مانديلا، أيقونة المقاومة والصمود في القرن العشرين *


مرتضى العبيدي
2016 / 12 / 6 - 22:56     

"أنا متفائل بالأساس. ولا أستطيع أن أؤكّد هل أنّ ذلك من طبعي أم هل أننّي طوّرت ذلك فيّ. وممّا يجعل الإنسان متفائلا هو قدرته على أن يحافظ على رأسه متّجها نحو الشمس عندما يتقدّم بخطاه الواحدة تلو الأخرى"
نلسن مانديلا

رحل نلسون مانديلا فبكاه فقراء العالم في كافة أرجاء المعمورة لأنّ رحيله يمثّل خسارة فادحة في زمن قلّ فيه المناضلون من طينته. "النضال حياتي": تلك كانت مقولته التي ما فتئ يردّدها طوال حياته التي سخّرها لخدمة شعبه وقضاياه العادلة. خاض نضاله في ظروف ليست ككلّ الظروف، في وطن لم يكن مستعمرا بالمعنى التقليدي للكلمة كبقية الدول الإفريقية المجاورة، بل كان يخضع لسلطة أقلّية بيضاء هاجرت إليه من بلدان أوروبية عديدة وخاصّة من هولاندا واستقرّت فيه منذ القرن السادس عشر بل وقطعت صلتها بوطنها الأم واعتبرت نفسها صاحبة حقّ في تلك البلاد. وراحت تستغلّ خيراتها لفائدتها وتقصي بكلّ الأشكال أصحاب الأرض. فطوّرت سياسة عنصرية قائمة على التمييز بين الأجناس وعلى عزلها عن بعضها البعض ستعرف فيما بعد بسياسة الأبارتياد. ولم يكن المتضرّر من هذه السياسة غير السكّان الأصليين الذين كانوا بطبيعة الحال يشكلون الأغلبية الساحقة.
ومع مطلع القرن العشرين، هبّ شعب جنوب إفريقيا للنضال من أجل استرجاع سيادته على أرضه ومقدّراته فتكوّنت المنظمات والأحزاب من بينها بالخصوص المؤتمر الوطني الإفريقي سنة 1912 والذي يعرّف نفسه بأنّه "قوّة منضبطة من اليسار" والحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا الذي تأسّس سنة 1921. وإن عرف نلسن مانديلا بكونه أحد الزعماء التاريخيين للمؤتمر الوطني الإفريقي، إلا أنّه كان التحق في أوّل عهده بالسياسة بصفوف الحزب الشيوعي لجنوب إفريقيا الذي كان يخوض الصراع ضد سياسة التفرقة العنصرية التي كانت سياسة الدولة. وقد جاء في البيان الذي أصدره الحزب الشيوعي ونعى فيه الزعيم الوطني البارز والرئيس الأسبق لجنوب إفريقيا انه "عند اعتقاله في آب 1962 لم يكن نيلسون مانديلا عضواً في الحزب الشيوعي الذي كان محظوراً آنذاك فحسب، بل كان أيضا عضواً في لجنته المركزية. وقد أكّد ذلك بيان المؤتمر الوطني الإفريقي. وأضاف بيان الحزب الشيوعي " إنّ الرفيق مانديلا سيبقى بالنسبة لنا، كشيوعيين في جنوب إفريقيا، يرمز دائماً إلى المساهمة الهائلة للحزب الشيوعي في نضالنا التحرري. إن مساهمة الشيوعيين في النضال لتحقيق حرية جنوب إفريقيا يندر مثيلها في تاريخ بلادنا. وبعد إطلاق سراحه من السجن في 1990، أصبح الرفيق "ماديبا" (كما يسمى في قبيلته) صديقاً عظيماً وقريباً للشيوعيين حتى أيامه الأخيرة.
وفي سنة 1942، انضم مانديلا إلى المؤتمر الوطني الأفريقي، الذي كان يدعو للدفاع عن حقوق الأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا. لكن وبعد انتصار الحزب القومي في الانتخابات العامة لسنة 1948، وهو حزب الأقلّية البيضاء الذي كانت لديه خطط وسياسات عنصرية، منها سياسات الفصل العنصري ، وإدخال تشريعات عنصرية في مؤسسات الدولة. أصبح مانديلا قائدا لحملات المعارضة والمقاومة. وكان في البداية يدعو للمقاومة غير المسلحة ضد سياسات التمييز العنصري. لكن بعد إطلاق النار على متظاهرين عزّل في في مظاهرات عام 1960، وإقرار قوانين تحضر الجماعات المضادة للعنصرية، قرر مانديلا وزعماء المؤتمر الوطني الإفريقي فتح باب المقاومة المسلحة. فأسّس مع بعض رفاقه من الحزب الشيوعي منظمّة مسلّحة ستتحوّل فيما بعد إلى الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي الذي سيرأسه بنفسه. وبعد حظر الحزب الشيوعي سنة 1950 والمؤتمر الوطني الإفريقي سنة 1960، تعرّض نيلسن مانديلا إلى سلسلة من المحاكمات حكم عليه في أخيرتها بالسجن المؤبّد سنة 1964.
