الربيع العربي والدواعش


محمد علي مقلد
2016 / 11 / 30 - 15:38     

الربيع العربي والدواعش
مبرر الجمع بين "الربيع" و"الدواعش" ليس، كما يبدو في الظاهر، انعكاساً لواقع الحال أو لما آلت إليه الأمور بعد سنوات قليلة على اندلاع الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج، بل تأكيد على صحة توقعاتي منذ اللحظة الأولى لأحداث تونس التي حق لها أن تحمل اسم الربيع، لنجاحات نسبية حققتها ثورتها، وأن تحمّله لما شابهها من الأحداث في العالم العربي، بالرغم من الاخفاقات المؤقتة التي منيت بها.
الفرضية التي يبنى عليها هذا النص تقوم، في شقها الأول، على أن ما حصل ويحصل في العالم العربي، والذي قد يستمر حصوله لسنوات طويلة، هو ثورة، بل هي الأولى، بالمعنى الدقيق للكلمة، بعد ثورة النبي محمد التي نشر فيها دعوته الاسلامية. كل ما عدا ذلك لم يكن سوى انتفاضات أو حركات تمرد أو حركات مطالبة بالسلطة، كثورة الزنج أو البابكية أو القرامطة، أو انقلابات في العصر الحديث بقيادة أصوليات يسارية أو قومية أو دينية، من سعد زغلول إلى عبد الناصر في مصر وأديب الشيشكلي وضباط حزب البعث في سوريا والعراق ومن جعفر النميري إلى عمر البشير في السودان، لا تعدو كونها تغييرات جزئية وموضعية، سلبية أحياناً وإيجابية أحياناً، من داخل المنظومة الحضارية والسلطوية ذاتها.
كنت توقعت أن تفضي مخاضات الأمة وقضاياها القومية إلى مثل هذه الثورة. ولم يكن ذلك من قبيل التنجيم، بل انبنى لبنة لبنة، على الصعيد النظري، خلال ما يزيد على عقدين من التعليم الجامعي كنت أبحث فيها في السؤال النهضوي الذي طرحه شكيب ارسلان، لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟ وكنت أعالج الإجابات الممتدة من أول حركة سلفية في العالم العربي، الوهابية، حتى آخرها، حزب الله اللبناني وداعش السوري العراقي، مرورا بسائر الحركات والشخصيات الاصلاحية، المهدية ، السنوسية ، الكاشانية، الخ. الأفغاني ، محمد عبده ، رشيد رضا، الكواكبي، طه حسين، شبلي الشميل، سلامة موسى،الخ. وصولاً إلى الاحزاب السياسية، من حزب الوفد المصري إلى سائر الأحزاب القومية والشيوعية وأحزاب الاسلام السياسي في العالمين العربي والاسلامي. وقد استنتجت أن ما يجمع بين أحزاب الأمة من نقاط التشابه أكثر مما يفرقها ويفجر الحروب بينها، فهي أغصان من شجرة الاستبداد ذاته، وهي نسخ متعددة من الأصوليات التي تبحث عن الحلول في النصوص المقدسة وفي بطون الكتب، وهي معادية للديمقراطية وترى في الآخر، أياً يكن هذا الآخر، عدواً لها، ويزعم كل منها أن في بنية قياداتها وإيديولوجياتها وبرامجها "قداسة" ما، تمنحها نوعا من العصمة وتحميها من الزلل، وتجعلها كلها كأنها "أحزاب الله"
من ناحية أخرى، على الصعيد العملي، أكدت الأحداث الممتدة من بدايات النهضة أن الإجابات المختلفة لم تكن صالحة لرسم خارطة طريق تفضي إلى إخراج العالم العربي من تخلفه المستديم، ولا كان تشخيص أسباب العلة دقيقاً. الحركات الدينية رأت العلاج بالعودة إلى الاسلام الصحيح، فأدخلت المسلمين ومن يعيشون داخل العالم الاسلامي في معضلة أشد وأدهى، بحثاً عن إي إسلام هو الصحيح، إسلام الاجتهادات المتعارضة والأحزاب المتناحرة؟ إسلام التنوير والمفكرين والفلاسفة أم اسلام المعممين وإبن تيمية أم إسلام السلف الصالح؟ الإيراني أم السعودي أم التركي أم الصومالي؟ إسلام العقل أم "ما قبل العقل" أم "العقل المستقيل" (الجابري). وحيث وصلت الحركات الدينية إلى الحكم لم تتجاوز برامجها "التنموية" موضوعي النساء والمشروبات الروحية، مستندين في ذلك إلى تفسيرات مغلوطة للنصوص.
