الهوية بديلا للتحرر


فريدة النقاش
2017 / 1 / 19 - 23:52     

قضية للمناقشة: الهوية بديلا للتحرر

انتشرت فى الآونة الأخيرة أسئلة الهوية على أكثر من صعيد عالمي أو إقليمي أو محلي، واستخلص الباحث فى العلاقات الدولية د. طارق دحروج « فى دراسة مطولة بالأهرام أن أزمة البحث عن هوية هي العنصر الأساسي الذي ساق آلاف الشباب الأوروبيين من أبناء المهاجرين غالبا للانضمام إلى الجماعات « الإسلامية « الإرهابية وأبرزها الآن « داعش « التي يتسابق شباب أوروبيون للإلتحاق بها.
وسوف أذكركم فى هذا السياق بتصريح عابر أطلقه الرئيس الأمريكي الجديد « دونالد ترامب « فى معرض انتقاداته للرئيس المنتهية ولايته « باراك أوباما « إذ أكد « ترامب « أن أوباما ضالع فى تأسيس منظمة «داعش».
ويكشف هذا التصريح عن واحدة من أخطر نتائج السياسات الأمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تأمين سيطرتها على العالم، لا فحسب عبر القوة العسكرية، وإنما أيضا عبر الثقافة، وهي تضع دعوة رجل الأمن القومي صامويل هنتجتون لإطلاق صراع الحضارات موضع التطبيق.
وتشهد المواقف والممارسات الأمريكية بقيادة «هيلاري كلينتون» وزيرة خارجية «أوباما» فى السنوات الأربع الأولى من ولايته على الدعم غير المحدود الذي قدمته الإدارة الأمريكية لجماعة الإخوان المسلمين رغم رفض الشعب المصري الكاسح لحكم هذه الجماعة، والتي يعرف الباحثون والسياسيون أنها التنظيم الأم لكل أو على الأقل لغالبية الجماعات الإرهابية التي تستظل بالدين الإسلامي عبر العالم، كما يعرفون أيضا الدور الذي لعبه الاحتلال البريطاني لمصر فى دعم تأسيس هذه الجماعة فى الثلث الأول من القرن العشرين، وكيف واصلت الإدارات الاستعمارية الأوروبية المتعاقبة دعمها لها.
وظل الهدف الأول لهذه السياسات ثقافيا وتمركز حول إطلاق الهويات الطائفية والدينية والعرقية لتفتيت حركات التحرر الوطني التي إندلعت فى بلدان المستعمرات ضد الاحتلال والاستعمار الثقافى والعسكري، وضد النهب المنظم لثروات هذه الشعوب.
واستفادت هذه الاستراتيجية الأمبريالية من محدودية أفق حركات التحرر الوطني التي تصورت فى البداية أن الخلاص من الاحتلال العسكري المباشر هو جوهر الاستقلال وغاية النضال، وتوالت الانقسامات داخل هذه الحركات فى ظل الدول الوطنية التي نشأت بعد الاستقلال حين إحتدم الصراع الطبقي فى هذه البلدان، وإذ بحثت حكوماتها الوطنية عن أطر مناسبة لتصريف هذا الصراع فى منافذ غير سياسية، وكان أن لجأت بعضها إلى الدين، وبذلك التقت موضوعيا مع الهدف الاستراتيجي للسياسة الامبريالية وهي تغلق الأبواب أمام نضج الوعي الاشتراكي وتلاحق الاشتراكيين، وتوجه التهم بالإلحاد أو العمالة « لموسكو « لتحاصر إمكانية نشوء أحزاب عمالية وهي تستهدف منع القوى والطبقات الشعبية من تنظيم صفوفها للدفاع عن مصالحها.
نشأ فى هذا السياق فراغ فكري وثقافى كبير لتتخلق البيئة المناسبة تماما للحلول الوجودية مثل البحث عن هوية، وما أسهل أن تتقدم الجماعات الدينية التي أسست مخابرات الدول الأمبريالية الكثير منها لتملأ الفراغ، وترد على الأسئلة القلقة لشباب حائر وعاطل غالبا ولديه طاقات هائلة دون أمل فى المستقبل.
وساعدت الأحزاب والقوى التقدمية بدورها على نشوء هذا الفراغ حين لم تلتفت غالبا وخاصة بعد سقوط المعسكر الاشتراكي لضرورة تطوير وتجديد مفهوم التحرر، وبدلا من البحث عن أطر أممية جديدة بعد انهيار دول المنظومة الإشتراكية أخذت تدافع عن نفسها مستبعدة الصراع الطبقي كأداة تحليل، فإندرجت بوعي أو بدونه فى المشهد السائد، وأصبح من السهل على السلطات تهميشها وتشويهها.
ونجحت الرأسمالية العالمية بشركاتها متعددة الجنسيات وأدوات إعلامها الجبارة برسالتها الثقافية الواضحة لإحلال الهوية محل التحرر، نجحت فى جر دول وطنية إلى معسكر التبعية والإلحاق باستخدام المؤسسات المالية التي أنشأتها من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وهيئة المعونة الأمريكية مع ذراعها العسكري الرادع أي حلف الأطلنطي، ولكل هذه المؤسسات عمقها الثقافى ورسالتها التي تجتاح العالم كله شماله وجنوبه، وشرقه وغربه، عسكريا وثقافيا.
ونخطئ كثيرا مع ذلك إذا تصورنا أن هذا الوضع المأساوي سوف يستمر إلى الأبد، لأن قوى التغيير ضعيفة أمام جبروت الهيمنة والعولمة الرأسمالية، فقد علمنا التاريخ أن لا شئ ثابتا غير قانون التغير ذاته، والقوى التقدمية والإشتراكية مدعوة على كل الصعد العالمية والإقليمية والمحلية إلى نقد ذاتي نزيه بعد أن إندمل أو كاد جرح إنهيار المنظومة الاشتراكية، وهو الانهيار الذي علمنا دروسا كثيرة تدعونا جميعها لا فحسب لتجديد مفهوم وآليات التحرر، وإنما أيضا لإدراج مسألة الهوية بمنظور جديد أممي وإنساني فى صلب عملية التحرر الطويلة والصعبة.