«العظم» وذهنية التحريم


فريدة النقاش
2016 / 12 / 21 - 23:56     

قضية للمناقشة: «العظم» وذهنية التحريم

رحل قبل أيام عن عالمنا واحد من أكبر مفكرينا النقديين هو « صادق جلال العظم «. وكان قبل رحيله قد تنقل بين جامعات أوروبا وأمريكا بعد أن حاصرته ولاحقته قوى الظلام والإرهاب والاستبداد، وأغلقت فى وجهه أبواب الوطن، وهو ما سبق أن حدث مع « نصر حامد أبو زيد « الباحث فى علوم القرآن حين تسلط الشيوخ على البحث العلمي والأكاديمي، وحولوا بعد الجامعات ومراكز البحث إلى كتاتيب للحفظ والتسميع، وهي ظاهرة تتكرر فى غالبية بلداننا وجامعاتنا.
ورغم كل هذا الحصار والعقبات نجح هؤلاء المفكرون النقديون وهم بالعشرات من كل أرجاء العالم العربي والإسلامي فى إنتاج معارف فكرية وثقافية أخذت تفتح الأبواب أمام العقل، وتجمع بين الفكر والممارسة، إذ أسهموا فى تكوين العشرات من الباحثات والباحثين الشبان الذين رأوا فى الحياة الاجتماعية بشتى أبعادها كلا واحدا، ومارسوا إنطلاقا من هذه النظرة إلى العالم التي تصحح ذاتها بذاتها عبر النقد، مارسوا نقدهم الجذري للنظم القائمة بأسرها، وذلك بعد أن تجاوزوا مهارات هؤلاء الأساتذة العظام بتعاملهم المبدع مع وسائل الاتصال الحديثة، فأطلقوا شرارات العمل الثوري وخرجوا إلى الميادين والشوارع ليسقطوا رموز الفساد والاستبداد فى أكثر من بلد عربي بصرف النظر عن المآل الذي وصلت إليه هذه الثورات لأسباب كثيرة لم يكونوا مسئولين عنها.
تكون المشروع النظري « لصادق جلال العظم « من الأسس الكبرى للمادية الجدلية التاريخية التي طورها الماركسيون عبر أجيال وصولا إلى الماركسية التحليلية، ومن إسهام « مدرسة فرانكفورت « التي جددت الماركسية وأخصبها عبر التعامل بجدية بالغة مع مناهج ونتائج الجهد النظري والمعملي لمدارس التحليل النفسي والبحث الاجتماعي، وتأسست هذه الخبرة الثرية على معرفة عميقة ومدققة بالتراث الفلسفى العربي الإسلامي وتطوره التاريخي.
وتدلنا القراءة المتأنية لكتب وأبحاث هذا المفكر العظيم على أن معرفته هذه بتراث أمته فى شمولها وتوجهها النقدي، هي أعمق كثيرا جدا من معرفة هؤلاء المتاجرين بالدين الذين كفروه وقدموه للمحاكمة وطاردوه حتى آخر الدنيا ليموت فى الغربة، وفى هذه الغربة جرت ترجمة كتبه لعدة لغات.
ورغم أن العظم استمد عنوانا واحدا من أهم كتبه وهو « ذهنية التحريم « وعنوانه الجانبي سلمان رشدي وحقيقة الأدب استمد من سجاله العميق مع الذين بادروا لإدانة رواية سلمان رشدي « آيات شيطانية « وبعضهم لم يكن قد قرأ الرواية، والبعض الآخر قرأها حاملا أفكاره المسبقة، ومنطلقا من رؤية ضيقة تجعل من الدين معياراً للحكم على الأدب، وتفسر الأعمال الأدبية إيديولوجيا.. أقول إن العظم رغم ذلك قدم فى هذا الكتاب إضافة معرفية راقية دفاعا عن حرية الفكر والتعبير والاعتقاد التي تكافح من أجلها الشعوب وفى القلب منها مثقفون مبدعون ونقديون، وإن كانوا أقلية، وهو كشف الأقنعة التي يتقنع بها بعض المدعين وهم يمارسون بالوعي الزائف تناقضا صارخاً بين إدعاءاتهم وممارساتهم. وهم هؤلاء الذين يقدمون المبررات لقوى الظلام والإرهاب، وصفهم المفكر العربي والاكاديمي «عزيز العظمة» «بحراس الصمت» الذين يحصنون «ذهنية التحريم» القائمة على عقلية التجريم ومنطق التكفير وشريعة القمع، وهي الذهنية التي أطلقت حالة من الهياج باسم الدفاع عن الدين مما أفضى لقتل شيعة والتمثيل بجثثهم، وتحريك قضايا حسبة ضد مبدعين ومفكرين حتى وصل تجذرها فى عقول شبان محبطين ويائسين ويتلقون تعليما بائسا إلى الانخراط فى جماعات الإرهاب، ومعاداة المجتمع الذي همشهم ولفظهم.
ويبقى علينا دين كبير « لصادق جلال العظم « ولكل هؤلاء العظام الشجعان الذين تسلحوا بالمعرفة النزيهة، وانحازوا للاستنارة والتقدم، وللعدالة والحرية والكرامة الإنسانية أي للأهداف التي بلورتها انتفاضات الشعوب وثوراتها، ويتمثل هذا الدين فى إبقاء إنتاجهم الفكري حاضرا فى المجال العام ليفتح العقول والقلوب على أفق آخر نحو المستقبل الذي يهدده أصحاب « ذهنية التحريم « والذين يدعون أنهم حراس السماء.
لقد انخرط هؤلاء الشرفاء بإنتاجهم الفكري واختياراتهم السياسية فى الصراع من أجل الحرية والحياة، ولم يبخلوا بشئ رغم الظلم وركاكة الواقع وفساد الإعلام والتعليم، وليس أقل من اعتبارهم قدوة لأجيال جديدة إبتغاء مستقبل أفضل.