الاحزاب القومية شخصت المرض بالاستعمار والعلاج بالتحرر منه، وقد أثبتت الوقائع حقيقة معاكسة تماما، وهي أن البلدان التي "استخدمها" الاستعمار "مقراً أو ممراً" كانت أكثر جاهزية للتطور والدخول في حضارة العصر من تلك التي لم يطأ الاستعمار أرضها، وأن البلدان التي تفاعلت مع الغرب الاستعماري كانت أسرع من سواها إلى الدخول في الحداثة ، وربما كان النموذج التونسي خير مثال على ذلك في تجربته التي سبقت الربيع أو في تلك التي تلت سقوط النظام القديم أيضاً. كما أثبتت أن العداء للاستعمار قد تلازم مع قيام أنظمة قومية استبدادية شمولية توسلت الانقلابات للاستيلاء على السلطة، وتحالفت مع المعسكر الاشتراكي من أجل "فك التبعية عن الاستعمار" وعن الغرب الرأسمالي، وتذرعت بالعداء للصهيونية فبالغت في الانفاق على جيوشها وعلى استعداء شعوبها. فلا هي حررت فلسطين ولا بنت الاشتراكية، بل وضعت بلدانها أمام خياري الاستبداد أو الحروب الأهلية. كما أثبتت أن الأوطان المستحدثة لم تتمكن من الحفاظ على المكتسبات التي تحققت أيام الاستعمار، ولا سيما على الصعيد السياسي، حيث سارعت القوى السياسية إلى إستعادة أنظمة الاستبداد والإطاحة ببذور الديمقراطية الفتية.
أما الاحزاب اليسارية فقد ركزت على الجانب الاقتصادي الاجتماعي، انطلاقاً من تفسير مغلوط لقانون العلاقة بين البنية الفوقية والبنية التحتية في الماركسية. ولئن لم تتمكن أحزاب شيوعية من الوصول إلى السلطة في العالم العربي، فهي تحالفت مع قوى قومية في الحكم أو تعاونت معها ، كما أنها استولت على السلطة في بلدان كثيرة من خارج المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، من أفغانستان واليمن في آسيا إلى أثيوبيا وبلدان أفريقية كثيرة، ولم تتمكن، لا في البلدان التي حكمتها مباشرة ولا في تلك التي دعمت الحكومات فيها، أن تقدم نموذجاً صالحاً لحل أزمة التخلف أو أزمة النهوض على امتداد أنظمة الحكم التي احتكرتها أو شاركت فيها.
وتقوم الفرضية، في شقها الثاني، على أن الثورة لا تكتمل إلا إذا ترافقت أو تتوجت بثورة سياسية، على هذا الأساس تسقط من التصنيف كل محاولات النهوض الاقتصادي والثقافي، مهما بلغت درجة نجاحها، إن لم يكن النهوض مصاناً بثورة في المجال السياسي قادرة على حماية الانجازات في سائر المجالات.
ليس هذا الاستنتاج مصادرة على المطلوب، بل هو مستخلص من تجربة الانتقال إلى الحضارة الرأسمالية في أوروبا. لقد انطلقت الثورة العلمية في كل أنحاء أوروبا، والثورة الاقتصادية بدأت في أنكلترا والبلدان المنخفضة، ومع ذلك فقد حظيت فرنسا بفضل السبق فاستحقت الحصول وحدها على شرف التسمية لأنها قدمت، على الصعيد السياسي، النموذج الجديد لنظام الحكم في الحضارة الرأسمالية وأمنت الحماية لمنجزات الثورات الثقافية والاقتصادية في سائر أنحاء أوروبا.
الدليل الثاني أوروبي هو الآخر. ذلك أن حركة الاصلاح الديني نجحت في الشمال الأوروبي بفضل الحماية السياسية التي وفرها الأمراء للحركة اللوثرية في ألمانيا والبلدان المنخفضة، وفشلت في جنوبه لأنه كان عليها أن تواجه الكنيسة والحكام معاً. أما في بريطانيا فقد كان نهوض الكنيسة الأنكليكانية (البروتستانية ) رهناً بتوفير غطاء ملكي أجاز لها التوسع والانتشار، حتى إذا رفع هذا الغطاء عنها تراجعت وانهارت وتعرض أتباعها للتنكيل وهاجروا وشكلوا، مع آخرين من شمال أوروبا، النواة الأولى للولايات المتحدة الأميركية التي حملت، في البداية، اسم انكلترا الجديدة، وكانوا جميعاً من أتباع الديانة البروتستانتية، من الناجين من الحروب الدينية في أوروبا.
يعتمد هذا النص منهجا مركبا. فهو يسعى إلى إعادة تركيب مصطلح الثورة الذي شوهته الانقلابات العسكرية المتنقلة بين بلدان العالم العربي، ثم إلى إثبات فرضية الثورة في النظام السياسي أو داخله أو عليه، مقابل كل التصورات المغلوطة التي شكلت الأساس لدى كل من التيارات الأصولية الثلاث، اليسارية والقومية والدينية، ولاسيما نظرتها الواحدة التي وضعتها في الخندق ذاته ضد عدو مشترك هو الحضارة الرأسمالية ومقوماتها، وخصوصا بنيتها السياسية وأنظمة الحكم المعتمدة فيها.
