادته ، لأنه لم يركز في تصويره للأم على الجانب التراجيدي ، كما فعل ذلك من سبقه ، بل لجأ إلى تمجيد محبة الأم باعتبارها القوة ، التي تمنح الإنسان النور و السعادة .
الإنسان و الطبيعة ، أسرار الكون ، التاريخ و العصر الحديث ، الحياة و الموت - هذه المواضيع الفلسفية و غيرها الكثير من الأمور قد شغلت اهتمام شيراز ، انعكست في إبداعه ، بشكل واضح ، مباشرة حيناً ، و تارة أخرى في صيغة المتكلم الغائب ، عن طريق الاستعارة.
كما شغلت الروايات الشعرية مكانة خاصة في إبداع شيراز – " رزدان " ، " أسماء قرانا " ، " سيامانتو و الحاجة فجر خاجيزاري " ، " من الكتاب المقدس " ، و غيرها . و قد كانت هذه الروايات الشعرية مفعمة بالموضوعات الغنائية .
تعتبر الرواية الشعرية " من الكتاب المقدس " الأفضل بين روايات شيراز ، إنها عمل إبداعي عظيم في تاريخ الرواية الشعرية الأرمنية الطويل ، و تتميز بمضمونها الفلسفي . و هذه الرواية التي كتبت في عام 1944 ، مكرسة لعظمة الإنسان ، لطاقاته الخلاقة العظيمة . و هي لم تكن مجرد استجابة نوعية على موضوع الحرب ، إدراك فلسفي لها ، بل و عملاً أسس و طرح الحلول لمشاكل الحياة المعاصرة و ذلك بالاعتماد على المواضيع التوراتية . و قد كانت هذه الرواية الشعرية موضوع جدل حامي الوطيس و ظهرت آراء متناقضة منها ، بل إن بعض النقاد اعتبرها بمثابة " أساطير قديمة " ، " اكتشاف ميتافيزيقي " و " نوعاً من التبشير بمطلقات العهد القديم " .
و عند تناوله لموضوع " الأرض و السماء " الشائع في الأدب العالمي ، فإن شيراز لم يكتف بإعادة إنتاجه للخرافة التوراتية حول خلق الكون ، بل إنه حاول أن يحافظ على وفائه لروح و لطبيعة الموضوع بأن نقل التصورات البدائية عن الإنسان و عن الرب . لكن ، و هو يتحدث عن " الخالق العظيم فائق الحكمة و غير المرئي ، الذي كان أساساً لكل شيء " ، فإن الشاعر لا يبشر بالروح المثالية المطلقة ، كما أكد بعض النقاد ؛ و إنما العكس – إنه ينفي و يرفض الفكرة القائلة بخلق الله للكون ، مؤكداً على عَظَمَة الإنسان . و عبر بحثه الدؤوب عن " المبدع ، خالقه " ، فإن الإنسان يتوصل إلى إدراك حقيقة واحدة :

