كاسترو متعدد الوجوه : قراءه عاجله في صورته السياسية


فالح الحمراني
2016 / 11 / 26 - 17:41     


لم يكن فيدل كاسترو زعيما طارئا على التاريخ، انه ممثل حتى النخاع للعصر الذي عاش فيه، وعكسه باقتدار وحنكه. وهو ايضا وجه العصر. وان تفهم كاسترو يعني انك ستفهم ذلك العصر الذي عاشه بكل تعرجاته. لقد مثل بشخصة ردة الشعوب على قوى الاستغلال والاستعمار والاستهتار بحق الشعوب ونهب ثروتها وتعويم هويتها. تلك الردة المحفوفة في الواقع بإلاشكالية وشابها الكثير من الظلال، لأنها عدمت حرية الفرد واستبدلتها بحرية السلطة والحزب الواحد والراي الواحد، وتعاملت بقسوة مع الراي الآخر. فهل كان هذا هو الخيار الوحيد؟.
وفيدل كاسترو مثل لينين وهوشيه منه وماوتسي تونج وكيم ايل سونج ونهرو وعبد الناصر... من الباحثين عن بناء عالم عادل تتوافر فيه القيم الخالدة للانسان، وتوفير الحياة الكريمة. من تلك الاساطين التي تدرك بان الأولوية تكمن في ضمان الاولويات للانسان بحاجاته المادية بالصحة والتعليم والخبز ( بمعناه العام) وفرص العمل، ومن ثم انشغاله بقضاياه الملحة الاخرى كالحرية الفردية وحقوقه الانسانية التقليدية. ولكنها ايضا انزلقت لتأبيد تأليه القائد وفرض نظام شمولي يحتكرالحقيقة، ورفض الحوار، دعك عن النقد، ولو البناء، لبرامجها وتعاملها مع الانسان كحرية وصبوات لا نهائية. وتجلت كدين محافظ غير سماوي.
ان كاسترو تحول الى اسطورة، لانه كان صاحب موقف، وجابهة من دون تردد ولا خوف أعتى قوى في العالم، اي الولايات المتحدة الامريكية. واستطاع ان يكسب شعبه الصغير الى جانبه. فعلا ان شعب كوبا عانى من نقص المواد الغذائية والاستهلاكية، وتكيف لأوضاع الحصار المستديم، وتعلم ان يعيد انتاج ما هو متوفر، وقبل بالتخلي عن مغريات العصر، والعيش بكفاف، من أجل ان لا يهدر كرامته ولا احترامه لذاته، وصيانة اصوله. وهذه كانت دروس كاسترو، التي كلف تحقيقيها شعب كوبا ثمن باهض من المعاناة والحرمان. لكن العزاء بها انها كانت خيارات امة. في ظل حكم كاسترو حافظت الامة الكوبية على قدرتها على الابداع والانجاز، وعلى الروح المرحة المتفاؤلة. في ظل حكم كاسترو تحولت كوبا الى افضل مصحة في العالم، وتطور الطب الى افق لم يعهدها حتى العالم المتطور. والطبيب الكوبي غدا مطلوبا في كل مكان.وكان كاسترو يستنهض الامة لكل تحتفظ بعنفوانها، وان لا تخون نفسها وتستسلم وتقدم مقادريها للاكثر قوة اقتصادية و عسكرية. كانت الرهانات باهضة.ولم يقبل غالبية شعب كوبا ببدائل كاسترو!
وانسحبت صورة كاسترو على كافة بقاع العالم. في العالم الغربي تعرض من قبل المؤسسات الحاكمة للانتقاد والتشهير، بالذريعه او بالاحرى بالتهمة الجاهزة، انتهاك حقوق الانسان " المجردة". ولكن خلفيات ذلك التشهير والعدوانية، تكمن في كونه من بين اؤلئك الزعماء الذين سعوا الى الخروج من دائر القطب الغربي، وهيمنته متعددة الاشكال على الامم والشعوب، وملاحقته المتمردين، الذين كان كاسترو احدهم. بيد ان كاسترو وحتى في اوساط الراي العام في الغرب تحول الى رمز لقيادات الشعوب الساعية لتقرير مصيرها واستثمار ثرواتها والتمسك بهوايتها وموروثها الثقافي، مع ابقاء النافذة مشرعة للتفاهم والتفاعل مع الثقافات الاخرى. وتحول كاسترو الى اسطورة، حتى احيانا مبالغا فيها، في البلدان الساعية للعثور على طريق تطور خاص بها. وكانت صوره تلوح في كل مكان، موحية بالبدائل الوطنية للتقدم.
لقد انتهك كاسترو وهو زعيم الأمة التقاليد المرعية بالتعامل مع رئيس دوله. وكان متفتحا للحوار مع سكان بلاده، ومن السهل الوصول له. انه دائما في الشارع. دائما بجانب مواطنيه. وكل منا لديه صور عن كاسترو الذي يحصد قصب السكر. وبشهادة جان بول سارتر فان مشاركة الزعيم الكوبي في عمليات الحصاد لم تكن شكليه بقصد التصوير امام وسائل الاعلام بل كانت حقيقية، من الفجر وحتى الغروب. وكاسترو كان في مؤسسات الانتاج والرعاية الصحية، ويقف ساعات طويلة، حتى غدت للبعض ممله، امام الجماهير الغفيره ليشرح مواقفه.
هل كان كاسترو دكتاتورا، نعم. لكنها الديكتاتورية الناعمة، التي لم تلطخ تاريخها بالدماء والسجون المظلمة، ولا بالابادة للشعوب والتصفيات للمعارضة، مثلما عرفتها شعوب البلدان النامية ولا سيما الدول العربية، حيث الديكتاتوريات سطرت ومازالت " آيات وابداعات" من صفحات العسف والقتل والملاحقات بحق المعارضة السلمية في اغلبها. كان كاسترو من اؤلئك الزعماء الذين استهوتهم السلطة واستأثروا بها، وربما خدعوا انفسهم بانهم " القيادات الضرورة والتاريخية " التي تمتلك " صك" الانتقال بالامة الى مراحل الازدهار والحياة الكريمة وحمايتها من المعتدي والتعامل لخيرها مع التحديات.
سيحتفظ التاريخ بصور متعددة الوجوه لفيدل كاسترو. فهو وليد الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وظل حتى نهاية حياته مؤمن بموقفه المناهض لنهج سياسة الغرب، واحيانا كان وحيدا في المواجهة. وكان بهذا المعنى رمزا لحرية الامم ونيلها حق تقرير المصير وصيانة الهوية. وهو ايضا من اؤلئك الزعماء الذي رجحوا ان تحقيق تلك الأهداف النبيلة تتم في اطار نظام شمولي وصارم يعدم الحريات الفردية ويرفض النقد والبدائل، ويتعامل بقسوة مع المعارض بغض النظر عن نواياه. ربما ان رحيل كاسترو سيكون علامة فارقة في تاريخ الحريات والاستقلال، لربط استقلال الدول بحرية الانسان الشخصية وكرامته، وان تكون الدوله مؤسسة لخدمته وليس بالعكس.
• كاتب من العراق مقيم في موسكو