وخلال سنوات سجنه السبعة والعشرين، تحوّل مانديلا إلى رمز للمقاومة والصمود لا في جنوب إفريقيا فحسب بل في كافة أرجاء المعمورة، فأصبحت المطالبة بتحريره تعبيرا عن الرفض الدولي لسياسة التمييز العنصري المنتهجة في جنوب إفريقيا. وكانت رسائله المسرّبة من داخل زنزانته والموجّهة إلى رفاقه في المؤتمر الوطني الإفريقي تشحذ عزائمهم وتمدّهم بما يلزم من الإصرار والمقاومة، ولعل أشهرها تلك الموجّهة بتاريخ 10 جانفي 1980 والتي جاء فيها : "اتحدوا! وجهزوا! وحاربوا! إذ ما بين سندان التحرك الشعبي، ومطرقة المقاومة المسلحة، سنسحق الفصل العنصري"
وفي سنة 1985، عرضت السلطات العنصرية على مانديلا إطلاق سراحه مقابل إعلان وقف المقاومة المسلحة، إلا أنه رفض العرض وخيّر البقاء في السجن إلى أن فرضت المقاومة الشعبية الداخلية وحملات المساندة الدولية إطلاق سراحه يوم 11 فيفري 1990.
وهكذا تبدو وفاة مانديلا كنهاية حياة أحد أعظم ثوّار القرن العشرين الذين ناضلوا من أجل الحرية وضد جميع أشكال الاضطهاد في بلدانهم وفي العالم. لقد خسرت شعوب العالم برحيله مقاوما بطلا في سبيل الحرية ومن أجل إلغاء كل أشكال العنصرية والتخلّف والقمع والحروب. واجه سياسات الميز العنصري وانتصر عليها، فكان بمثابة المنارة التي أنارت الطريق لا لشعوب جنوب لإفريقيا فحسب، بل أمام كل الشعوب المضطهدة والثائرة ضدّ الظلم وفي سبيل الخلاص من نير الاستعمار والامبريالية وما خلّفاه ويخلّفانه من مآسي. وهكذا فإنّ نلسن مانديلا لم يكن قائدا لحركة التحرّر في جنوب إفريقيا ورمزا لوحدتها وانتصارها فحسب، بل كان كذلك قائدا أساسيا لحركة التقدّم والتحرّر في العالم ككل.
سيفتقده العمّال والفلاحون، سيفقده فقراء العالم والشعوب المحبّة للسلام كقائد مدافع عن حقوق الإنسان ومناصر للسّلم في وجه انتشار أسلحة الدمار الشامل ورافض للظلم في وجه جبروت الرأسمالية المتوحّشة.
ولعلّ خير ما نختم به هذا المقال بعض القولات الشهيرة لنلسن مانديلا تعطينا صورة أوضح عن فكر هذا القائد وحكمته:
1 ـ التسامح الحقّ لا يستلزم نسيان الماضي بالكامل
2 ـ العظمة في هذه الحياة ليست في التعثّر بل في القيام بعد كلّ مرّة نتعثّر فيها.
3 ـ إنّ الإنسان الحرّ كلّما صعد جبلا عظيما وجد وراءه جبالا أخرى يصعدها.
4 ـ الحرّية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إمّا أن يكون حرّا أو لا يكون حرّا.
5 ـ الجبناء يموتون مرّات عديدة قبل موتهم، والشّجاع لا يذوق الموت إلاّ مرّة واحدة.
6 ـ إنّي أتجوّل بين عالمين، أحدهما ميّت والآخر عاجز أن يولد، وليس هناك مكان حتّى الآن أريح عليه رأسي.
7 ـ إذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي اعتقلت فيها، فإنّني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها.
8 ـ إنّنا نقتل أنفسنا عندما نضيّق خياراتنا في الحياة.

* بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل نلست مانديلا، أعيد نشر هذا المقال الذي كتبته بالمناسبة