مفهوم النقد في الماركسية


حاتم بشر
2017 / 1 / 15 - 18:08     

مِنْ بين المدارس الفلسفية الكلاسيكية التي اِسْتَقَت أو أفادت منها الفلسفة الهيغلية، مدرسة ايلية. فقد عثر هيغل في طيّات المباديء التي قالت بها على ‹‹بداية الدياليكتيك›› على حدِّ عبارته في "دروس تاريخ الفلسفة". ومن أكثر الفِكَر الإيلية التي استوقفت هيغل فكرة زينون الإيلي عن ماهية البُطْلان، وطرائق دَحْضِه. وتتلخص فكرة زينون في أن "الباطل يجب أن يُبَرْهَن على أنه باطل، ليس لأن ضِدّه حقٌّ، بل في نفسه "، أي من داخله هو-أي الباطل. ولقد شقّت هذه الفكرة دَرْبها -عبر هيغل- صوب الماركسية، بإعتبارها حجر الزاوية في مفهوم المذهب الماركسي عن"النقد" عموماً.
هذا، وقد وجدت هذه الفكرة تعبيرها العملي الملموس أو انعكاسها التطبيقي المباشر ضِمْن السجالات العديدة التي خاض غمارها كُلاًّ من ماركس وانغلز. وهذا أمرٌ طبيعيٌّ بالقياس الى مذهبٍ نضالي أبعد ما يكون عن الإنعزالية تكوَّن أساساً ونما في معمعان الجدال التاريخي الحيِّ.
أما في المرحلة اللينينية من الماركسية، ابتداءاً من عام 1890 على وجهِ التّقريب، ركّز لينين على تطوير وتدقيق مفهوم النقد نفسه من الناحية الفلسفية. ومردُّ ذلك إلى تطوُّر نضال الماركسية.
فبعد أن قضت الماركسية على الأيديولوجيات والنظريات والمذاهب (المعادية لها صراحةً وبصورة جذريّة)*، سعت الميول التي كانت تعبر عنها هذه النظريات والمذاهب إلى طرق "جديدة"؛ فقد تغيرت صور النضال ودوافعه، بيد أن النضال نفسه استمر: فتركز نضال الماركسية ضد التيار المعادي للماركسية في "قلب" الماركسية. يقول لينين : ”ان دياليكتيك التاريخ يرتدي شكلاً يجبر معه انتصار الماركسيِّة في ميدان النظرية اعداء الماركسية على (التّقنُّع بقناع) الماركسية“.
على هذا النحو، كان انتقال الماركسية من منازلة العدوُّ "السافر" إلى منازلة العدوُّ "المُستتر"، الشرط التاريخي الذي أملى على الماركسية -مُمثّلةً في لينين- ضرورة تطوير وتدقيق مفهوم النقد من الوجهة النظرية، من أجل التفرقة بين (ما هو ”نقدٌ“ حقيقي) وبين (ما هو ”تحريف“).
في ختام مقدمة الطبعة الألمانية الأولى لكتاب رأس المال، يعلن كارل ماركس أنه يرحب بـ(ـكل رأيٍ يوحي به نقدٌ علمي حَقّاً)، وفي المقابل يؤكد أنه لم يلتفت يوماً إلى (الأفكار المسبقة لما يسمونه الرأي العام). وإننا لنجد عند لينين عين التفرقة بصورة أكثر تدقيقاً وتفصيلاً.
إن كتاب لينين المسمى "المادية والمذهب التجريبي النقدي "، هو، من بين جملة أمور، نقدٌ للمفهوم الزائفٍ عن النقد!
ففي غضون ستة أشهر تقريبا من عام 1905 صدرت أربعة كتب مكرسة بأكملها لدحض المادية الجدلية**. ولقد هبَّ لينين ضِد هؤلاء ليس لأنهم تجاسروا على النقد، بل بالضبط لأنهم جبنوا عن القيام بهذا النقد. أي لأنهم وصفوا الماديّة الجدلية وصفاً مُرسلاً بالبطلان دون أن يبرهنوا هذا البطلان "من داخله". ففي مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب يقول لينين مثلاً: "يقول بازاروف عـــرَضَـــاً، وكـــأنّ تلك حــقــيــقــة بــدهــيــة: لقد عتقت آراء انغلز". هنا تعترض الماركسية، مُمَثّلةً في لينين، ليس على النقد، وانما على التهرّب من النقد. على استبدال البرهان بالتقريرية المرسلة. وفي كلمة واحدة على "التحريف" والتشويه. ثم يؤكّد لينين على هذا المعنى عندما يُسمِّي هؤلاء المتهجمين، متهكماً، ((المحاربين الشجعان! )) و((مدمِّري المادية الجدلية! ))، ساخراً من أؤلئك الذين ظنّوا أنهم أحرزوا نصراً دون نزال! الذين قالوا ببطلان المادية الجدلية دون أن يبرهنوا هذا البطلان من داخله. وهو يرى في ذلك "مجرّد أحابيل لا حدّ لها ومحاولات للتهرب من جـــوهـــر المشكلة".. أي التهرب من"القيام بأي تحليل مباشر لموضوعات ماركس وانغلز ". هُنا، بالتحديد على وجه الدِّقة يقع الحد الفاصل بين ما هو نقد وما هو تحريف وليِّ : يقول "لأن التحريفيين وحدهم اكتسبوا مثل هذه السُّمعة السيئة بانحرافهم عن الاراء الاساسية للماركسية، (مع) خوفهم أو عجزهم عن تصفية الحساب بصورة صريحة ودقيقة وحازمة وواضحة مع الاراء التي تخلوا عنها". ولكي يُتمّ التمييز، يقارن لينين بين هذه الجبانة والغاء العقل، بمهرنغ كمثالٍ على النقد الحقيقي المستقيم الشجاع الذي "ترحب به" الماركسية. فحينما أقدم مهرينغ على معارضة بعض آراء ماركس العتيقة المتعلقة ببعض التأكيدات التاريخية، فإنه قد فعل هذا "بقدر كبير من الدقة والشمول، بحيث لم يستطع أحد قط أن يجد أقل التباس في مثل هذه الأعمال".
هـــــوامـــــش:
ـــــــــــــــــــــ
*النظريات البرجوازية بشقيها الرسمي والليبرالي.. المذاهب المتعلقة بنضال الطبقة العاملة والمنتشرة بخاصة في صفوف البروليتاريا(الهيغليين الشباب-البرودونية-الباكونية-ميولبرغر-دوهرينغ).
**1-"دراسات في الفلسفة الماركسية" لبازاروف وبوغدانوف ولوناتشارسكي وآخرون. 2-"المادية والواقعية النقدية" ليوشكيفتش. 3-"الجدلية في ضوء النظرية المعاصرة للمعرفة" لبرمان. 4-و "التركيبات الفسفية للماركسية".