لم يجد الخالقَ رغم أنه عَبَر
طريق فكرته الدؤوبة بأكمله .
عمّن كان يبحث الجثمان المنبعث ،
بعد أن وصل إلى نقطة البدء ؟
أمجرد الخوف الأبدي و حسب ،
لغز الإله و الخالق لله ؟
و في يوم رائع من الأيام أدرك
أن الله استقر فيه للأبد ...
إن أسطورة خلق الكون – مجرد صيغة مجازية يلجأ من خلالها شيراز لحل إشكالية عظمة الإنسان ، الذي أخضع الطبيعة لسيطرته و اخترق أسرار المجرة . أما الموضوع الرئيسي للملحمة – هو الصراع الجبار بين الإنسان و بين الله .
و لكن يطرح نفسه سؤال – كيف كانت هذه الملحمة استجابة لموضوع الحرب ؟ لا يجري الحديث ، بالطبع ، عن انعكاس دقيق كما لو في مرآة . إن علاقة الملحمة مع الواقع المعاصر أكثر تعقيداً و أعمق بكثير . و كمقدمة للملحمة استخدم الشاعر القول المأثور : " أعطى اللهُ الألمَ للجبل ، مات الجبل ؛ أعطى الله الألم للإنسان – تمكن الإنسان من القضاء على الألم " . تعكس هذه الكلمات ، من ناحية ، عظمة الإنسان بشكل عام ، و من ناحية ثانية – الفكرة حول تغلب و انتصار قوى التقدم لدى الإنسانية على قوى الشر و القهر .
" الإنسان - هو أعظم عجائب الكون " ؛ فقد قطع الدرب من كائن خجول يعيش في خوف من الله ، إلى قاهر للكون ، إلى مناضل شجاع ينادي بأفكار و بقيم العدالة و الإنسانية – إنها فلسفة الكفاح عند الإنسان التواق للحرية ضد قوى الظلام و الشر .
لم يكن شيراز واعظاً أخلاقياً بالمعنى التقليدي للكلمة . هو لا يبشر ، و إنما يعيش و يعاني و بذلك يولّف القارئ على المشاركة في المعاناة ، يجبره على التعمق في نظرته إلى الأشياء البسيطة ، أن يلتقط مغزى سامياً في كل ما يعاش بشكل يومي .
الربيع ، الشمس ، السلام ، الأزهار ... كما لو أنه توجد في أشعار شيراز سذاجة مبرمجة . فهو يرفض " التصنع أو الابتكار الأدبي " و " الحِرَفية " ، مستبدلاً إياهما " بالفن غير المزخرف " ، و بما يسميه الناقد تومانيال " الروح الإلهية " .
تنشأ الخوالج في قصائد شيراز بشكل سلس ، غير قسري ، من القلب ، و ليس من " المهارة " المهنية ؛ و بحيث لا تشحب المشاعر تحت ضغط الصياغة الشعرية – ففي شعره توجد صيغة " داخلية " ، " غير ملموسة " . و الفصل أو التمييز بين المواضيع الشعرية عند شيراز أمر مجازي : فهو ينتمي بالضبط إلى ذلك الصنف من الشعراء ، الذين يصعب تصنيف و تقسيم عالمهم الشعري المتكامل على أساس الموضوع . إن شيراز شاعر متكامل . قد يبدو للوهلة الأولي مُكرراً و رتيباً : عودة دائمة ، فكرة رئيسية ، مواضيع عابرة ... كما لو أنه يُخضع كل شيء لقوانين الطبيعة الداخلية ، يكرر شيراز و يكرر الدوافع ، مستخلصاً و كاشفاً في كل مرة عن ألوان و تواشيح جديدة ، مجدداً التحولات في المعنى ، متحسساً كما لو من جديد البعد الداخلي و غنى العالم . باعتباره شاعراً دائم الحركة ، و هو يجدد الحياة ، فإن شيراز يميل نحو الألوان الصاخبة و الملتهبة : الجدول يصبح عنده – شلالاً ، المطر – ليس بنفس الرتابة ، و إنما مع عواصف و مع برق . و أهم ما في شعره – الإحساس بالإقـلاع ، بالطـيران ، بالتوازن في الهواء :
بسلاسة يطيران ، يطيران و يطيران
حصانيّ الاثنان ، الأبيض و الأسود ...
لا يسعى شيراز لأن يفكر من خلال صور و تخيلات عادية عن الأشياء و عن الظواهر ، و إنما كما لو من خلال كتل من المفاهيم . إنه يرسخ الغنى غير المحدود و عَظَمة الروح الإنسانية .
و يحاول شيراز في أفضل قصائده أن يبلغ العالم الروحي المعقد للإنسان المعاصر . لقد قام باختيار صحيح: بدلاً من التجديد الجمالي العابر ، و بدلاً من العدمية الشعرية غير الصحيحة ، لقد فضّل الروح الشعبية الحية و الكلمة الحية . لم تغريه لا مصيدة الموضة ، و لا ترنيمة الشكلانية الحديثة . و قد ساعده في إخلاصه و التزامه بِمُثُلِه و بقيمه - حبُّه للإنسان ، للحياة ، للوطن .

صوت الشاعر
شاعر – أنا . من مواليد الخلود .
أرضعتني الأرض و السماوات .
منذ الطفولة أعرف ... لغة النجوم ،
و أعرف أصوات الطيور ...
على كتفي يحط الحمام ،
و لكنني مغرم بالحب الرفيع ،
أنا - الحالم دوماً بحرارة
أن ألاطفَ العالمَ الأخضر كالابن ،
أنا- مستعد أن أبكي بمرارة
من أجل دمعة واحدة لشخص ما ،
أنا – لم أدوس نملة ،
أنا أقاتل حتى الموت
وحيداً
لأجل الحياة ، العمل و السعادة .
.....
*****

إلى ابني

وسط الورود في الحديقة لا تذكرني ،
إذا انغرزت شوكة في يدك – نادني ، سآتي .
في اليوم الصحو المشمس لا تذكرني ،
إذا تلبدت السماء بالغيوم – نادني ، سآتي .
أينما كنتُ ، و كيفما قادني الدرب ،
حين تشعر بالمصيبة – نادني ، سآتي .


* فليري بريوسوف - أحد رواد الحداثة في الحركة الشعرية الروسية في بدايات القرن العشرين .. تتميز أشعاره بالإشكالية التاريخية - الفلسفية .