إما أن تكون الثورة ثورة في النظام السياسي وعلى النظام السياسي أو لا تكون. تلك هي المعضلة التي لم تجد لها الأصوليات حلا، لأنها غرقت في دوامة أو متاهة أو حلقة مفرغة. كلها حاولت أن تغير لكنها راوحت في مكانها حين اقتصرت الثورة عندها على استبدال سلطة بسلطة، وتوهمت أن من الممكن اختزالها بثورة ثقافية، دينية أو إيديولوجية، فأقحمت نفسها في ثنائيات مغلوطة حول التراث والحداثة والغرب والشرق والمادية والمثالية، والتقدم والتخلف، بحيث صار من الطبيعي أن تبدو تجاربها متباينة ومتنوعة على أكثر من صعيد، وتبقى متشابهة بل متطابقة في موقفها من قضيتي الديمقراطية وتداول السلطة.
إعادة تركيب مصطلح "الرأسمالية" ضرورة منهجية أيضاً لكي يستقيم بحث العلاقة معها كحضارة وليس كاستعمار فحسب. لذلك سنحاول أن نبين كيف أن حركة الاصلاح في العالم العربي ظلت قاصرة عن اللحاق بركب التطور لأنها تعاملت مع الوافد الغربي باعتباره غزوا حضاريا فحسب، متجاهلة حقيقة كون الحضارات كسباق البدل، ما إن تنتهي إحداها حتى تحمل الأخرى الراية.
وفي المنهج المقارن يمكن الاستفادة من تجربتين، الأولى هي الثورة الفرنسية التي شكلت النموذج الأول للثورات السياسية في الحضارة الحديثة، وحركة الاصلاح الديني اللوثرية في أوروبا الشمالية وعلاقتها بكنيسة روما، التي تمكنت من إحداث خرق هائل في جدار الجمود الكنسي السميك، وساعدت على تقديم صورة للدين المتأقلم مع التطور بدل دين الطقوس والجمود العقائدي وصكوك الغفران. لعل ذلك يفيد في تقديم صورة عن "دواعش" كنسية في القرون الوسطى وعن كيفية التعامل معها، وفي تفسير ظاهرة الدواعش الاسلامية ومآلاتها.
المقارنة بين القراءات المتعددة مفيدة هي الأخرى في توضيح الصورة. قراءة ثقافية للربيع العربي من أبرز رموزها أدونيس، كانت تعول على ثورة في الوعي، فيما عكفت قراءات اقتصادية من أبرز رموزها سمير أمين، فضلا عن اليساريين عموماً والشيوعيين خصوصاً،على قياس الأمور بمقاييس الصراع الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي. أما القراءات الدينية فظلت أسيرة مفاهيم ومصلطلحات سابقة على الثورة الحديثة المعرفية والفلسفية والعلمية، ولذلك استعصى عليها فهم أحداث الربيع العربي.
إذا كان من ضرورة لثورة ثقافية فهي لازمة بالدرجة الأولى على صعيد الدين، خصوصا وأن ظاهرة داعش قد أحدثت صدمة وارتباكا لدى الفقهاء والمؤسسات الدينية على حد سواء، وجعلت الوعي الشعبي يتجرأ على المطالبة بإعادة قراءة النص الديني والمساجلة معه لتكييفه مع المعطيات الثقافية الحديثة، مع ما يتطلبه ذلك من عدم اكتفاء بالسجال السياسي مع الأصوليات الدينية، والذهاب إلى ملامسة حواشي النصوص الدينية لإعادة النظر بمصطلح القداسة الذي اقتنص العاملون في الحقل الديني بعضا من وهجه، واستخدموه أداة للارهاب الفكري والاستبداد الديني، من غير التورط في نقاش فقهي لا يفيد الدراسة بل يبعدها عن مبتغاها.
مناهج البحث الأكاديمي لا توفر غير الإطار النظري، فيما ساهم الإطار العملي، البراكسيس، في تثبيت صحة الخلاصات، من خلال انخراطنا بمشروع يساري للتغيير، ومن خلال إعادة تقويم هذا المشروع غداة سقوطه، فأضيف إلى نقد الماضي، وهو ضروري بالمعنى الماركسي لرسم ملامح المستقبل، نقد التجربة الحزبية والشخصية بحاضرها الذي كان لا يزال ماثلاً أمامنا، ولم يتحول بعد إلى ماض. من غير الوقوع لا في الندم ولا في الأوهام، شكلت قسوة النقد الذاتي حصانة لقراءة تجارب الآخرين بالمستوى ذاته من القسوة، وللحؤول، بالتالي، دون رمي هذا النقد بتهمة الارتداد، خصوصا بعد ضياع البوصلة اليسارية وتشتت اليساريين في كل اتجاه.
مقدمة كتاب، هل الربيع العربي ثورة، الصادر عن دار ضفاف