فيدل كاسترو آخر حرّاس جزيرة القرم الفكرية


مزوار محمد سعيد
2016 / 11 / 26 - 20:55     


مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس الأميركي رقم أربعة وأربعون، شاهد العالم عودة العلاقات الدبلوماسية الأميركية-الكوبية، وقبلها تلك المصافحة الشهيرة بين الرئيسيْن الأميركي والكوبي، لكن ما أثار حفيظتي هي الكلمة التي ألقاها القائم بأعمال وزارة الخارجية الأميركية احتفالا بصعود العلم الأميركي في هافانا من جديد، ولقد كانت باللغة الاسبانية، لغة كوبا الرسمية.
لقد طرد الشعب الكوبي الامبريالية الأميركية والعولمة الغربية من قلب داره، وبعدما كانت هافانا معقل الفندقة الأميركية ومنتجعا ضخما لباتيستا ومن معه، حولتها سانتا لا كلارا إلى منبع المقاومة الحية، وآخر عرين لآخر أباطرة الفكر الحر، في بلد تنفس الفقر والجوع جنبا إلى جنب مع هواء الحرية والاستقلال معا.
لا يهمن في هذا المقام أن أنعي زعيما لثورة اشتراكية حكم شعبه بالحديد والنار، ولا يهمن كاسترو سليل تشي غيفارا، ولا يهمن ما أنجزه كاسترو أيضا على الصعيد النفسي والمعنوي، أو المادي والعضوي للأمة اللاتينية بأميركا الجنوبية بجانب تشافيز وغيره من الزعماء.
ما يهمني هو ارغام الأميركيين على الاعتراف ولو مجازا بـ: معجزة كوبية ماثلة أمام أعيني وأنا أراها تصمد أمام السيلان الهادر والجارف في عصر بلغت المعلومات مرتبة آلات الحرب واحتلت مكانة السوط الذي بامكانه اخضاع أي إنسان مهما بلغت قوة تحرره وتوقه إلى النجاة.
جلوس أميركا على طاولة المفاوضات مع كوبا حدث جلل، والتسليم بوجود أمة كوبية إسبانية الهُوية على مقربة من الحدود الأميركية أمر أكثر من جلل، لأنّ التاريخ لا تكتبه سوى الحروف، وكما يقال لدى الأميركيين: لا مجال لمواجهة من لديه برميل حبر.
سياسة ومكر الأميركيين الاحتوائية للأمم بدت ناجحة جدا لدى أكثر الشعوب عراقة وحضارة، كوريا احدى الأمثلة الآسيوية، مصر أحدى الأمثلة الأفريقية، ايطاليا احدى الأمثلة الأوربية العريقة، لكن حتى كتابة هذه الأسطر لا تزال كوبا، هذه الجزيرة الصغيرة مستعصية على الآلة الأميركية الرهيبة.
لا يجب عليّ أن أنساق نحو مشاعري التي تدعم كل وطنيّ مهما كانت جنسيته ولونه وموقعه، لكن ما يحدث على سلسلة الزمن هو واضح، أميركا تلتهم العالم قطعة قطعة، والعالم يبقى مقاوما في وجهها بدرجات ومستويات، وما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي سوى وجه آخر من أوجه مقاومة الوحش الأميركي رباعي الرؤوس كما ورد عند محمد حسنين هيكل رحمه الله.
أنا (مزوار محمد سعيد) لا أرى فيدل كاسترو رحمة الله عليه أنه محبا لشعبه، والسجون الكوبية شاهدة على ما أقول، ولا أرى فيه بطلا أسطوريا فما هو سوى بشر، لكن حبه وتبنيه لقواعد "السلفي" ماركس المنحازة إلى الفقراء والأفكار ولو بتعصب زائد عن اللزوم في مواجهة رغبات الإنسان نحو التملك والرفاه: هو أمر مثير للإعجاب والاحترام فعلا وقولا.
لقد مات آخر جنديّ مشارك في معركة "واتر لـو" العالمية، رحمة الله عليه، تاركا وراءه إرثا خالدا يجب الاعتبار منه بعد دراسته جيّدا.
أوّلا:
كاسترو له قيمة عسكرية، فالرجل نجا من مئات محاولات الاغتيال التي أدارتها أقوى أجهزة المخابرات العالمية وعبر أجهزتها المختلفة والمتشعبة، وله قيمة استراتيجية حيث أدار أزمة شاطئ الخنازير بتحكّم شديد وواضح.
ثانيا:
كاسترو له قيمة نفسية، فقد زرع في النفسية الجماعية للكوبيين النموذج الستاليني الصارم قبل رضوخه في أواخر حياته لمعتقدات تروتوسكي الأممية.
ثالثا:
كاسترو له قيمة ثقافية فقد أسس لحديقة أنجلو-فنكوفونية مناقضة لها تشمل الاسبانية والبرتغالية، وحاملة لثقافة ذات جذور مضادة تماما.

لقد كان كاسترو قيمة إنسانية بأخطائه ونجاحاته، حاول زعماء لأمم مختلفة تقليد وجوده الملفت في عوالم أخرى أحيانا تختلف كثيرا إلى حد التناقض، ومع ذلك نجح الرجل وفشل غيره.

رحم الله الرجل كاسترو فيدل.

[email protected]