الانحدار الذي لا قاع له


عديد نصار
2016 / 12 / 22 - 00:52     

يتناسب مستوى التخاطب الاعلامي بين القوى والاطراف السياسية مع مواقفها وتوجهاتها السياسية. اذ انه من الطبيعي لمن يتبنى مواقف غير أخلاقية في السياسة أن يستخدم لغة منحطة للتخاطب. ومن يدافع عن، ويتبنى مواقف وسلوكيات قوى الاستبداد الأكثر دموية ويسعى لتبريرها بحجج متداعية سيكون من الطبيعي له أن يلجأ الى الاسفاف والذهاب بعيدا في شخصنة المواقف وصولا الى لغة الشتائم والتشهير.
وعندما يشعر البعض بفائض في القوة ينحدر في لغة التخاطب الى مستوى التحقير والتهديد ويبتدع المزيد والجديد من المصطلحات التي تخدم هذا الانحدار.
التراشق الإعلامي المسف والمبتذل والذي انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي وصولا الى وسائل الاعلام ومنها القنوات الفضائية، الذي يتردد في لبنان في الآونة الأخيرة، أعادني بالذاكرة الى مرحلة التفتح الثقافي والسياسي الأولى التي بدأتها في سن مبكرة جدا، أيام الدراسة الإعدادية.
كنا مجموعة صغيرة من الفتيان انتهجت التثقيف الذاتي من خلال القراءات الكثيفة والنقاشات المتواصلة. وكان رائدنا أبدا، أنه إن كنت تريد أن تؤدي رسالتك في هذا العالم ينبغي أن تكون على قدر هذه الرسالة، علما ووعيا وثقافة وأدبا. بالمختصر، يجب أن "تتعب على نفسك" لكي تكون نموذجا يحتذى في الصدق والتفاني والمعرفة. وبالتالي فقد عملنا كمجموعة على تكوين ذواتنا على هذه المبادئ التي ساهمت بدورها في صقل شخصية زملاء آخرين كانوا يحاولون منافستنا في السياسة وفي الثقافة في محيطنا الطلابي والمجتمعي.
لقد فعلت الثورة السورية فعلها في لبنان، لبنان الذي عانى شعبه طويلا من احتلال النظام المخابراتي لآل الأسد وعصاباتهم الاجرامية المنحطة إذلالا وتنكيلا وقمعا واختطافا على الحواجز وفسادا وتهريبا واستغلالا وابتزازا، لبنان الذي لجأ أبناؤه وبناته من الحرب العدوانية الصهيونية المدمرة عام 2006 الى سوريا ففتح له شعبها القلوب قبل البيوت، لبنان الذي بدأ حراكه الشعبي قبيل انتفاضة درعا وتوقف بعد اتضاح موقف حزب الله من الثورة السورية، لبنان الذي شهد أكبر موجة نزوح للسوريين الفقراء ظنا منهم أن لهم على اللبنانيين دَينا وأن اللبنانيين للدَّين حافظون، لبنان الذي تحكمه قوى الحرب الأهلية والمافيات المالية وهي نفس القوى التي حكمته بالوصاية الأسدية، لبنان المنقسم أفقيا الى مسحوقين لا يختلفون في شيء عن النازحين وإلى عصابات مافيوية تمارس كل أشكال التبعية والفساد، لبنان المنقسم عاموديا بحسب تبعيات القوى المافيوية لمراكز الهيمنة الإقليمية والدولية التي ترعى موبقاتها وفسادها كما ترعى هي فساد وسفاهة أتباعها.
في لبنان، عرت الثورة السورية الكثيرين من خطاب المداهنة والتصنع فأظهر هذا البعض أسوأ ما لديه وسادت وسائلَ التواصل الاجتماعي لغةٌ انحدرت بإسفافها ثم وصلت الى مختلف وسائل الاعلام بما فيها القنوات الفضائية خصوصا عندما سقطت جميع الذرائع امام دموية النظام الأسدي في رده على ثورة الشعب السوري وخصوصا أمام سادية ومذهبية المليشيات الطائفية التي دعمته بما فيها حزب الله اللبناني.
فعندما ينحدر الموقف السياسي أخلاقيا الى مستوى يجعل من التعامي عن، أو محاولات تبرير تدمير بلد وسحق شعب وقتل مستقبل مجتمع، وعندما تصل المواقف بأصحابها الى مستوى الشماتة بتجويع الآلاف حتى الموت وبتقطيع أوصال الأسر بين شريد ومفقود وفقيد، فإن لغة القوم سوف تنحدر بالتوازي مع مواقفهم لتبلغ ذات المستوى من الانحطاط والاسفاف، بل ربما تقوده.
لم يعد لدى هؤلاء سوى منطق البذاءة والتشهير والتهديد لحماية مواقفهم الموغلة في عدم اخلاقيتها وفي انحدارها بعيدا عن الشعارات البراقة التي باتت خُلوا من المضامين الإنسانية، لم يعد امامهم الا الشتائم والتهديد ونشر الاكاذيب.
وإذا كان التشبيح والشتائم واللغة البذيئة والإسفاف هي من صميم المدرسة الفكرية الأسدية التي تتلمذ عليها مجموعة من "المتزعمين" اللبنانيين من صبيان المخابرات السورية برتبة نائب أو نائب سابق أو وزير سابق أو صحفجي.. وجميعهم يبذلون الجهود في تنفيذ رغبات اسيادهم وتطبيق ما تعلموه على أيدي ضباط المخابرات الأسدية مما كانوا به يصفعونهم من مفردات، كدليل دامغ على إخلاصهم وتفانيهم، فقد ظهر للمستهدفين من هذا الخطاب ان هؤلاء لا يفهمون الا هذه اللغة المنحطة، لذلك لجأوا في ردودهم عليهم الى استخدامها. فباتت هذه اللغة لغة التخاطب التي سادت الميديا.
هذا الانحدار الذي يبدو أنْ لا قاع له، يعبر عن غياب او ضعف الحجة وبالتالي عن تدني المستوى الثقافي والعلمي لدى المتخاطبين. وهنا ينبغي التنبّه إلى أنّ لغة التخاطب تعكس حكما القيمة الأخلاقية للموقف السياسي لأصحابها. فمن يملك الحجة والمعرفة والمواقف الأخلاقية والإنسانية النبيلة عليه أن يتحاشى أن ينساق الى خطاب البذاءة مهما كانت طبيعة الهجوم الذي يتعرض له ومهما كان موقع من يقوم به.